لم تكن العبودية في الماضي مستهجنة كما هي اليوم، حتى أنها كانت تُسوَّغ من قبل بعض الفلاسفة؛ استنادًا إلى أن الحياة قائمة على وجود خدم وعبيد بالفطرة. اعتقَد أرسطو أن فئة من الناس مهيؤون لأن يكونوا عبيدًا؛ فهم يتمتعون بقوة جسدية، وعاجزون عن التفكير العقلاني وتسيير أمورهم، ويلزمهم بالتالي “السيد” الذي يقوم بهذه المهمة عنهم!
يؤمن جون لوك بأن جميع الناس ولدوا أحرارً، لكنه شارك في تأليف الدساتير الأساسية لكارولاينا 1669م، وفيها كانت المادة 110 التي تنص على أن “لكل رجل حر في ولاية كارولينا القوة والسلطة المطلقة على عبيده الزنوج.
وكان ديفيد هيوم من الذين قبلوا بتعدد الأصول البشرية، معتبرًا أن الملونين “أدنى طبيعيًا” من البيض، وكان كانط يعتقد أن البيض فقط يمكنهم أن يتمتعوا بالإرادة الحرة والقدرات الأخلاقية والعقلانية الكاملة في النظام التراتبي للفصائل البشرية. وبشكل عام، استُخدم العلم والفلسفة من قبل الكُتاب الحديثون الأوائل لتبرير استعباد الناس، “وترسيخ مسوغات العبودية المبنية على العرق وتقديمها على أنها مبادئ فكرية محترمة.”
في هذا النوع من التسويغ لا يسائل الفيلسوف الشر، بل يهتم بمصدر الإباحة “العقلي” والمنطقي، أو بمصدر الإباحة الديني، في حالة المؤمن، لكن قُبح الفلسفة أمكنَ إصلاحه بالفلسفة نفسها، وهذا ما لم يحدث في الدين، ما يعني أن أحكام الشريعة لا تقوم على قواعد أخلاقية بالضرورة، وأن أمور الدنيا متروكة للناس ليقرروا فيها ما يناسب مصالحهم وأخلاقهم.
العبودية في واقع متغير
الحديث عن العبودية هو حديث عن الحرية، فإذا كان القرآن يعتبر الحرية قيمة إنسانية مهمة؛ فلماذا لم يتضمن آية أو آيات صريحة لتحريم العبودية؟ -كما فعل في قضايا أخرى-، وهل كان من المتوقع أن تفضي آيات عتق الرقاب إلى إنهاء العبودية تمامًا؟
القرآن لم يُحرِّم ملك اليمين وتجارة العبيد، مع هذا تجد من يؤكد بأن الحرية في القرآن هي الأصل، وبأن القرآن مهَّد للتخلص من العبودية عن طريق آيات عتق الرقاب، وبأنه لم يكن بالإمكان نزول نص قطعي لتحرير العبيد بسبب الضرورة الاقتصادية.
لا خلاف في أن للواقع إكراهاته في تفصيل النص القرآني، والخلاف في قولهم إن العبيد كانوا آلة الاقتصاد، وأن تحريرهم كان سيؤدي إلى كارثة اقتصادية تطيح باقتصاد مكة والمدينة! إن الله- من هذا المنظور- يعطي الأولوية للمسألة الاقتصادية أو للواقع، على حساب قيمة أخلاقية عليا هي الحرية.
الغريب في هذا التبرير أن الفقهاء يخالفون قاعدتهم التي تَفْصِل النصوص التشريعية عن الواقع الذي أنتجها؛ فتجعلها مطْلقة وصالحة لكل زمان ومكان؛ فتعطيل حكم المنسوخ وتثبيت حكم الناسخ يتم باعتباره حكمًا مقدسًا أنزله الله بمعزل عن علاقته بالواقع الجديد، ولو أنهم أخذوا بعين الاعتبار أن حكم الناسخ والمنسوخ يدور حول واقعة واحدة، لأدركوا أن القرآن يخاطب الواقع (المتغير) لا الواقعة (الثابتة).
والهدف من استبدال حكم بآخر هو تأسيس منهج لاستنباط الأحكام مشروط بأولوية الواقع على النص، أو بحاكمية العقل على النقل، في معادلة تقوم على أن الواقع المتغير يستوجب أحكامًا (اجتهادات) جديدة، والقرآن بذلك لا يفرض حلولًا، وإنما يقترح منهجًا لاستنباط الحلول، ولذلك فإن اعتماد آخر حُكم– بحجة أنه ناسخ لما قبله- يُعد تخريبًا لهذا المنهج وتجميدًا للماضي.
