نشرت هذه المادة بالاتفاق مع ”رصيف 22“
لطالما آمنت بأن النسوية فطرة. فطرةٌ قابلةٌ للسلب والنزع، بموجب الولادة، وإعلان نوع الجنس. مكان الولادة سيحدد شدة الدهس وقوّته على هذه الفطرة. حرية الاختيار ستنتهي في اللحظة التي يُعلَن فيها عن جنس المولودة؛ “بنت”. عندها، تولَد حياة التسيير، وتُدفَن حياة الاختيار، قبل أن ترى النور. وأنتِ لستِ إلا إحدى الممثلات المسيّرات في نمط حياة مسبوقة الاختيار، ولا أعني بهذا “الحياة التي تم تحديدها مسبقاً”، أو الحياة التي اختارها الوالدان لأولادهم. كلا، إن مصائرنا كنساء تم تحديدها قبل ولادتنا بمئات بل بآلاف السنين، ولم يتم اختيارها قبل بضعة أشهر قليلة.
مدهشة هي المفارقة في رحلة تطور حياة المرأة عبر التاريخ، وما آلت إليه أحوال النساء، من إلهةٍ تُعبَد قبل عصر المعادن، إلى كائنةٍ تُقتَل بسبب نوع جنسها في القرن الواحد والعشرين، تكابدين الحياة بسبب عضوٍ تناسلي يرسم قالب حياتك من المهد إلى اللحد.
أسهل وأسرع ما يمارسه الإنسان تجاهك في هذه البقعة، هو التأطير. يتم تصنيفك على أساس لهجتك، ولباسك، وجنسك، وأمور عدة نظن أنها بسيطة، لكنها تحدد الطريقة التي يتم التعامل بها معك. ولكوني امرأةً كويتيةً بدويةً، قد تم تأطيري منذ الولادة بأُطرٍ عدة، وتم زجّي في سجون عدة، وصفي هذا ليس مبالغةً، بل هو واقعي ودقيق جداً؛ فالمرأة البدوية حبيسة الإطار الذي رسمته لها أيادي رجال القبيلة في المقام الأول، مشبعين هذا الإطار بنظرةٍ دونية، نظرة لا نتلقاها من رجال القبيلة فحسب، بل حتى المجتمع الخارجي، في كثيرٍ من الأحيان، يمتلك النظرة نفسها، رجالاً ونساءً، ولطالما لازمتنا صفات معينة يتم ربطنا بها: جاهلات، ورجعيات، وهمجيات.
لا يقتصر الأمر على الصفات السلوكية، بل يمسّ الناحية الشكلية أيضاً، مما خلق عقدةً أسميتها “عقدة الحضارة” لدى أبناء القبائل، مشابهة لـ”عقدة الخواجة”، لكنها محلية، ومستبدّة أكثر، ويتحول بسببها الذكر البدوي إلى مسخٍ يعاني من نقص يجعله يُسقط هذه النظرة على نساء قبيلته، فتراه ينسخ أسلوب أولئك الذين يرونه بنظرة رجعية، ومعاملتهم، ويسقطها عليهن، وينسلخ بشكل جزئي عن بداوته، ظنّاً منه بأن حالة الانسلاخ هذه ستجعله ينسجم مع المجتمع، وتجعله مقبولاً ومرحباً به، ولا اعترض في ما يخص الانسلاخ عن القبيلة، مع يقيني التام باستحالته، لكن عندما لا تظهر بداوتك إلا في المواقف التي تدعم ذكوريتك، وتحديداً تلك المواقف التي تتعلق بتسلطك، وولايتك على نساء القبيلة، فأنت تعاني من “عقدة الحضارة”، وعليك طلب المساعدة والعلاج!
نُزعت مني نسويتي عنوةً، لكن ليس بشكل كامل، وبقي منها قدر ضئيل يتشكل على شكل أسئلة طفولية تظهر في بعض المواقف الروتينية، فدائماً ما كنت أتساءل عن سبب اختلاف عدد تمائم أخوتي الذكور عن الإناث، وأتساءل دائماً عن العديد من الجمل الذكورية في ثقافتنا، التي يُحشَر بها الجنس النسائي، كدلالة على الضعف والهوان، أو كنوع من أنواع الشتائم، مثل نعت الرجل بكلمة “امرأة”، عندما يفعل فعلاً خطأً: لماذا ارتبطت الذكورة بالانتصار والفرح، وارتبطت الأنوثة بالعار والخزي؟ كانت هذه الأسئلة البريئة التي لم يُعثَر لها على تفسير مقنع، حتى لعقلي الطفولي آنذاك، بداية البركان، أو الفضول الذي يسبق العاصفة.
