سبقت كتابة هذا المقال الكثير من الترددات التي جعلتني أقلع عن التعبير عن رأيي فيها لاعتبارات تافهة لصوت التطرف الديني أو لتلك التشوهات اللادينية التي تتجه بشكل متطرف لإضمار الكراهية لخلفيتها الثيولوجية. أحتاج أن أقدم هذا التوضيح في بداية الأمر لحمل العذر الذي يجعلني أعبر عن رأيي بهذا الكم من الخوف لأقول بأن المشكلة تقع هنا.
في هذا المقال الذي قد يطول إلى حدٍ ما؛ سأتناول الحسين بن علي من زوايا عدة؛ من زاوية نقدية تجرد هذه الشخصية من الكثير من الاعتبارات التي قد تسيء له أو ترفع من شأنه حسب ظن بعض المسلمين. الحسين بن علي، هذه الشخصية التي درستها مطولًا بحثًا عن معنى للرمزية التي خلفها مقتله على التاريخ الإنساني والاعتبارات الرمزية في حقيقة شخصيته.
قبل ذلك، نحتاج للفهم بأن الحسين بن علي شخصية ميثولوجية موجودة في هذا الإرث الإنساني، بغض النظر عن الموقف الذي تحمله تجاهه؛ فهو لن يتجاوز موقفك الذي تحمله تجاه زيوس أو أثينا كآلهة يونانية. الفارق هنا هو أن التأثير الذي تركته شخصية زيوس أصبح محتكرًا في سياق الإرث الحضاري دون تأثيرات اعتقادية أو سياسية على حياتك اليوم، وهو ما ستنتهي له شخصيات التراث الإسلامي أيضًا بالتقادم.
يظهر الحسين هنا في المخيلة الدينية كنصف إله، وثوريًا في الساحة النقدية ورجلًا عاديًا خسر معركة للمطالبة بالسلطة المورثة له بالنسب في الرؤية اللادينية، ومارقًا في عين السلفية مع استحياء عن التصريح بذلك والاختفاء وراء تناقضات حكمية مائعة. فمن هو الحسين بن علي؟
لماذا خرج الحسين؟
عند ذكر الحسين بن علي، ترتبط الذهنية الإسلامية بحادثة كربلاء. الحسين ابن فاطمة ابنة النبي الوحيدة كما في المصادر الشيعية، أو الابنة الأخيرة له في المصادر السنية، ما يجعل حياته وشخصيته تحظى بهذا الاهتمام ليس ولادته أو حياته؛ وإنما موته ومعركته مع يزيد. اللحظة التي قرر فيها أن يعلن الثورة بوجه الخليفة الجديد، ومنها تظهر أبعاد شخصية سبط النبي.
في البداية؛ إن بحث مسألة الصراع السياسي الذي قاد لخروج الحسين للعراق قد يبدو للوهلة الأولى بأنه صراع متعلق بنكث معاوية لاتفاق الصلح مع الحسن بن علي، الأخ الأكبر للحسين. لكن البحث أكثر في علة الخروج ينتهي لمسارات مختلفة من الأجوبة التي قد تتناقض كثيرًا.
وفي سياق بحث أسباب خروج الحسين بن علي، يتجه المحققون والمؤرخون والمفكرون اتجاهات عقائدية أو تاريخية بحتة أو نفسية. الاتجاه العقائدي هو الاتجاه الذي تمارسه المؤسسة الدينية الشيعية في تقديم موكب الحسين في صورٍ غنية بالعاطفة وفقيرة إلى المنطق. وهي إجابات تتماثل إلى حدٍ كبير مع الرؤية المسيحية للتضحية الإلهية.
أحد هذه الرؤى الدينية لأسباب الخروج، تقدم الحسين كما المسيح، تضحية ضرورية لا مفر منها لإنقاذ الدين والبشر. موته كما هو المسيح، إلا أنه لم يكن للغفران هنا، ولكن للفداء. تختلف التأويلات والنصوص لهذا التصور الديني الخاص بالخروج والحاجة الإلهية لوجود قربان بشري من أساسه، إلا أنها تتفق في أن موت الحسين كانت رغبة إلهية يجب أن يمتثل الحسين لها.
تتخلص هذه الرؤية من أعباء الخذلان والمحاكمة النقدية لمدى صوابية وعقلانية رجل يخرج للموت بهذه الطريقة، ويرفض الاستسلام من أجل البقاء.
رؤية دينية أخرى ترى أن خروج الحسين كان تكليفًا يحتم عليه أداءه، وليس باعتباره قربانًا يحتاج الله في الملكوت ذبحه لدفع ضرر أو جلب منفعة على البشر هو من يقدرها. وهنا لا تستطيع الفرار من نقد عقلانية قرار الخروج والتضحية بهذه الصورة التي انتهت إليها معركة كربلاء، فيقوم هذا التصور بتقديم العلل والدوافع التي حدت بالحسين للخروج إلى العراق بالاعتماد على الدعوات التي تلقاها من قبائل الكوفة وأنصاره في البصرة.