لكنهم في موقف القرآن من العبودية يخالفون قاعدتهم الأثيرة ويجعلون الواقع هو المرجعية التشريعية! والقرآن من هذا المنظور، لا يغير الواقع؛ وإنما ينتظر تغييره، “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” الرعد 11.
تستدعى هذه الآية دليلا على أن التغيير يبدأ من الإنسان، والأمر فعلا كذلك، لكن ما ورد في آية الرعد هو جزء من آية معزولة عن سياقها الذي يتحدث عن أن الله “لا يغير نعمة أنعمها على قوم إلا إذا غيروا ما أمرهم به فعصوه” (التفسير الميسر). سياق الآية يدور حول نعم الله التي يمكن أن تتحول إلى نقم في حال عصيانه، ولذلك يستطرد ليؤكد أنه لا يريد بهم السوء: “وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له”. وهناك آية أخرى تؤيد هذا المعنى: “ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” الأنفال 53.
تحرير العبيد بآية قطعية لم يكن ليسبب مشكلة اقتصادية؛ هذه المسألة لم تكن مطروحة حينها، ولم يكن العبيد آلة أساسية في الاقتصاد في مكة وشبه الجزيرة العربية، ولو افترضنا أنهم كذلك؛ فقد كان بالإمكان تحريرهم وتوظيفهم عمالًا بالأجر، لكن هذا الحل سيحرم السادة من تجارة العبيد ومن العمالة المجانية. إن غياب آية تدين هذا الوضع هو ما يؤخذ على القرآن، في حال اعتبرناه نصًا يصدر من مرجعية إلهية ويعطي للقضايا الأخلاقية والإنسانية قيمة عليا مقدمة على مقتضيات الواقع المتغير.
العبودية والمساواة
يزعمون أن آيات عتق الرقاب كانت ستحل مشكلة العبودية جذريًا! علينا أن نسأل أولًا: هل اعتبر الإسلام العبودية مشكلة أخلاقية تنتظر حلًا إنسانيًا عبر نص "مقدس"؟ وهل نظر إلى الحرية كقيمة عليا؟
وردت كلمة حر مرة واحدة في القرآن في سياق المقارنة مع العبد: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم” البقرة 178 .
جاء في تفسير الجلالين: “فُرض عليكم القصاص– المماثلة- في القتلى وصفًا وفعلًا (الحُرُّ) يقتل (بالحر) ولا يقتل بالعبد. والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. وبينت السنة أن الذكر يُقتل بها، ولا مماثلة في الدِّين فلا يُقتَل مسلمٌ لو كان عبدًا، بكافر ولو كان حرا”.
سورة البقرة مدنية، وطول مدة الوحي في مكة والمدينة دليل على أن القرآن لم يكن يعتبر العبودية مشكلة، وإلا لأنزل آية أو آيات متدرجة لتحريم العبودية، وكما هو واضح من الآية فقد جعل القرآن للأحرار قيمة أعلى من العبيد. والآية واضحة في تقسيمها للناس إلى ثلاثة أقسام: أحرار وعبيد وإناث. ولهذا التقسيم دلالة تشير إلى عدم المساواة؛ فليس الحر كالعبد ولا الذكر كالأنثى. وللقصاص ضوابط بموجب صفة المرء: حرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مؤمنًا أو كافرًا. ومن البديهي في ظل هذه التراتبية أن يُقتل العبد إذا قتل حرًا.
التعديل الوحيد بين الذكر والأنثى أتت به السنة كما ورد في تفسير الجلالين أعلاه. والمفارقة، أن هذه الآية والآية التي تليها تحثان على القصاص وتقرنه بالحياة التي سيسود ضدها– الموت- إن لم ينفذ. “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” البقرة 179. ما يعني تأبيد هذا الحكم واعتبار هذه التراتبية قيمة مطلقة!
ووردت كلمة تحرير في ثلاث آيات، في سياق: (القتل الخطأ) و (اللغو في الأيمان).
- أولا: القتل الخطأ
في مسألة القتل الخطأ أتى القرآن بحل ليكون كفارة لذنب القاتل المؤمن وتطهيرا لنفسه وتحريره من تأنيب الضمير:
“وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله” النساء 92.
