عرفت الأراضي الإيطالية ظهور واحدة من أطول الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، ففي روما التي قيل إنها قد أُسست في الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 753ق م، أقام اللاتينيون حضارة مزدهرة، ظلت قائمةً لما يقرب من اثني عشر قرنًا، حتى سقطت بشكل مروع على يد البرابرة الجرمان في الثامن والعشرين من أغسطس عام 476م.
أخذ الرومانيون الكثير من ملامح وسمات الديانة اليونانية القديمة، وطوروها بعدما دمجوا فيها الكثير من الاقتباسات المصرية والآسيوية، وكان المبدأ الحاكم في ديانتهم أنهم قد نظروا لآلهتهم على كونهم حماة يدفع المؤمنون أجور خدماتهم، وبالتالي فإن العلاقة نفعية بحتة، ولا تعتريها النفحات الروحية إلا في حالات قليلة ونادرة.
من جانوس إلى مارس: بانثيون الآلهة الرومانية
عرف الرومان عددًا كبيرًا من الآلهة، ورغم أن صور بعض تلك الآلهة كانت منبثقة -بالأساس- من طبيعة روما وظروف شعبها، فإن صور الأغلبية الغالبة منها، كانت مقتبسة من الصور النمطية للآلهة الإغريقية، وكما اعتقد اليونانيون بأن بانثيون آلهتهم يقع أعلى جبل الأوليمب، فإن الرومان بدورهم قد اعتقدوا أن هناك بانثيون ضخم يضم آلهتهم، تلك التي آمنوا بها وطلبوا منها الخير والبركة والنصر.
من أهم تلك الآلهة، الإله جانوس، إله المداخل والبوابات العامة، وكانت شارته هي المفتاح الذي يفتح الأبواب، والعصا الذي يستعمله البوابون لإبعاد المتطفلين، وقد أُطلق اسمه على –يناير– أول شهور السنة اليوليانية، وكان له دورٌ مهمٌ في بداية الكون، إذ اعتبره الرومان صاحب دور رئيس في خلق العالم، فهو رب الأرباب، وكان يشغل المنزلة نفسها التي شغلها الإله كايوس/ العماء في الدين اليوناني القديم.
أيضًا كان هناك الإله جوبيتر، إله السماء والبرق، والذي عُرف بامتلاكه لثلاث صواعق، الأولى يرمي بها كتحذير، والثانية يرمي بها كإنذار بعد أن يحصل على موافقة باقي الآلهة، أما الصاعقة الثالثة فهي صاعقة العقاب. بحسب ما نعرف، فقد بدأت عبادة جوبيتر كإله ريفي، ولكنه سرعان ما فقد وظائفه الريفية وأصبح حامي الدولة، والإله المحارب الذي يرمز إلى فضائل العدالة والصدق والشرف، وكان من المعتاد أن يجتمع الشيوخ تحت رايته لإعلان الحرب على الدول المعادية.
أما الإلهة جونو، فقد كانت أخت جوبيتر وزوجته، وقد لعبت نفس الدور الذي لعبته الإلهة اليونانية هيرا في الميثولوجيا الإغريقية، وكانت تظهر في البانثيون الروماني بصفتها إلهة النور، وإلهة الولادة، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن تحتل شخصيتها جزءً مهمًا من طقوس الزواج، فهي التي تقود العروس لمنزل زوجها، وكانت الزوجات العاقرات يلجأن إليها طلبًا للذرية والأبناء.
كما شغل الإله مارس وظيفة إله الحرب، وتذكر الأساطير أنه أبو رومولوس مؤسس روما، وكانت له أهمية كبيرة جدًا في الديانة الرومانية بوصفها ديانة شعب مقاتل بطبعه، وبما أن تطور روما وإمبراطوريتها كان مرهونًا –بالمقام الأول- بتفوقها في الحروب، فقد كان من الطبيعي –والحال كذلك- أن يشغل مارس مكانة مرتفعة في البانثيون الروماني.