هذه الرؤية هنا تنفي عن الحسين بن علي مسألة الولاية التكوينية التي تجعله في منزلة الكائن اللاهوتي وتقدمه كبشر يحسب احتمالات وفرص نجاحه ويتخذ على ضوئها قراراته. لكن للأسف؛ فالتيار السياسي الشيعي الذي يتبنى هذه الرؤية يقع أيضًا في ذات التناقض، بتقديم الإمام كصاحب ولاية تكوينية ويمتلك علم الغيب، باختلاف حول درجته، وهو ما لا يتفق مع تصديق الحسين لدعوات أهل الكوفة.
وفي كل الأحوال، تنتهي مسألة ادعاء رغبة الحسين في الموت؛ سواءً بالتصور الذي يراه قربانًا إلهيًا، أو ذاك الذي يراه تكليفًا، بالروايات التي تتناقض مع هذا الطرح؛ حيث طلب الحسين من عمرو بن سعد قائد جيش ابن زياد، ومن الحر بن يزيد قبلها تركه وشأنه ليذهب لبلاد العجم أو أية بلادٍ أخرى بعيدًا عن صراعات العرش مع يزيد، وهو ما رفضه جيش ابن زياد إلا بأخذ البيعة ليزيد من الحسين بن علي.
في محاولة أكثر موضوعية، وإن كانت غير متحللة من موقف عقائدي مسبق، قام بالتسليم بها فرضيات أساسية في دراسته، يقدم المحقق الريشهري في موسوعة الإمام الحسين دراسة لمهدي المهريزي تلقي بالضوء إلى حدٍ يمكن أن يوفر تصورًا حول دوافع الحسين في الخروج، سنضعها في سياق أنسنة أو تأليه الحسين في اختيار النظرية الأكثر موضوعية في رواية الخروج.
هل كان الحسين مصيبًا في قراره؟
خروج رجلٍ في معركةٍ خاسرةٍ من بدايتها تبدو غير عقلانية؛ وخصوصًا حين يفشل في استقطاب أنصارٍ من حوله لمواجهة أقوى رجلٍ في الدولة الإسلامية، ومن يدين ولاة الأمصار له بالولاء. إلا أنه وبغض النظر عن الفرضية الاعتقادية التي يطرحها المهريزي كمقدمات نظرية للدراسة التي يبحثها حول أسباب خروج الحسين بن علي، يقدم تحقيقًا تاريخيًا يلخص النظرة التاريخية الشيعية باختلاف تصوراتها حول دوافع خروج الحسين بن علي.
تتعدد نظريات الخروج للحسين في التصور الشيعي لرؤى مختلفة مع بعضها ومتضاربة، ويقوم بعضها على مقدمةٍ عقائدية لتحقق النتيجة، وهي نتيجة لا يمكن أن يكون لها موضعٌ علمي في تحقيق تاريخي، إلا في تعميق ثقةٍ اعتقادية لدى من يؤمنون بالمقدمة التي قام عليها البحث؛ ولذا فإنه يمكن أن نسرد هذه النظريات التي تفسر هدف خروج الحسين، وأن نتطرق لأكثرها تجردًا من المقدمات والافتراضات العقائدية المسبقة لطرح النظرية. بالتأكيد هذا لا يعني إلغاءً للنظريات الأخرى حول أسباب الخروج ودوافعه، فهي بالتأكيد باقيةٌ في سياقها الدرامي والفني الميثولوجي، لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تكون مستندًا تاريخيًا مستقلًا لدراسة حادثة وشخصيةٍ تاريخية بطريقة علمية. وهي كالتالي:
- المحافظة على النفس.
- الامتناع عن البيعة وإقامة الدولة للمحافظة على الإسلام.
- استقبال الشهادة.
- قصد إقامة الدولة في البدء، وقصد الشهادة بعد مقتل مسلم بن عقيل.
- قصد الشهادة بدعوة الناس ضد يزيد.
- إقامة الدولة في الظاهر، وقصد الشهادة في الباطن.
- إقامة الدولة مع العلم بالشهادة.
الحسين الإله أم الإنسان؟
تقدم النظريات المختلفة في قصد الحسين للشهادة وعلمه بها دعمًا لفرضيات الاعتقادات الإمامية بعالمية الغيب عند الحسين، ورغبته الكاملة في الذهاب للموت الذي يعلمه بزمانه ومكانه مذ وجد، وهي رؤىً تقدم الحسين في صورة أقرب للاهوت منه إلى الإنسان. وهي وإن كانت نظريات موروثة للرواية الدينية ترى في ظاهر الأمر بأنها تمنح الحسين بعدًا آخر أكثر قوةً في قضيته، يمكن لها أن تثبت كفة الميزان لصالح الحسين، أن يكون كائنًا إلهيًا، ويزيد كائنًا عاديًا بشريًا أو كائنًا أقرب للشيطاني، إلا أنها على العكس لا تمنحه هذه القيمة.