في هذه الآية يقرر القرآن قاعدة تفيد بأنه من غير المعقول أن يقتل المؤمن مؤمنا متعمدا، فإن قتله بالخطأ يجب النظر في هوية القتيل الدينية وفي العلاقات والمواثيق بين قوم القاتل وقوم المقتول، وبعد أن تحدد هذه الأولويات يتم طرح الحلول المختلفة والمناسبة لكل حالة على حدة؛ وهي على ثلاث حالات:
- الحالة الأولى:
إن قتل مؤمن مؤمنا خطأ، وهما من قوم واحد، يلزم القاتل تحرير عبد، وتسليم دية لأهل المقتول. “إلا أن يصدقوا” أي أن يعفوا عن بعضهم. وللحل المزدوج وظيفتان: عتق رقبة سيجلب الفرح للعبد ولمن حرره، ودفع الدية بمثابة تعويض مادي ونفسي لتخفيف حزن أهل القتيل، وتحرير القاتل من حزنه، وعفو أهل القتيل عن القاتل يعتبر غفرانا وعلاجا لنفوس الطرفين.
- الحالة الثانية:
إذا كان المقتول مؤمنا لكنه من قوم عدو محارب، يلزم القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط. والسبب في عدم دفع دية لأهل القتيل أنهم من قوم أعداء ومحاربين، فلا يهم في هذه الحالة تطبيب نفوسهم بقدر ما يهم جعل الفرحة فرحتين: فرحة قتل عدو، وفرحة تحرير رقبة مؤمنة. الملاحظ هنا أن المؤمن المقتول يختلف وضعه حسب المكان الذي هو فيه، أو حسب قومه الذين ينتمي إليهم؛ فالمؤمن في الحالة الأولى ينتمي لقوم القاتل وكلهم مؤمنون بالله ورسوله، ودفع الدية سيصب في الخزينة نفسها، بينما المؤمن في الحالة الثانية من قوم عدو ويخشى أن يسهم دفع الدية في تحسين وضعهم المادي ونقص في خزينة المسلمين.
- الحالة الثالثة:
إن كان المقتول من قوم بينكم وبينهم معاهدات ومواثيق، بغض النظر عن هويتهم الدينية، والمرجح أنهم من غير المسلمين، في هذه الحالة يلزم تسليم دية لأهل القتيل وتحرير رقبة عبد مؤمن، وهو حل لا يختلف عن الحالة الأولى (قتل مؤمن مؤمنا) إلا في الترتيب؛ فيقدم دفع الدية على عتق رقبة مؤمن، ولهذا التقديم والتأخير دلالة تتعلق بأسبقية الروابط الدنيوية على الرابطة الدينية، وضرورة التعجيل بدفع الدية خوفا من أن يؤدي القتل إلى تخريب العلاقات وفسخ المواثيق، وبعد الفراغ من دفع الدية يمكن التفرغ للشؤون الداخلية وتحرير رقبة مؤمنة.
وهناك حل بديل لعتق الرقبة ودفع الدية يتمثل في صيام شهرين متتاليين. والسؤال: “فمن لم يجد” ماذا؟! عبدا ليحرره أم مالا لدفع الدية؟! أو كليهما؟ وهل صيام شهرين متتابعين هو حل بديل لجميع الحالات الثلاث؟ أم فقط للحالة الأخيرة؛ كونه أتى ملحقا بها؟! وهل يمكن أن يكون الحل البديل استشرافا لمستقبل خال من العبيد؟
دفع الدية كان على القاتل أو عصبته أو من بيت المال، وعتق رقبة ودفع دية يمكن أن يكون عسيرا على الفقراء، وربما كان حل الصيام من أجلهم، أما القول بأن الصيام حل استشرافي، فمنهج القرآن في استنباط الحلول ظرفي، وإن كان لا يخلو منهجه من آلية تأويلية تسمح باستنباط حلول استشرافية. والأهم أن جواب السؤال مرتبط باعتبار القرآن العبودية مشكلة أخلاقية ينبغي حلها، ومرتبط بافتراض أن الاستمرار في عتق الرقاب سيؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاء مشكلة العبودية، والصيام وعبارة “توبة من الله” دليل على أن المراد من الصيام ومن دفع الدية وعتق الرقبة أن تكون كفارة للقاتل وتحريره من ذنوبه، وهنا نسأل: ماذا لو أن عبدا مؤمنا قتل عبدا أو حرا، فما كفارته؟ هل يعتق عبدا وهو الأولى بالعتق؟
- ثانيا: اللغو في الأيمان
وقد ورد في نوعين من الحلف، الحلف بشكل عام:
“لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم” المائدة 89.
