ذات صباح في ديسمبر 1970، أفاق السكان الأصليون في مسندم على أصوات الطائرات البريطانية، التي لم تكن لتترك أرضهم وشأنها في مساعي حفظ مكانتها كقوة عظمى بالسيطرة على مضيق هرمز، الذي تشرف عليه مسندم. قام الجيش البريطاني بعملية إنزال مظلي في مسندم، عقبها عمليةٌ واسعة باقتحام منازل أبناء القبائل وقتلهم واختطافهم ثم اقتيادهم لأماكن مجهولة.
مسندم، هي شبه جزيرة في منطقة الخليج العربي، تشرف على أهم ممر للخطوط الملاحية البحرية لنقل الطاقة؛ مضيق هرمز، ترتفع جبالها 2100 متر عن مستوى سطح البحر، وتمر خطوط الملاحة في المضيق من مياهها الإقليمية. على الرغم من أنها لا تشترك معها في حدود برية، تخضع شبه جزيرة مسندم لسلطة دولة سلطنة عمان منذ العام 1970، وتعتبر المحافظة الحادية عشرة في التقسيم الإداري لعمان، تفصل بينها وبين الأراضي العمانية إمارة الفجيرة وإمارة رأس الخيمة الإماراتيتين.
مسندم كمحافظة عمانية
تعرضت شبه جزيرة مسندم لقصف الطيران البريطاني أول مرة العام 1930، كان الهدف وراء العملية هو إخضاع شيخ قبلي لسلطات الاستعمار والسيطرة على مضيق هرمز، في سبيل إخضاع المنطقة للسلطات العمانية الخاضعة للاستعمار البريطاني، تعرض الكثير من أبناء مسندم للخطف والتعذيب على أيدي القوات البريطانية بتهمة الانتماء للشيوعية.
منذ ذلك الحين وبعد عملية انترداون 16 ديسمبر 1970، أصبحت مسندم تابعةً لنظام مسقط كمحافظة خارج حدودها البرية. الموقع الاستراتيجي الذي تشغله منطقة شبه جزيرة مسندم التي لا تشرف فقط على مضيق هرمز؛ وإنما تتمتع بميزة أن المنطقة الوحيدة الصالحة للملاحة في المضيق تقع ضمن مياهها التابعة لها، كان يمثل أهميةً استراتيجية للحفاظ على الهيمنة البريطانية ومكانتها كقوة عظمى عالميًا.
لكن على الرغم من هذه الأهمية التي شكلتها المنطقة ومرور خمسين عامًا على ضمها لنظام مسقط، إلا أنه ما تزال أوضاع شعب رؤوس الجبال مغيبةً عن العالم.
دولة مواطنة أم سلطة احتلال؟
مرت خمسون عامًا منذ محاولة الاستقلال الأخيرة في مسندم، ووصل عدد سكان المنطقة لما يزيد عن 45 ألف نسمة. عملية الضم للخارطة العمانية التي شابها تغيير قسري عنيف تجاه سكان مسندم، بالقصف، الاختطاف، التعذيب والتصفية الميدانية، تستمر سياساتها في التعامل مع مواطني المنطقة.
يوسف الشحي، أحد أبناء مسندم، يشارك “مواطن” شعوره تجاه سلطات نظام مسقط الذي يعتبره شخصيًا نظام احتلال لأرض أجداده الذين دفعوا الكثير في مقاومتهم له. يرى يوسف أن النظام لا يكف عن اتباع سياسة القمع والإرهاب، يصف يوسف ذلك في حديثه لمواطن: “منذ اليوم الأول للاحتلال على يد القوات البريطانية وإلى اليوم، وشعب رؤوس الجبال يطالب باستقلال أرضه، ومنذ ذلك الحين ورجالنا في المعتقلات، ما إن يفرج عن أحدهم يدخل آخر مكانه، نحن بين معتقلٍ وملاحق وسجين، بيوتنا تهدم وأموالنا تصادر”.
