لماذا ينشيء النظام عاصمة إدارية؟ لماذا تتقدم إزالة البؤر العشوائية مشروعاته القومية في حين لا يأخذ بذات الجدية مشروعات لها أولوية وطنية كبرى كالتصنيع؟ لماذا هذا العداء ـ مثلما يصفه البعض ـ للشجر المنتشر بشوارعنا؟. لماذا كل هذه الكباري التي أصبحت في كثرتها مادة للسخرية؟ لماذا المونوريل بكلفته الباهظة في ظل أوضاع اقتصادية بالغة السوء؟ أسئلة تدور في الفضاء الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي من وقت لآخر دون أن تحظى بإجابة مقنعة، وهو ما يشرعن أي جهد يتلمس حقيقة الأمر.
يمكن تقديم إجابة مباشرة على الأسئلة المطروحة وإن كان هناك خيار آخر يحمل في طياته حكاية تنتمى إلى مبتدأ تاريخنا الحديث، وتفضيلي للخيار الثاني يعود إلى أن الحكاية تضفي بعدا مهما للإجابة.
في سنة 1828 راسل الفيلسوف الأمريكي جيريمي بنتام محمد علي باشا، كتب إليه بنتام “لقد حزت سلطة عظيمة… إلا أنه لا يزال يتعين تحديد الخطة” وخطة بنتام حملت تصورا لإرساء تقنيات جديدة في الحكم، وضمن هذه المساعي عمل جون بورنج مساعد بنتام مستشارا لمحمد علي.
تمثلت هذه الخطة في “البانوبتكيون“، ذلك التصور الهندسي الذي وضعه بنتام لسجن يشبه في تكوينه الهرم، تتخذ قاعدته شكل الدائرة حتى يتمكن الناظر (الشرطي) من قمة الهرم رؤية القاعدة، التي تحتلها غرف السجناء، ليتيح هذا التصميم رؤية شاملة وواضحة للشرطي دون أن يتمكن النزلاء من رؤيته، ولأن الناظر غير مرئي فإن السجناء يفترضون دائما أنهم تحت المراقبة.
جاء البانوتيكون كابتكار كولونيالي يسمح بممارسة جديدة للسلطة، فهو ليس مجرد نموذج لسجون أو مؤسسات انضباطية أخرى مثل المدارس والمستشفيات، إنما هو نموذج لمجتمع منظم ومنضبط، ليؤسس الابتكار الكولونيالي ـ وقتذاك ـ عبر تطبيقاته إلى عملية سياسية تخدم التحول الرأسمالي بمصر.
في إطار تلك الرؤية اتخذت الحكومة إجراءات تناسبت والنظام الجديد الذي بدأ تطبيقه على مؤسسة الجيش مع عشرينيات القرن التاسع عشر، ليحقق “النظام” نجاحا كبيرا، ومن تطبيقاته المتعددة آنذاك كان مشروع “إعادة بناء قرى مصر” وفق تصور قريب الشبه إلى حد بعيد من مشروع العشوائيات.
بدأ الأمر من قرية كفر الزيات، حين أشرف عدد من المهندسين الفرنسيين على بناء بيوت جديدة تتبع ثلاث نماذج سكنية، تتحرى الحالة الاجتماعية وعدد أفراد الأسرة. أتاح المشروع معرفة أفضل بسكان تلك القرى، فسبق البدء في إعادة البناء جهد إحصائي شمل حصر عدد السكان وحجم مواشيهم والصناعات التي يعملون بها، بهذا مثل “إنتاج الوضوح الإحصائي” هدفا مهما من أهداف المشروع، كون هذا الوضوح أداة من أدوات السلطة، بما وفره من سيطرة أفضل على سكان القرية (وقرى أخرى) كما أتاح المشروع فرصة أكبر للتنسيق بينهم في سبيل زيادة إنتاجيتهم، بما يخدم أيضا أهداف السلطة.
مثلت القرى المستهدفة بالأمس كذلك العشوائيات اليوم مساحات جغرافية معتمة، تكبح سلطة الدولة، فالعشوائيات المنتشرة بالمدينة والمتاخمة لها تحجز الحركة السريعة، كذلك الانتشار(وهذا من أبرز الأسس التي تقوم عليها البنية العسكرية ويفسر عامل السرعة الاهتمام البالغ بإنشاء الكباري والمونوريل)، كما يعيش أهل العشوائيات وفق أسلوب حياة خفي، يتمنع على المراقبة، وهذه النقطة تفسر كذلك عداء السلطة للشجر المنتشر عبر الشوارع؛ لأنه يحجب الرؤية ويمنع المراقبة (من خلال الكاميرات).
انتظم مشروع “إعادة بناء قرى مصر” ضمن إطار عام أو بنية عسكرية، ميزت السياسة الكولونيالية، التي التزمت “إنتاج الوضوح الإحصائي” والتأسيس لمنهجية تستهدف الاحتواء، ضمت القضاء على العشوائية، سمة لا تسمح بها العسكرية وتعتبرها نذير خراب، كذلك اهتمت تلك البنية بإنتاج السرعة وتيسير المراقبة، ما يعظم من السلطة. كانت البنية العسكرية هي “الخطة” كما حددها بنتام.