تخبرنا الآية أن الله لا يعاقب على الحلف من غير قصد، “ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم، فإذا لم تفوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدمونه مما شرعه الله لكم كفارة من إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو إعتاق مملوك من الرق، فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، فمن لم يجد شيئا من ذلك فعليه بالصيام.” (التفسير الميسر).
وفي يمين المظاهرة: “والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به” المجادلة 3. حين يقسم الرجل قائلا لزوجته: “أنت علي كظهر أمي”- أي في حرمة النكاح- ثم يرجعون عن قولهم ويعزمون على وطء نسائهم، فعلى الزوج كفارة التحريم، وهي عتق رقبة مؤمنة؛ عبدا أو أمة قبل أن يطأ زوجته” (التفسير الميسر).
آيات عتق الرقاب السابقة كلها مدنية، وتوضح للمؤمنين أبواب عتق الرقبة الوارد في سورة البلد المكية: “فك رقبة”. فللنجاة من مشقة الآخرة قدم القرآن عتق العبيد من بين وسائل أخرى؛ مثل إطعام الفقراء واليتامى والمساكين، أثناء المجاعة كما جاء في سورة البلد، آية 11- 16: “فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة”.
اقتصاد العبودية
الآيات السابقة تُركز على عتق رقبة مؤمنة تحديدًا، لا عتق رقبة؛ أي عبد في العالم، وفي ذلك دلالة تشير إلى أن القرآن غير معني بالعبودية إلا بوصفها مشكلة دينية لا مشكلة إنسانية. كما أن القرآن يُقدِّم حلولًا للقتلة، أو للمؤمنين، وليس للقتلى أو للعبيد. ولم تكن هذه الإجراءات لتؤدي في النهاية لتحرير العبيد. الدليل على ذلك أن العبودية استمرت حتى منتصف القرن العشرين، ولم تُحرَّم إلا بقرار قانوني دولي.
افتراض أن عتق الرقاب سيفضي في النهاية إلى إنهاء العبودية يستدعي افتراضًا آخر؛ وهو أن توقُّف المؤمنين عن اقتراف الذنوب يفضي إلى التوقف عن عتق رقاب العبيد، ما يعني بقاء العبودية. تحولت المشكلة الحقيقية (العبودية) إلى حل لمشكلة أخرى؛ هي الذنوب! أي أن مشكلة الذنوب وجدت حلها بإعتاق العبيد، وعلى افتراض انعدام المشكلة سيؤدي هذا منطقيًا إلى بقاء العبودية.
الذين يربطون شيوع العبودية في مرحلة تاريخية ما بالضرورة الاقتصادية، وتحرير العبيد بزوال تلك الضرورة، أو بالتحول من نمط اقتصادي عماده الأيدي العاملة، إلى آخر صناعي عماده الآلة، إنما يقولون باستحالة ترتيب العلاقات الاقتصادية وفقًا للمصلحة المشتركة بين الطرفين، لا وفقًا لعلاقة “سيد” و “عبد”، فضلًا عن أن الآلة والتقنية الحديثة، وإن سرَّحت كثيرًا من الأيدي العاملة؛ إلا أنها لم تلغِ الحاجة إليهم (كعمال). بزعمهم هذا يستبعدون الدافع الثقافي للعبودية، الذي أعطى للسيد (الأبيض) قيمة أعلى من العبد (الأسود) ، وبقاء المشكلة الثقافية حتى الآن، في أشكال عنصرية مختلفة، شاهدٌ على أن التحول الاقتصادي عامل ثانوي في تحرير العبيد.
لعل النبي محمد كان يرغب في تحرير العبيد- أُشيع في بداية الدعوة من أن الإسلام يساوي بين العبد وسيده-، لكن يبدو أن أحلامه اصطدمت بعقبة ثقافة المجتمع، فلم يُصرّح القرآن بالحرية كحق إنساني، وهذا شاهد على هامشية الحرية في الإسلام، وعلى أنه لم يكن مشروعًا غايته الإنسان؛ بل غايته بقاء الجماعة وتأسيس الدولة. وآيات الكفارات تؤكد بأن النبي وضع نفسه مكان المؤمن المذنب ليُخلِّصهُ من ذنبه، لا في موضع العبد المضطهد وكيفية تخليصه من اضطهاده. إن المقدس هنا يعطي للعبودية قيمة إيجابية بجعلها متنفسًا يتخلص المؤمن عبره من تأنيب الضمير.
