في دولة الكويت؛ الإمارة الغنية بالنفط، يعيش الآلاف من البدون (عديمي الجنسية) تحت خط الفقر ودون أبسط مقومات الحياة الكريمة، وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشونها، وأمام المعوّقات القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجههم، عزف قطاع واسع من الشباب عن الزواج، واستبعاد فكرة الارتباط وتكوين أسرة، حتى لا يجرّوا أجيالًا جديدة إلى تكرار ذات المعاناة، في الوقت الذي لا تبدو فيه من جانب الحكومة الكويتية أية بوادر لحلحلة أزمة البدون.
ويبلغ عدد البدون في الكويت، وفق الإحصاءات الحكومية الرسمية، نحو 90 ألف نسمة، بينما المنظمات الحقوقية والنشطاء البدون يؤكدون أن العدد يتراوح بين 120 و150 ألف نسمة، كون الحكومة لا تقيّد الأشخاص الذين لا يملكون هويات أمنية في إحصاءاتها الرسمية ولا تعتبرهم من البدون.
عزوف الشباب البدون عن الزواج: مشكلة تحوّلت إلى ظاهرة
يعتقد الناشط في قضية البدون “شرشاب“، وهو اسم مستعار اختاره لنفسه في مواقع التواصل الاجتماعي لعدم الكشف عن هويته، أن “عزوف الشباب البدون عن الزواج مشكلة تحوّلت إلى ظاهرة، خصيصًا مع ظهور الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية، والذي استمر 12 عامًا دون حلول جادة”.
ويضيف شرشاب في حديث مع “مواطن” أنه “لا يمكن اختزال أسباب عزوف الشباب البدون عن الزواج بحاجة محددة، إنها ظاهرة معقدة للغاية، والأسباب التي أدت إليها عديدة ومتداخلة فيما بينها، جزء منها اقتصادي، وجزء اجتماعي وجزء سياسي بالطبع، ولكنّها تتفاوت من شخص إلى آخر بطبيعة الحال“.
ويقول شرشاب إنه “علينا ألا نُسمّي الظاهرة بالعزوف، لأن الأغلبية الساحقة تحاول الارتباط بلا جدوى“، وإن “العائق الرئيسي هو الجهاز المركزي وتعامله مع ملف البدون، بإجبار الأفراد على التوقيع على جنسيات لا يمتلكونها، مما يؤدي إلى عدم إصدار عقود الزواج لهم، وبذلك يحاربون شريعة من شرائع الدين“.
وعن ذلك، يقول الشاب “عمر العنزي” (27 عامًا)، ويمارس نشاط الأعمال الحرة، ويستبعد فكرة الزواج، في حديثه لـ “مواطن“: “ربما رفض الشباب البدون للزواج كانت مشكلة نسبية في الأعوام الماضية، ولكنّها اليوم ظاهرة كبيرة بينهم؛ فالكثير من أبناء جيلي ما زالوا يرفضون الزواج؛ بل وتجد من فاقوا الأربعين عامًا غير متزوجين“.
بدوره، الشاب “سعد. ع” (30 عامًا)، ويعمل مشرفًا إداريًا في أحد الأندية الرياضية، هو الآخر عازف عن الزواج، لكونه لا يرغب في دخول تجربة جديدة في حياته، وقال في حديث مع “مواطن“: “من الصعب أن أفكر في الزواج وأنا لا أعلم ماذا سيجري علي، وبمثل هذا الوضع الذي أعيشه، وفي مجتمع لا يحترم حقوقي ولا يؤمن فيها” ويضيف: “اكتفيت بالظلم الذي واجهته ولا أستطيع أن أجعل أبنائي يواجهون نفس المصير“.
وعن السبب الذي يجعله يتخلى عن قناعته بالعزوف عن الزواج، يقول سعد “إذا وفّرت لأبنائي حياة كريمة، وهذا ما لن يتحقق في ظل القوانين الظالمة، إلا في حال هاجرت من الكويت“.
المعوّقات القانونية: أحلام الشباب البدون تُصلب أمام مؤشر الجنسية
الشاب “محمد. ع” (34 عام) وهو عاطل عن العمل، يقول في حديث مع “مواطن” إن المعوّق القانوني هو السبب الرئيس في عزوفه عن الزواج: “لست رافضًا لفكرة الزواج من حيث المبدأ، ولكنّي مُجبر؛ لأني ممنوع من الزواج”، وأن منعه من الزواج بحسب وصفه، يتمثل في “صعوبة الحصول على عقد زواج بلا مؤشر جنسية لا تمت لي بصلة، وقبولي به (عقد الزواج) يعدّ إقرارًا مني بهذه الجنسية الملفّقة لي”.