هذه النظريات التي تحاول أن تقدم الحسين في معركة غير متكافئة تكوينيًا، لغرض إثبات موقفه، تغفل تساؤلًا: “هل حقًا يحتاج الحسين لأن يكون كائنًا ملكوتيًا لدعم حجة قضيته في كربلاء؟”. وإذا كان الكائن الملكوتي أنقى من البشري، فما هي الميزة الذي فيه بكونه نقيًا أو كاملًا بالتكوين وليس بالاختيار؟ بالتأكيد حرية الاختيار هي وحدها من تجعل صاحب الاختيار الأصوب صاحب امتياز، لا ذاك الذي جاء تكوينيًا عالمًا به، وهو ربما اختيار يمكن أن نلاحظه في نظرية حفظ النفس في أسباب خروج الحسين.
يشير المهريزي إلى نظرية أولى تدعمها الكثير من النصوص التاريخية بشقيها؛ السني والشيعي، وهي النظرية التي تقول إن دافع الخروج لدى الحسين هو “المحافظة على النفس”. رجل تم نكث العهد بين أخيه ومعاوية، وبدا أمر إذلاله بإجباره على قبول الواقع الجديد بتقديم البيعة ليزيد والخضوع له، أو الموت وحده خيارًا آخر في مقابل الخضوع. يخرج الحسين طلبًا للحماية والسلامة من بطش يزيد، لا يراسل أو يخطب في طلب بيعة لنفسه إلا للإشارة لعهد معاوية والحسن بن علي الذي نكثه معاوية ويزيد، حتى يأتيه طلب القدوم من أهل العراق.
هذه النظرية تقدم الحسين بن علي في صورةٍ أكثر بشريةً منها إلهية عصموية. تقدمه كرجلٍ موضوعٍ بين خياراتٍ صعبةٍ للبقاء وحفظ كرامته، وليس يفرق فيها اختيار الخيار الصحيح من الخطأ، ولا يحكم في صوابية وخطأ الاختيار عواقب اتخاذه؛ وإنما القناعة والحكم الشخصي على هذه الخيارات لهذا الفرد. وهنا يمكن أن نجيب بأن صوابية قرار الحسين بن علي في الخروج، هو سؤالٌ نسبي يختلف جوابه باختلاف أولويات المسؤول وقناعاته، فهي الحكم هنا في مثل هكذا ظرف.
الموت لأجل موقف
مع أن نظرية المحافظة على النفس هي الأقرب للبحث التاريخي الذي يتفق في السردية الروائية لطلب الحسين للبيعة في المدينة أو ملاقاة حتفه، إلا أنها نظرية مليئةٌ بالثغرات أيضًا. إذا كان الحسين يريد النجاة في هذا الموقف؛ فعليه أن يختار النجاة بالبيعة وينهي الأمر، ولكن هذا ما لم يحدث. قرر الحسين رفض إعطاء البيعة والخروج باتجاه مكة بحثًا عن النصرة والأمن، وهو ما لم يجده أيضًا.
في كربلاء وقبل المعركة، عرض على الحسين أيضًا القبول بالبيعة ليزيد وإنهاء الأمر والعودة بذات الامتيازات التي كان يتحصل عليها من بيت المال، والمكانة الاجتماعية لدى الناس في المدينة، وهنا كان الموت والعاقبة المميتة تلوح واضحةً وشاهدةً أمام الحسين بن علي، ولا يوجد فيها ما يبعث له حتى أملًا بإمكان انقلاب الوضع لصالحه. في هذه اللحظة يمكن أن نرى نظريةً أخرى للخروج؛ الموت لموقف، “إن لم تكونوا مؤمنين فكونوا أحرارًا”.
نظرية الموت لأجل قناعة وأولوية الفكرة والثبات عليها مع انعدام أي فرصٍ للنجاة، أو حتى إمكان توهمها هي النظرية المكملة لنظرية حفظ النفس، وهي فكرة حول حرية الاختيار. الإنسان الذي يفضل أن يخسر كل شيءٍ في أحلك اللحظات وأكثرها ضغطًا عليه للتراجع عن موقفه، وخصوصًا أمام المغريات التي يمكن أن يجدها. وهنا الحسين يظهر إنسانًا، يمتلك امتيازًا عن الكائن الملكوتي البائس والفاقد للحرية، وهو أن يختار مصيره من أجل موقف وفكرة.