الحرية أصبحت قضية إنسانية، أخلاقية وفلسفية، ولم تكن يومًا قضية دينية، ومطالبة القرآن بنص صريح يُجرِّم فيه العبودية تُخرجه من تاريخيته وتضعه في خانة المقدس المتعالي على الواقع، ولا يمكن للحرية أن تثور إلا في عالم نُزعت عنه القدسية. إن تضامن البشر يقوم على التمرد ضد الاضطهاد؛ سواء تعرض له شخصيًا أو لمجرد رؤيته واقعًا على الآخرين، أي بالمشاركة الوجدانية الإيجابية. بينما تقوم المشاركة في آيات الكفارات بين طرفين: أحدهما يأخذ؛ هو المؤمن، والآخر يُعطي؛ هو العبد، الذي لم يكن ليتحرر إلا بفضل اقتراف الحُر للذنوب! وفي هذا توظيف للعبودية، لا تحرير للعبيد. إن آيات الكفارات تتعامل مع العبودية من منظور العلاقة بين مؤمن حر ومؤمن عبد، وإلا لكان باستطاعة العبد المؤمن تحرير نفسه باقترافه ذنبًا يستوجب تحريره، وفقًا لمنطق تلك الآيات!
مراعاة الوحي للظروف الاجتماعية والتاريخية تدل على أن هذه الظروف هي مصدر الوحي، وفي هذا نفيٌ للوحي بالمعنى المتعارف عليه: علاقة من أعلى (السماء) إلى أدنى (الأرض). فإن قلنا إن ظروف الواقع هي الضابطة لوحي السماء، وأن الظروف متغيرة، فمن البديهي ألا يتسم النص والأحكام التشريعية بالثبات. وإن قلنا إن الوحي تنزَّل بمعزل عن ظروف الواقع لعُدَّ ذلك محاولة لتثبيت الإنسان وظروفه وهذا غير ممكن. وفي الحالتين يكون الدين أهم من الحرية، التي ينبغي أن تكون مرجعيتها العقل والخير. وباختزال الوحي إلى مبادئ أو منهاج، نموذجه الناسخ والمنسوخ، سيتخفف الوحي أو الدين من مسؤوليته تجاه قضية العبودية.
العبودية والخمر
حل مشكلة العبودية بعتق الرقاب لم يكن حلًا تدريجيًا، والقرآن لم يعتبر العبودية مشكلة أخلاقية ملحة، ولذلك لم يُطبق نموذج الحل المرحلي الذي اتبعه في مشكلة الخمر. والحرية لم تكن مسألة تؤرق الرسول ولا الفقهاء من بعده. فقد استرقَّ الرسول نساء بني قريظة واسترقَّ يهود خيبر واتخذ سبيًا من بني المصطلق. وقد برَّر الفقهاء ذلك بقولهم إن الاسترقاق “كان عملًا جاريًا منتشرًا بين جميع أمم الأرض حتى الأعصار القريبة، فلماذا يكونُ مستنكرًا في حقِ دينِ الإسلام وسُبةً في جبين المسلمين دون غيرهم؟” (إسلام ويب).
الرسول أتى ليتمم مكارم الأخلاق، وتبرير الفقهاء أعلاه يؤكد استجابة الرسول للظرف التاريخي أكثر من استجابته للضمير الإنساني والشعور الأخلاقي، ويكفي هذا شاهدًا على موقف الإسلام من قضية الحرية والعبودية، وموقفه من جميع القضايا التي يجعل المرجعية فيها للعقل وظروف الواقع لا للنقل/ النص.
العالم وآل البيت
على الرغم من أن القوانين والدساتير العالمية حرَّمت العبودية، إلا أنها تستمر بأشكال مختلفة؛ منها استعباد الناس بفكرة “آل البيت” وحقهم الإلهي في الحكم، القرآن والرسول يُقسِّمان العالم إلى دوائر تضيق كلما انتقلنا من دائرة العالم إلى دائرة آل البيت.