ويشير محمد فيما لو قبل بمؤشر الجنسية في عقد الزواج، فإن "حياة مجهولة أخرى تنتظر أبنائي، بل وسيعيشون حياة أسوأ من حياة والدهم، لأنهم سيتحولون بذلك إلى "بدون البدون"، أي أنهم خرجوا من كونهم بدون، ولن تعترف الدولة المؤشر بجنسيتها بتبعيتهم إليها".
وفئة “بدون البدون” هم أولئك الذين أجبرتهم السلطات الكويتية على استخراج جوازات سفر من فنزويلا وبوليفيا وجيبوتي واليمن، مقابل منحهم مبالغ مالية وعدم طردهم من الجيش الكويتي في تسعينيات القرن الماضي، وبعد انتهاء مدد هذه الجوازات ورفض الحكومات التابعة لها تجديدها، أصبح لهم وضع قانوني معقد، كون الحكومة أصبحت لا تعتبرهم ضمن البدون، ورفضت تسجيلهم في “اللجنة المركزية”، وهي الجهاز الحكومي الرسمي المعني بأوضاع البدون آنذاك، واعتبرتهم أتباع دول الجوازات التي حصلوا عليها، وغالبًا ما كانوا عرضة للتهديد بترحيلهم إلى تلك البلدان.
ويشير عمر العنزي إلى أن “الوضع القانونيّ للبدون يخضع لأمزجة العاملين في “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية“، والمعني بكافة شؤون البدون، وبينما يجب أن يكون عمله لترتيب حياتنا زاد الوضع سوءً، وأتى بادعاءات غير صحيحة، وإما أن تقبل فيها أو فإن حياتك مشلولة تمامًا”، ويضيف: “إن عدم قبولك بالجنسية التي يضعونها لك، خيار متاح لك، ولكنه يعني أنك عاجز عن مواصلة حياتك الطبيعية، وإن كنت قادرًا على المقاومة وحدك، فإنك ستنهار أمام مصير أبنائك فيما لو قررت الزواج وإنجاب أطفال“.
المعوّقات الاقتصادية: تكاليف الحياة الباهظة مقابل أجور ضعيفة
يعتبر الشاب محمد إن “المعوّقات الاقتصادية لا تقل أهميةً عن المعوّقات القانونية من حيث كونها من أسباب عزوفي عن الزواج، فبينما من الصعب أن أحصل على وظيفة لأني بدون، فالجهات الحكومية ترفض توظيف البدون إلا في حالات محدودة للغاية، والقطاع الخاص يستغلنا وبشكل كبير، حيث إننا عمالة وطنية رخيصة في السوق، وإن تمكن بدون من الحصول على وظيفة؛ فإن راتبها لن يتجاوز حدود 250-300 دينار كويتيّ (800-1000 دولار تقريبًا) في أفضل الأحوال، وبساعات عمل طويلة”.
ويضيف محمد: “بالمقابل فيما لو فكرت بالزواج، فإن تكلفة إيجار شقة سكنية لي ولزوجتي لن تقل عن 300 دينار كويتيّ (1000 دولار تقريبًا)، وهو ما لا يمكن تغطيته عبر الراتب الشهري وحده، فضلًا عن مسؤولياتي تجاه بيتي وزوجتي ولاحقًا أطفالي”.
ويشرح محمد التكاليف المالية الأخرى المترتبة على الزواج فيقول: “متوسط مهر الزواج يتراوح بين 3500 و5000 دينار كويتي (11000 و16000 دولار تقريبًا)، بينما تكاليف كافة تجهيزات حفل الزفاف الأساسية تتجاوز 5000 دينار كويتي (16000 دولار تقريبًا)”.
ويؤكد محمد على أنه “لا يمكن لفرد من البدون أن يتزوج ويتحمّل تكاليف الزواج إلا بأن يقع العبء على أسرة كاملة لمساندته، وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى إرهاق كاهلها بالديون لتزويج ابنها“.
ويصف شرشاب الشباب البدون بأنهم “بين سندان الفقر ومطرقة الجهاز المركزي”، لأن “فرص عملهم تكاد تكون معدومة، وتُفرض آلية تضيقية على توظيفهم من الجهاز المركزي، ويُلاحقهم في وظائفهم الحكومية أو في القطاع الخاص إن وجدت، بمنع رواتبهم من أن تصرفها البنوك أو بطردهم من العمل إذا كانوا بلا بطاقات أمنية صالحة أو غير مؤشر عليها بجنسية“.