أيضًا عرف المِخيال الديني الروماني مجموعة من الآلهة الأقل منزلة، ومنهم على سبيل المثال، الإله فولكان، إله الشمس والنيران، والإلهة مينيرفا، إلهة الحكمة، وحامية التجارة والصناعة والمدارس، والإله فاونوس، إله الخصوبة والزراعة، فضلًا عن الإلهة فينوس، إلهة الجمال.
من الملاحظات المهمة على طبيعة الديانة الرومانية، أنها لم تعرف آلهة جحيم عظيمة، كالإله هاديس عند الإغريق مثلًا، كما أن الدين الروماني لا يقوم على النعمة والمدد الإلهيين، بقدر ما يقوم على العناية المتبادلة بين الإله والإنسان.
ولشرح الطابع البراغماتي -النفعي- الذي انطبعت به الديانة الرومانية عبر تاريخها، يقول الباحث السوري فراس السواح، في كتابه موسوعة تاريخ الأديان “كان الرومان شعبًا عمليًا ذا مخيلة فقيرة، وسعوا لصياغة دين ينسجم مع حاجاتهم. كان من المهم بالنسبة إليهم أن يشعروا بالحماية من الأخطار التي تهدد المجموعة كما الفرد، ولكنهم لم يشعروا بأي حاجة باطنية لمحبة وعبادة القوى فوق البشرية التي كانوا يلجؤون إليها ويطلبون معونتها. كانت آلهتهم حماة تدفع أجور خدماتهم، وفي حال الفشل كانت الأجور تُمنع عنهم؛ أعطيك ما تعطينيه. هذا هو نص اعتراف الإيمان الذي يمكن للمرء أن ينقشه فوق على مدخل البانثيون الروماني“.
من هنا يمكن أن نفهم السبب الذي سهل من إقحام عدد كبير من البشر في منظومة المعتقدات الإلهية، فعلى سبيل المثال نجد أنه بعد نجاح أوكتافيوس/ أغسطس في تأسيس الإمبراطورية، فإن عبادة الأباطرة قد بدأت في الظهور بأشكال متفاوتة، كما عرف الرومان بعض النظريات التي تبرر عبادة هؤلاء الأباطرة، ومنها النظرية التي قال بها يوهيميروس في القرن الثالث الميلادي، وملخصها أن الآلهة أنفسهم كانوا قبل ذلك بشرًا عاشوا على الأرض، ومن ثم فليس من العجيب أن ترتقي شخصيات بشرية لمصاف الآلهة.
سيبيل، وإيزيس، وباخوس: عندما رحبت روما بالمعبودات الأجنبية
من الملامح المميزة للديانة الرومانية، أن الرومان قد حافظوا إلى حد بعيد على المفاهيم الدينية التي عُرفت عندهم منذ القدم، وإن أضافوا إليها الكثير، بما اقتبسوه من الأساطير الإغريقية، وغير ذلك من الثقافات التي تفاعلوا معها في سياق المد الإمبراطوري التوسعي في قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا.
على سبيل المثال، في 217 ق.م، وفي ذروة الحرب البونية الثانية –تلك التي اندلعت بين روما وقرطاجنة-، تعرضت روما لخطر هائل، بعدما اقتربت منها جيوش القائد القرطاجني الأشهر هانيبال، الأمر الذي حدا بأهل المدينة للتوسل بكافة الآلهة المعروفة حينذاك، وكانت الإلهة سيبيل -الأم الكبرى لآسيا الصغرى- واحدة من أهم تلك الآلهة، وتذكر بعض الحوليات التاريخية أن عددًا من كهنة سيبيل قد وعدوا أهل روما بأنهم سيتخلصون مما حاق بهم من أخطار إذا ما عبدوا إلهتهم العظيمة، الأمر الذي شجع بعض السفراء الرومان للسفر إلى مدينة بيسنوس -المقر الدائم لعبادة سيبيل- فزاروا معبدها، واحضروا معهم رمزها -وهو عبارة عن حجر أسود اللون- إلى روما، وبعد ذلك قُدمت القرابين لسيبيل بكل احترام وتبجيل. في السياق نفسه دخلت الآلهة السورية آنارغاتيس إلى الأراضي اللاتينية منذ القرن الثاني قبل الميلاد، كما عرفت روما شعائر التنجيم الشرقي التي تربط حركة النجوم والكواكب والأفلاك بمصائر الناس وأقدارهم.