ضمن هذه الخطة جرى إنشاء عدد من المدارس (1847) تتبع نسقا انضباطيا صارما، جرى استلهامه من مدارس “لانكستر” بانجلترا، وبحسب نظامها المتبع يتنقل الطلبة ضمن نسقها الانضباطي من مهمة إلى أخرى، مع ضبط كل حركة وتنظيم للوقت تنظيما دقيقا بحيث ينشغل الطالب دوما بمهامه، وكان غرض النظام تخريج أفراد ملائمين لمجتمع منضبط .
واكب تلك الفترة توافد السان سيمونيين (حركة سياسية واجتماعية شارك أتباعها في الثورة الفرنسية وءامنوا بمبادئها، فدافعوا عن الحريات ومساواة الرجل بالمرأة ورأوا في الصناعة والتعليم الأساس لنهضة أي مجتمع) على مصر للمساهمة في مشروع التصنيع، لكن جهودهم لم تلاق نجاحا كبيرا بسبب توجس محمد علي من أفكارهم، من ثم عادوا إلى فرنسا.
هناك دعوا إلى فكرة المعارض العالمية، معارض تؤمها جميع الأمم لعرض منتجاتها الصناعية، جاء المعرض بمثابة دعوة إلى الفرجة على أحدث ما وصل إليه الإنسان، وواكب تلك المعارض مؤتمرات للمستشرقين (انطلقت في عام 1873)، اهتمت بإقامة عروض تتضمن محاكاة للبلدان الشرقية في شوارعها ومبانيها وأزياء أهلها وفي كل تفاصيلها، وقد راعى القائمون عليها الدقة البالغة في التصوير.
أن تراقِب ولا تُراقَب مثل جوهر تلك الرؤية الكولونيالية، رؤية يمكن أن تقع عليها في مشروع العاصمة الإدارية، مدينة تشرف على القاهرة، تتسلط عليها لكن في ذات الوقت منفصلة عنها.
قدمت المعارض العالم بوصفه صورة، أو بالأحرى وفق تعبير هيدجر، قدمت العالم بوصفه معرضا، ومثلت المعارض نسخا مطابقة لما تصوره، وحين زار وفد مصري باريس في طريقه إلى المؤتمر الثامن للمستشرقين بستوكهولهم (1889)، بغرض رؤية معرض المدينة العالمي تعجبوا من دقة التصوير.
مثًّل المعرض شارع من شوارع القاهرة المتعرجة يتخلله مسجد قايتباي وعدد من البيوت المتهالكة، وازدحم الشارع ـ مثل كل حواري المحروسة ـ بالمحلات التي تبيع العطور والفطائر..، بينما ارتدى الفرنسيون ملابس مصرية، متجولين في السوق على ظهر حمير جلبت من القاهرة، وجرى التعامل داخل الجناح بالنقود المصرية.
هذه الواقعية أُعدت وفق نظام صارم، تهيأ فيه كل شيء لزائر أو مراقب يحتل مركز الشارع (الذي ينتمي إلى عالم آخر غريب عن الزائر) في حالة من الانفصال (انفصال المشاهد عن المعروض)، حالة تجسدت أيضا في علاقة المعروض وما يمثله (الواقع المصري).
وحين زار المستشرقون من كتاب ومؤرخين ورسامين ومصورين فوتوغرافيين وحتى السائحين العاديين القاهرة، انصب اهتمامهم على إيجاد “موقع للنظر” يرصدون من خلاله المدينة أو يشكلونها كمشهد بانورامي يشبه ما كانت تقدمه المعارض.
كانوا حريصين على معرفة العالم الشرقي من موقع منفصل، موقع خارجي، يتيح لهم المراقبة دون أن يُراقبوا، ويذكر تيموثي ميشيل أستاذ دراسات الشرق الأوسط أن مستشرقا شهيرا مثل إدوارد لين (1801 ـ 1867) عند إقامته في مصر ولكي يرى دون أن يُرى تظاهر بالإسلام وتزيا بأزياء أهل البلد حتى يكتسب ثقتهم ويتاح له مراقبتهم دون أن يراقبه أحد، “أن يرى المرء دون أن يُرى، فذلك يؤكد انفصاله عن العالم ويتطابق في الوقت نفسه مع موقع سلطة”.
الانفصال عن “الموضوع” وأن تراقِب ولا تُراقَب مثل جوهر تلك الرؤية الكولونيالية، رؤية يمكن أن تقع عليها في مشروع العاصمة الإدارية، مدينة تشرف على القاهرة، تتسلط عليها لكن في ذات الوقت منفصلة عنها، يرى أهل العاصمة الجديدة أو بالأحرى أصحاب السلطة فيها القاهرة وأهلها لكن أولئك لا يرون حكامهم في تلك المدينة البعيدة.
هذه العاصمة كذلك مشروع العشوائيات، إزالة الأشجار بالشوارع، الكباري، المونوريل ترمز لأولويات يضمها منطق كولونيالي، يقوم على إعادة تنظيم المكان وعزل أفراده وتوزيعهم وتنسيق حركاتهم ووضع سجلات عن أدق أمورهم وتوفير سبل السرعة باعتبارها واحدة من أهم أدوات السلطة، ورغم أن هذه التوجهات جوهر أي سلطة حديثة، لكن الانحياز لتلك التوجهات وإهمال غيرها يُثبِت الحكم التاريخي لها “الكولونيالية”، نمسي بذلك ـ مرة أخرى ـ في مواجهة أجندة كولونيالية.
اقرأ أيضا: هو السؤال حُرُم؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.