وعن ذلك، يقول عمر العنزي إن “الشاب البدون لا يمتلك أمانًا وظيفيًا، من ناحية الاستقرار في وظيفة محترمة، أو من ناحية عدم توافر مدخول شهري ثابت حتى وإن كان ضئيلًا، وعدم تهيئة فرص عمل له في السوق بشكل عام، فالنظام الذي يترتب عليه حصوله على وظيفة في الدولة لا يقبله“.
ويضيف العنزي: "لا يمكنني أن أرتبط بفتاة تعيش كريمة في كنف والدها، وأضعها أمانة في عنقي، وأنا لا أضمن لها عشاءها".
المعوّقات الاجتماعية: عزل تام للبدون
يرى الشاب محمد أن العقبة الاجتماعية هي إحدى العقبات أمام زواجه، لأنه “لن يرغب أيّ ولي أمر تزويج ابنته بسهولة إلى بدون مثلها، رغبةً في ضمان حياة كريمة لها، وألا تعيش حياة بائسة؛ ناهيك عن إذا كان المتقدم للزواج عاطلًا عن العمل، أو موظفًا براتب لا يسدّ الحاجات الأساسية”، وأن “الرفض الاجتماعي سيكون مضاعفًا بالنسبة إلى الزواج من مواطنة كويتية للأسباب ذاتها، بالإضافة إلى معاناة الكويتيات المتزوجات من البدون، وبينما المرأة لها الحق في تمرير جنسيتها إلى أبنائها في الدول المتقدمة، تنازع الكويتية المتزوجة من بدون لنيل أبسط الحقوق لهم؛ حيث لا يتمتعون سوى بامتيازات لا تُذكر”.
ويوضح محمد أن “العزل الاجتماعي سيكون مختلفًا لو كنت أحمل أية جنسية أخرى، لأن معظم هذه المعوّقات لكوني بلا جنسية، فالمصريّ أو السوريّ أو العربيّ عمومًا والمقيم في الكويت وضعه مغاير تمامًا من كافة الجوانب، ويترتب على حمله الجنسية والإقامة الصالحة أنه يمارس حياته بشكل طبيعي، وكذلك أبناؤه بالتبعية، في العمل والدراسة والعلاج وغيره”، وإن كافة المعوقات ستزول في حال “حصول البدون على حق المواطنة، والتي يأتي لصيقًا معها كافة حقوقه المدنية”، وإن تحقيق الأخيرة وحدها غير كافٍ، “لأنها يمكن أن تُعطى وأن تُسلب، فبالتالي لا تنازل عن حقي الأصيل في المواطنة“.
ويتصوّر شرشاب أن “وجود جيل من الشباب بلا تعليم أو عمل، وبالتالي بلا هدف في الحياة، خلق عوائق متعددة، وأحدها العائق الاجتماعي الذي ولّد الخوف من الزواج وإنجاب أطفال معدمي الحقوق الأساسية بلا حتى شهادة ميلاد تثبت بأنهم أطفاله على الأقل، مما يتسبب حرمانهم من الحياة الطبيعية لأي إنسان”، ويضيف: “والخوف من كيفية استطاعته توفير مسكن يليق بهم، واكتظاظ المنازل الشعبية التي يقيمون بها وتبلغ مساحتها أقل من 80 مترًا مربعًا، ويسكنها معهم أكثر من 21 شخصًا، وسلسلة من المخاوف لا تنتهي”.
بجانبهما، يرى الشاب سعد أن المعوّق الاجتماعي في عزوف الشباب البدون عن الزواج يتمثل في “نظرة المجتمع الدونية نحو البدون والمتوارثة عبر أجيال مختلفة ومتلاحقة“.
بينما يشير عمر العنزي إلى “الفوارق الاجتماعية”؛ حيث “تلعب دورًا أساسيًا في رفضي لفكرة الزواج، حتى يكاد أن يصل الحال بك إلى أنك لا تضمن موافقة أبناء عمك، أو الأقرباء في الدم والنسب، إن تقدمت إلى الزواج منهم، والسبب واضح ومعروف”. ويضيف: “لأن الفرد البدون لا يمتلك عملًا يؤمن له حياة كريمة، ولا أقصد بالحياة الكريمة الرفاهية أو رغد العيش، ولكن الحد الأدنى من القدرة على توفير الحاجات الأساسية كما يعيش أيّ إنسان في أي بلد من العالم“.