من جهة أخرى، رحب الرومان بالديانات والمعبودات المنتشرة حولهم، فاقتبسوا عبادة إله الخمر والعربدة الجنسية ديونسيوس/ باخوس من جنوب إيطاليا، وانتشرت عبادة المعبودات المصرية الشهيرة –إيزيس وسيرابيس– في روما، عن طريق صقلية وجنوب شبه الجزيرة الإيطالية، وبدأت تلك العبادة في أول الأمر بين العبيد والمحررين، ولكنها انتشرت بعد ذلك في كافة أنحاء إيطاليا، لدرجة أن الإمبراطور كاليغولا قد شيد بنفسه معبدًا كبيرًا لإيزيس؛ أما عبادة الإله الفارسي ميثرا، إله النور، فكانت آخر ما ظهر في روما قبل الميلاد، وتمتعت بقدر كبير من الأهمية والاعتبار، قبل أن يغير الرومان وجهتهم ويتخلوا شيئًا فشيئًا للمسيحية.
تأسيس روما: من إينياس إلى رومولوس
لم تكن روما مجرد مدينة مهمة ضمن عشرات المدن العظمى المنتشرة في شتى أنحاء الإمبراطورية الرومانية الواسعة، بل كانت في حقيقة الأمر، مركزًا لإثبات هوية الإمبراطورية، ومعلمًا للحضارة اللاتينية القديمة، تلك التي امتزجت في بوتقتها تعاليم الدين وأساطير الميثولوجيا. من هنا فلم يكن من الغريب أن تحظى قصة تأسيس روما بمكانة متفردة في الأدب اللاتيني القديم، وأن تحظى قصة هذه المدينة العظمى بقدر هائل من الزخم الملحمي البطولي.
يمكن التأكد مما سبق بالرجوع لأحداث القرن الأول قبل الميلاد، في الحقبة التي شهدت البواكير الأولى للإمبراطورية، عندما نجد أن أوكتافيوس، أول أباطرة روما والذي حمل لقب أغسطس -بمعنى المهيب-، قد قام بتشجيع الشاعر العظيم فرجيل، ليكتب الأخير ملحمته العظيمة المُسماة بالإنيادة، في سبيل تخليد ذكرى السلف الأول من الرومان.
بحسب ما ورد في الملحمة، فإن البطل الطروادي إينياس، كان أحد أقرباء الملك بريام ملك طروادة، وبحسب الأساطير كان إينياس ابنًا للإلهة أفروديت، وقد لعب دورًا مهمًا في القتال ضد جحافل اليونانيين الذين ورد ذكرهم في إلياذة هوميروس.
بعد أن اجتاح اليونانيون طروادة، حمل إينياس أباه الجريح على كتفه، وقاد مجموعة من أقربائه ليركبوا إحدى السفن الراسية على الساحل الطروادي، حيث تمكنوا من الفرار من المدينة المُدمرة، وتتحدث الأسطورة أن السفينة قد أبحرت في البحر الهائج، وتمكنت من الإفلات من قبضة الأمواج العاتية مرارًا، حتى رست في نهاية المطاف في إحدى البقاع النائية على السواحل الجنوبية للبحر المتوسط، تلك البقعة كانت المكان الذي سيشهد فيما بعد تأسيس مدينة قرطاجنة العظيمة، المنافس الأول لروما لعشرات السنين.
بحسب فرجيل، فإن إينياس التقى في تلك البقعة بابنة ملك صور الفينيقي، المُسماة بإليسا أو ديدو، وسرعان ما وقعا في حب بعضهما بعضًا، واندمج الطرواديون في العمل مع الفينيقيين في بناء مدينة قرطاجنة، ولكن الآلهة اليونانية تغضب من ذلك الموقف، وتأمر إينياس بمغادرة ذلك المكان، لأن قرطاجنة ليست المدينة الجديدة التي ينبغي عليه أن يقوم ببنائها. تحدثت الملحمة بعدها عن الألم الذي اعتصر فؤاد ديدو لما أخبرها حبيبها إينياس بأنه مضطر للمغادرة، وكيف اختارت أن تقتل نفسها حرقًا مع جثث الموتى، بينما أبحر إينياس وأقرباؤه مرة أخرى نحو المصير المجهول.