يضيف يوسف: "مهما حاول النظام تلميع صورته وصورة مراسيمه وقراراته الجائرة التي تستهدف شعب مسندم، تبقى صورته الحقيقية في المعتقلات".
تفيد منظمة العفو الدولية استمرار عمليات الاختفاء القسري طوال عقود، فيما زادت حدتها منذ العام 2015. بين مايو 2017 وابريل 2018، تعرض ستة مواطنين من منطقة مسندم بينهم إماراتي للاعتقال على يد السلطات العمانية، استمر اختفاؤهم لعامٍ كامل حتى صدر حكمٌ بالسجن المؤبد بحقهم جميعًا بتهمة استخدام تقنية المعلومات للإخلال بأمن الدولة في 17 من نوفمبر 2019.
بعد مرور عامٍ على صدور حكم السجن بالمؤبد، أصدر السلطان العماني قرار عفوٍ بحق أربعة من المتهمين الستة من أبناء مسندم، ثم أفرج عن المعتقلين الاثنين الباقيين في أبريل 2021. أكّد أحد المعتقلين بأنه تعرض للتعذيب في سجون السلطات العمانية. تعيد إفادات المعتقل إلى الأذهان السياسة التي واجهها المتظاهرون السلميون في الربيع العماني 2011، والاحتجاجات التي تبعتها حتى العام 2015، الأمر الذي يشكك في حقيقة تغير سياسات النظام في المعتقلات في عهد السلطان الجديد هيثم بن طارق.
منذ الـ 19 من ديسمبر 2021، لا يزال المواطن مسعود علي عبدالله الشحي في وضع الاختفاء القسري دون الإفصاح عن مقر اعتقاله، وتعبر منظمة العفو الدولية عن مخاوفها من تعرضه للتعذيب.
طمس للهوية وعسكرة للمنطقة
منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الوقت الحالي، قامت السلطات بإزالة العديد من المنازل في مسندم بذريعة أنها مخالفة، ثم قامت بمصادرة أراضي أصحابها. ولم تقتصر عملية الهدم على المنازل؛ حيث يفيد السكان المحليون عن قيام النظام بهدم العديد من القلاع التاريخية منذ سيطرته على مسندم سبعينيات القرن الماضي.
ويذكر يوسف الشحي في حديثه لمواطن: “هل تعلم أن السلطات العمانية هدمت أكثر من 500 منزل جبلي ظلمًا وتعسفًا؟ وهل تعلم أن قلاع ومواقع أثرية أزالها النظام؟ وهل تعلم أيضًا عدد المواقع التي صادرها النظام بمراسيم قابوس وتابعه المجرم هيثم؟”.
شعب رؤوس الجبال وعسكرة المنطقة
يدعي يوسف الشحي بأن المخابرات الأمريكية عبر شركة “تترابك” هي التي قامت بتخطيط مناطقهم في جبال مسندم لتكون ثكنات عسكرية، مضيفًا أن الشركة لا زالت تعمل في عمان حتى الوقت الحالي، ويمارس البريطانيون نفوذهم ويمررون دعمهم للنظام في مسقط عبرها.
ويذكر يوسف الشحي في حديثه: ” تم تخطيط رؤوس جبال مسندم لتكون ثكنات عسكرية، والخدمات الموجودة فيها هي منشأة لخدمة هذه الثكنات. ترى شوارع وخدمات راقية في جزير “أم الغنم” العسكرية منذ أربعين سنة، ولكن مستحيل أن ترى مثل هذه الخدمات في مناطق وقرى أرضنا”.
السلطات العمانية وفق معلومات لمنظمة العفو الدولية قامت بعمليات تهجيرٍ ممنهجة لسكان مناطق رؤوس جبال مسندم؛ وخصوصًا بعد العام 2015؛ حيث تقوم بمصادرة أراضي السكان وانتزاعها منهم وهدم منازلهم؛ لإقامة ثكنات عسكرية فيها.