المساعدات الإنسانية: تسدّ حاجة ولا تعالج مشكلة
هذا وقد أطلقت “مبرة دشتي الخيرية“، وهي مؤسسة خيرية رسمية تأسست عام 2002، وتتبع وزارة الشؤون الاجتماعية في دولة الكويت، مشروع “تزويج شباب البدون” في أواخر عام 2019، ويخبرنا محمد أمين مسؤول المشاريع في المبرة، في حديث مع “مواطن” بأن “مشاريع المبرة الخيرية تستهدف الفئات المحتاجة في المجتمع، وبالأخص فئة البدون، لأنهم شريحة كبيرة من المجتمع ونراهم الأكثر استحقاقًا في الكويت”.
ويقول أمين: “ولأننا قريبون من البدون ونتلمّس احتياجاتهم، شعرنا بأهمية طرح مشروع “تزويج شباب البدون”، لكي نحاول أن نسدّ شيئًا من التكاليف التي تقع على الشاب المُقبل على الزواج، وبعد حصولنا على موافقة وزارة الشؤون الاجتماعية، طرحنا نموذجًا إلكترونيًا خاصًا للتقديم، وبدأت تصلنا طلبات متزايدة عليه”، ويضيف: “انطلق المشروع في أواخر عام 2019، وبدأنا به مطلع عام 2020 وحتى اليوم“.
ويشرح أمين المشروع قائلًا: “نقوم بتغطية الحالات من المساهمات الخيرية للأيادي البيضاء، وتُستقبل بالدفع إلكترونيًا؛ حيث تخضع للرقابة القانونية من وزارة الشؤون الاجتماعية، وتُقدّم المساعدات بعد فرز الحالات إلى الطلبات الأكثر احتياجًا، بعد أن تُقدّم إلينا كافة المستندات الموثقة من الدولة بأنه مُقدم على الزواج، من عقد زواج وخلافه، ونعتذر عن الحالات التي لا تتمكن من تقديم كافة المستندات المطلوبة”.
ويضيف أمين: "المساعدات التي نُقدّمها لا تتجاوز 1000 د. ك (3000 دولار تقريبًا) للحالة الواحدة، وتقتصر على تجهيز غرفة النوم والأجهزة المنزلية، وأحيانًا تشمل الأثاث المنزليّ"، وأوضح "أننا نسد حاجة ولا نعالج مشكلة".
ويقول أمين: “بعد طرح مشروع “تزويج شباب البدون” بلغ عدد المستفيدين إحدى عشرة حالة في عام 2020، وصُرف عليها مبلغ 9.132 د.ك (30 ألف دولار تقريبًا)، وبلغ عدد المستفيدين في عام 2021 إلى 63 حالة، وصُرف عليها مبلغ 38.005 د.ك (123 ألف دولار تقريبًا)، وبلغ عدد المستفيدين في عام 2022 حتى أغسطس/آب إلى 50 حالة، وصُرف عليها مبلغ 33.112 د.ك (107 آلاف دولار تقريبًا).
يصرّ البدون على انتمائهم إلى الكويت بينما ترفض الحكومة
وتعود أصول البدون في الكويت إلى قبائل بدوية عربية، عاشت في بادية الكويت في المناطق الحدودية بين الكويت والسعودية والعراق، مما أدى إلى عدم حصولهم على الجنسية الكويتية عقب فترة الاستقلال 1961 بسبب عيشهم في الصحراء وابتعادهم عن المدينة.
وتقول الحكومة الكويتية إن الغالبية العظمى من البدون من جنسيات عربية مختلفة، ترجع إلى الدول المجاورة، وعمدوا إلى إخفاء هويّاتهم الأصلية ومستنداتهم الرسمية أو إتلافها، وذلك للحصول على الجنسية الكويتية أو التمتع بمزايا الأشخاص الذين التحقوا بالسلك العسكري في وزارتي الدفاع والداخلية، والتي كانت تسجل السلطات حينها في وثائقهم “بدون جنسية”. بينما يصرّ البدون على أنهم ينتمون إلى بادية الكويت، وبأنهم ظُلموا بعد البدء بتطبيق قانون الجنسية الكويتي لعام 1959 لاعتبارات عدة مختلفة، قبلية وسياسية وطائفية.
وأعلن “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية” (البدون) في فبراير/شباط الماضي، أن 18217 شخصًا من البدون قاموا بتعديل أوضاعهم (إلى جنسيات أخرى) في الفترة من عام 2011 حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، منهم 9127 شخصًا قاموا بإنهاء إجراءات تعديل أوضاعهم، وجاري متابعة 9090 شخصًا ممن حددت إدارات الجهاز جنسياتهم الأصلية.