يستكمل فرجيل ملحمته، بأن إينياس قد وصل إلى ساحل إيطاليا الحالية، وقابل الملك لاتيوم، الذي اُقتبس من اسمه لفظ اللاتين فيما بعد، كما تذكر الإنيادة أن إينياس قد تزوج من لافينيا ابنة لاتيوم، ودخل في معارك عديدة ضد خطيبها السابق ترنس، وتمكن من الانتصار عليه في نهاية المطاف، وورث العرش قبل أن يقضي نحبه في أحد المعارك بعد أن عهد بالحكم من بعده لابنه أسكانيوس.
القصة الأسطورية للبطل إينياس لم تكن الذكرى الوحيدة التي ارتبطت بروما، بل سرعان ما ظهرت أسطورة أخرى لتكمل سيرة تلك المدينة المقدسة، ونقصد بها أسطورة الأخوين رومولوس ورموس، والتي وردت في تاريخ المؤرخ اليوناني بلوتارخ في القرن الثاني بعد الميلاد. بحسب تلك الأسطورة، وفي القرن الثامن قبل الميلاد، وبعد انقضاء ما يقرب من ثمانية أجيال على حكم إينياس، فإن نوميتور حفيد البطل الطروادي كان يتولى حكم مدينة ألبالونجا، ولكن أخاه الشرير أموليوس، قام بالاستيلاء على العرش، وقتل الابن الوحيد لنوميتور، بينما أجبر ريا سيلفيا ابنة نوميتور، على أن تصبح كاهنة وأجبرها على أن تحتفظ بعذريتها للأبد، حتى لا يأتي من يطلب الانتقام أو العرش من نسلها فيما بعد.
بحسب القصة المشهورة، فإن ريا سيلفيا قد ذهبت يومًا ما للحصول على المياه من أحد البساتين المقدسة التي يحميها الإله مارس، وهناك شاهدها الإله مارس -وفي بعض الروايات يحل البطل اليوناني هرقل محل الإله مارس- فأعجب بها، واغتصبها على الرغم منها، فحملت منه بولدين؛ هما رومولوس ورموس، وعندما علم أموليوس بالواقعة، عزم على قتل الوليدين، فسلمهما بمجرد ولادتهما إلى أحد الخدم حتى يقضي عليهما، ولكن الخادم الطيب أشفق على الرضيعين، فوضعهما في سلة وتركهما لمصيرهما في نهر التيبر. بحسب الأسطورة المتواترة، فإن إحدى الذئبات قد قامت بإرضاع الطفلين، بينما قام طائر نقار الخشب بإطعامهما، وبعد فترة عثر عليهما أحد الرعاة، فأخذهما إلى منزله ورباهما لسنين طويلة حتى أصبحا شابين قويين.
بعد ذلك تصل القصة إلى ذروتها، عندما تحكي عن دخول الشقيقين في معركة ضد أموليوس، وكيف أنهما قد هزماه، وأعادا العرش المُغتصب إلى جدهما نوميتور، قبل أن يقوم رومولوس بتأسيس مدينة روما في اليوم الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 753 ق.م.
رغم شهرة تلك القصة في الأوساط الإيطالية، فإن المؤرخ الأميركي ويل ديورانت قد عمل على تحليلها وتفنيدها في كتابه الشهير “قصة الحضارة”، فكان مما قاله في هذا السياق “لم يكشف علم الآثار شيئًا يؤيد هذه القصص التي تُروى عن نشأة روما وعهدها الأول؛ ولعل في هذه القصص شيء من الحقيقة، فليس ببعيد أن يكون اللاتين قد أرسلوا نفرًا منهم ليشيدوا مدينة روما لكي يتخذوها حصنًا يقيهم شر التسكان –عنصر بشري كان يعيش بالقرب من اللاتين- الذين كانوا يوسعون رقعة بلادهم في ذلك الاتجاه”.