دائرة العالم
تبدأ هذه الدائرة بإضفاء مركزية الأرض وتسخير ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان، والآيات في ذلك كثيرة. أما فيما يتعلق بالعلاقات بين البشر؛ فالخطاب القرآني إنساني: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” الحجرات 13، يوافق هذه الآية الحديث: “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”. هذا عند الله، أما في التعاملات الدنيوية، فهناك أحرار وعبيد لهم دائرة خاصة، كما تقدم.
دائرة الكفر ودائرة الإيمان
وعندما تضيق دائرة العالم، وينتقل إلى دائرة أصغر هي دائرة الكفر والإيمان، فسينحاز لدائرة الإيمان؛ “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” النساء 48 و116. “لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم” المائدة 72. وحين يكون الخيار بين كافر أو مشرك، وبين يهودي أو نصراني، فسينحاز لليهودي والنصراني؛ لأنهم: “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله” آل عمران 113.
دائرة قريش ودائرة الأعراب
وعندما يكون الخيار بين اليهود أو النصارى، وبين المسلمين، فسينحاز للمسلمين، وعندما ينتقل إلى دائرة المسلم القرشي والمسلم الأعرابي فسينحاز للمسلم القرشي؛ “الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله” التوبة 97، السبب هو إسلامهم قولا لا فعلا: “قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم” الحجرات 14. ولنا أن نتساءل: ألم يكن القرشيون أشد كفرا، وقد حاربوا الرسول ولم يستجيبوا لدعوته إلا بحد السيف! ألم يكونوا يتربصون بالرسول والمسلمين مثلما فعل الأعراب: “ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء” التوبة 98.
لكن الأعراب لا يستوون أيضا، كأهل الكتاب: “ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته” التوبة 99. والنفاق ليس محصورا عليهم فقط: “وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق” التوبة 101. وكأن النفاق محصور على الأعراب وبعض من أهل المدينة، وهو ما يبدو كذلك لو لم ندرك دوافع نفاقهم، وغياب تلك الدوافع لدى قريش قبل فتح مكة، وقبل إسلام أبي سفيان وغيره من القرشيين الذين أسلموا نفاقا أو مصلحة!
دائرة المهاجرين ودائرة الأنصار
وعندما ينتقل إلى دائرة المهاجرين ودائرة الأنصار يساوي بينهم في الجنة: “والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات” التوبة100، أما في شؤون الدنيا المادية والسياسية فسينحاز للمهاجرين. هكذا فعل الرسول عندما وزع أغلب غنائم حنين لحديثي العهد بالإسلام ولم يساوهم بالأنصار؛ بحجة تأليف قلوب المسلمين الجدد. وقد أثبت التاريخ أن قلوبهم لم تلن، وستبرز دائرة المهاجرين والأنصار بعد وفاة الرسول، عندما حرم الأنصار من حقوقهم السياسية في سقيفة بني ساعدة!
دائرة الهاشميين ودائرة الأمويين
“إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.” ولن يتوقف هذا الاصطفاء عند النبي بحكم نبوته، ولكنه سيستمر في الانكماش ليصل إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، ليصبح أهل البيت هم العالم؛ مع أني أرجح أن الرسول لم ينجب مطلقا. هكذا تضيق دائرة العالم في دائرة صغيرة اسمها دائرة بني هاشم، وتضيق هذه إلى دائرة أصغر، وفي دائرتي الهاشمية والأموية ينحاز للهاشميين، وفي دائرة الهاشميين ينحاز لأهل بيته، بدلالة حديث الثقلين: “تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي”. وحديث الكساء: “اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي”.
لكن، هب أن الرسول كتب لعلي بالخلافة وجاء في ذلك قرآن وأحاديث؛ فهذا أمرٌ غير مُلزمٍ لنا؛ فالوصول إلى الحكم له آلية؛ هي الديموقراطية، وتأصيل أدوات السياسة اليوم ليس بالدفاع عن الرسول وإضفاء العصمة والمثالية على تصرفاته الدنيوية؛ فالرسول لم يكن مثاليًا كما يراد لنا أن نتصور؛ ففي السيرة حالات تؤكد انحيازه للدبلوماسية والسياسة على حساب المُثل العليا. ومع كل ما تقدم يمكن لنا اليوم الانحياز لدائرة الإنسان ودائرة العالم، ولنا في موقف المعتزلة وفي اجتهاد عمر بن الخطاب شواهد على جواز تغليب الواقع (العقل) على النص (النقل).