مسندم بين جيلين
في تحقيق قامت ديكلاسفايد بنشره، يقول الصحفي البريطاني “فيل ميلر” إن الوثائق البريطانية تتحدث عن سكان رؤوس الجبال بالقبائل التي تمتلك سمعةً سيئة في الخضوع للسلطة، وأن سكان المنطقة يرفضون خضوعهم لسلطات نظام مسقط ويتعاملون مع أنفسهم كمنطقة مستقلة.
العمليات العسكرية البريطانية في مسندم التي تنوعت بين قصف طيران وإنزال مظلي واحتلال واختطاف سكان أصليين في عمليات بدأت ثلاثينات القرن الماضي، كان هدفها القضاء على أي معارضة أو نواة لوجود مقاومة للمصالح البريطانية والتبعية لنظام مسقط؛ تارةً لقمع مشائخ قبائل محليين رافضين لسلطة مسقط، وتارةً لملاحقة ثوار شيوعيين حسب زعم الوثائق البريطانية؛ الأمر الذي ينتهي لنقل انطباعٍ عن مشاعر سكان مسندم في تلك الفترة تجاه نظام مسقط السلطاني.
محمد حسن (اسم مستعار)، مصدر محلي في مسندم، يصف لــ “مواطن” التحول الذي شهدته مسندم بين التبعية والاستقلال بقوله: “لم يكن وضع مسندم مختلفًا بشكل كبير عن سواها من محافظات السلطنة؛ إذ كان العمانيون عمومًا يعملون في دول الجوار الخليجية بمختلف المستويات الوظيفية (غنيّ عن القول، أن غالبية تلك الوظائف في مستويات متدنية). وسكان محافظة مسندم ليسوا استثناءً من تلك القاعدة؛ فقد كان الشباب العاملون في تلك الحقبة يعملون في كل من الإمارات والكويت بالتحديد. وقد بدؤوا بالتوافد عودةً مع مطلع السبعينات حين كانت التنمية ملحوظةً بشكل كبير، وقد تم تخصيص لجنة بمسمى “لجنة تطوير محافظة مسندم“، قامت بإنشاء البنية التحتية التي كانت منعدمة بشكل تام”.
يرى محمد بأن التحول الخدمي، وإن كان بسيطًا، شكل فارقًا لدى سكان مسندم، وساعد على استقرارهم في مناطقهم. يتذكر محمد سكان مسندم في السبعينات كجيلٍ شهد مرحلتين وعايش تحولاتها وانعكاسات كل مرحلة على معيشة أهل مسندم وعمان بشكل عام.
يشرح ذلك محمد لـ مواطن: ” نقل جيل الآباء المعاصر لتلك النقلة النوعية لأبنائهم الشعور بالامتنان الذي يكنّونه لتلك النهضة والتنمية؛ إذ إنها عادت بهم إلى أوطانهم بعد اضطرارهم للهجرة من أجل العمل، إلا أن جيل الأبناء الذي ولد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لا يكنّ الشعور ذاته الذي حاول الآباء نقله إليهم عبر الحكايات الشفوية، ولذلك عدد من العوامل من وجهة نظري؛ أحدها أن جيل الأبناء لم يشهد عمليات التطوير تلك، فنشأ وترعرع في مستوى من المعيشة لم يتطور أبدًا (ما عدا ما بعد 2011)”.
ينوه محمد إلى أن البداية التي شهدتها محافظة مسندم من تحولات تنموية غيرت من معيشة السكان، توقفت في مرحلةٍ ما في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، الأمر الذي لم يخلق ذات القبول الشعبي لنظام مسقط في الجيل الحالي، أو رضىً عن الوضع الحالي، فقد تغيرت الأوضاع قليلًا بعد احتجاجات الربيع العماني.
يقول محمد: ” مع دخول أدوات الاتصالات والإعلام، بدأ الجيل الجديد بعقد المقارنات فيما بين واقعهم الذي يعيشونه، وما يرونه عبر تلك الأدوات من تطوير مستمر في دول الخليج النفطية. ومع وضع المحافظة الحدودي، تفاقم الشعور بالاغتراب وظهرت أسئلة تاريخية عبثية حول أحقية التبعية لمسقط من عدمها”.
من جهةٍ أخرى يرى محمد بأن تمثيلًا، وإن كان بسيطًا، قد تحقق لأبناء محافظة مسندم؛ حيث يذكر في حديثه: “الحق أنه تم توزير أحد أبناء المحافظة في أحد أكبر الوزارات الخدمية بالدولة (وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه -سابقا-)، وتعيين بعض الشيوخ والأعيان كمحافظين وولاة، ومؤخرًا في مجلس الوزراء، لذلك من المجحف نكران هذا الأمر، ناهيكم عن تمثيل كل ولاية من ولايات المحافظة في مجلس الشورى بالانتخاب (على ما يشوب تلك العملية من مؤاخذات من مثل: استبعاد بعض الأسماء لدواعٍ غير واضحة ومعلنة)”.
أما يوسف فيعلق على مسألة التمثيل والمشاركة بقوله: “النظام العماني نظام ديكتاتوري مستبد ومستعمرة بريطانية، كل ما ينشر هو إعلام مثير للسخرية، وإن وجد صوت أو تمثيل ففي النهاية هو صوت الحكومة!”.
إهمال وحرمان
بالإضافة إلى التزايد الكبير في عدد السكان الذي لا تواكبه عملية التنمية في مسندم، تعاني محافظة مسندم من إهمال السلطات المتعمد كما يدعي سكانٌ محليون. خدمات القطاع الصحي هي الأردأ في عمان كما يقول يوسف الشحي لمواطن: “هل تعلم بأن 95% من سكان مسندم يتلقون علاجهم في دولة الإمارات؟ مياه المنازل ملوثة وغير صالحة للشرب، هل تعلم أن منطقة تسمى ليما في مسندم لا زال سكانها يحملون وقود سياراتهم وقواربهم معهم، والحكومة عاجزة عن توفير محطة وقود لهم وأمن سلامتهم”.
ووفق إحصائيات رسمية في المحافظة، بلغ عدد المدارس في محافظة مسندم سبع عشرة مدرسة حتى العام 2015م، أما التعليم الجامعي فهو غائب كليًا عن المحافظة كما يفيد محمد حسين لمواطن. يشير محمد حسن أيضًا إلى أن السلطات أطلقت وعودًا لهم بإيجاد مؤسسات تعليمية لما بعد مرحلة الثانوية في محافظة مسندم في العام القادم 2023-2024، إلا أن يوسف يرى بأن هذا مؤشر لعدم وجود عدالة في التنمية في مسندم بالمقارنة مع بقية المحافظات العمانية.
ويذكر محمد حسن أن الحاجة الآن هي حاجة للدفع بإصلاحات حقيقية يستحقها أبناء محافظة مسندم: “من وجهة نظري، لابد من السعي لتطوير عملية إدارة المحافظة بالتعاون مع الدول المجاورة لتسهيل حياة المواطنين فيها؛ فالتحديات الحالية توفر بيئة طاردة، ولا بد من تهيئتها بما يتناسب مع طبيعتها الجغرافية والثقافية”.
أما يوسف الشحي فيرى أن مطلب الاستقلال هو وحده ما يمكن أن يمنح أبناء مسندم حقوقهم ويضمن مستقبل أبنائهم، يقول يوسف: “لن نتجاوز أوجاعنا إلا بعد الاستقلال وطرد الغزاة”.
وأمام التحولات التاريخية التي شهدتها مسندم وسياسات النظام في التعامل مع سكانها، تبقى قوة أهلها ومأساتهم في الموقع الذي تمتلكه على خط الملاحة الدولية، ومعاناتهم ذاتها مع قرار الفرد وحكمه في مسقط. فهل يمكن أن تتغير مواقف أبناء مسندم ويصبحون أكثر تفهمًا لمصالح واحتياجات الدولة إذا ما تم إشراكهم والتعامل معهم بشفافية؟ أم أن تعامل السلطات بغموض وتهميش احتياجاتهم الخدمية هي الطريقة الأنسب؟ الإجابة في مسقط.