عزل النساء البدويات
العزل الجغرافي الذي يمارًس ضدنا، نحن نساء البدو، كان سبباً في اعتقادنا بأنه من الطبيعي أن نعيش كبشر من الدرجة الثانية. كان ذلك عندما كنا نؤمن بأننا أقل قيمةً من الرجل، وأن الذكورة مقدّسة. كنا راضياتٍ مرضيات، ولم نتعامل مع غضبنا كأنه مستحَقّ، بل نستنكره، وندفنه، ونظن أن ما يمارَس تجاهنا من ممارسات ذكورية، ما هي إلا مراحل عمرية، وجزء من دورة الحياة التي يجب أن تمر بها كل فتاة. دائماً ما كانت تشكل لي فكرة التشابه في مصائرنا رعباً، فعلينا أن نتّبع خطةً زمنية محددة، فيجب أن نتحجب في عمرٍ معين، ونغطّي أوجهنا في عمرٍ معين، ونتزوج في عمرٍ معين، وننجب في عمرٍ معين. وحتى خيارات تخصصاتنا الدراسية معينة ومحدودة. تخمد تساؤلاتي حين أرى من حولي، فهذا هو الطبيعي! أليس هذا ما تفعله النساء كلهن؟
وعندما أقول النساء كلهن، فأنا أعني النساء في محيطي اللواتي أعرفهن، واللواتي تربين في بيئتي نفسها، مما يجعل الاختلاف أمراً شبه مستحيل، وإن وُجد يعدّ طفرةً فحسب. العزل الجغرافي الذي يجعلنا لا نرى النساء المختلفات، إلا في المجلات، ومن خلف شاشات التلفاز، هو أحد أهم أساليب الذكورية التي تمارَس ضدنا، نحن نساء البدو، برضا من الحكومة، فالعزل عنصر أساسي لتطبيع الذكورية، وجعلها نمط حياة بالإرغام. والإرغام لم يقتصر على الغصب بالقوة فحسب، بل كانت له أشكال عديدة غير مقتصرة على الضرب، والصوت العالي. وبالنسبة إليّ، الإرغام المستخدَم ضدنا، هو أسوأ الأنواع؛ الإجبار الصامت الهادئ الذي نستقبله، ونحن لا نعي أنه إجبارٌ. لم يمنحونا فرصةً للاطلاع على بقية المجتمعات، وسلبوا منا حق الاطلاع، كي لا نقارن حياتنا بحيوات غيرنا، ونستنج هذه الفروق، فنحن معزولات بسبب مخاوفهم، لأنهم يعلمون أننّا لو اطّلعنا على ما يحصل في الخارج، لعلمنا أن حياتنا هذه ليست طبيعيةً، فوعي هذه النقطة هو أكبر مخاوفهم.
ادّعاء النسوية
هذا ما تفعله القبيلة بنسائها، والأسوأ هو ما تفعله الحقوقيات مدّعيات النسوية معنا. أُفضّل تسميتهن أنصاف النسويات “التركوازيات”، فهن لسن برجوازيات، ولسن من العائلة الحاكمة، أو من أسر التجّار المسيطرة. هن خليط من ذلك وذاك. مع دخولي الجامعة، وخروجي من مرحلة العزل، اطلعت على مقالاتٍ ومقابلات لأشهر النسويات الكويتيات من اللواتي امتدت أنشطتهن النسوية لعشرات السنين. وعلى مدار هذه السنين الطويلة، لم تذكر إحداهن معاناة المرأة الكويتية البدوية، ولا حتى بسطرٍ واحد! فإن كن جاهلات، فهذه مصيبة، وإن كن متجاهلات، فالمصيبة أعظم!
هل من المعقول والمنطقي المطالبة بالحقوق السياسية لنساء الكويت، وأكثر من نصفهن يفتقدن حق الحياة؟ حتى بعدما أخذت المرأة الكويتية حقوقها السياسية، بدأت “التركوازيات” بتوجيه اللوم إلى نساء القبائل، بجملٍ مثل “لماذا المرأة لا تصوّت للمرأة؟”، وإن “عدم تصويت نساء القبائل للنساء، هو السبب الرئيسي لغياب المرأة عن العمل السياسي”، متجاهلات تغييب نساء القبائل عن الساحة السياسية، فبعض نساء القبائل حتى قيدهن الانتخابي لا يخرجه لهن إلا ذكر، ويتحدثن متجاهلات كوننا مجبرات على التصويت للرجل الذي تتم تزكيته من قبل رجال القبيلة، للوصول إلى البرلمان، من خلال التشاوريات، والفرعيات المجرّمة قانونياً في الكويت، وأستطيع تصور عدم فهمهن لحياتنا، كوننا معزولات، ولا نستطيع التحدث عما نعانيه بسهولة، بسبب الخوف من الوصمة، وكون معاناتنا سببها شخص لا يبتعد عن حدود القبيلة وإطارها، لكن يظل جهلهن لنشاطنا المحدود سياسياً، وتوجيه اللوم لنا بدلاً من ذلك، أمراً لا يغتفَر ولا يبرر، حتى وإن جهلن ما نعيشه، فلماذا لم يفكرن في الأسباب؟ ولماذا لم يسعين لتحليل وضعنا الاجتماعي، وتفكيكه؟ ولماذا بدأن أسطوانة اللوم مباشرةً، متخطياتٍ التساؤلات التي كان من المفترض أن يطرحنها؟
الحراك النسوي السعودي
إن الحراك النسوي السعودي، هو الحراك الذي كان له التأثير الأكبر عليّ، مثلي مثل العديد من البدويات، لتشابه المعاناة، وتشابه المطالب، فما فائدة امتلاكي لحقوقي السياسية، وأنا معرّضة للتعنيف والقتل من دون أي حماية؟
التدرج في المطالب، هو ما تفتقر إليه الحركة النسوية الكويتية، ولا أعلم لماذا أسميتها حركةً نسويةً، وهي لا تشمل إلا نساء معينات؟ عندما أكون نسويةً بدويةً، فأنا لا أواجه جبهةً واحدة، بل أواجه جبهات عدة، من رجال لا يروننا نستحق الحياة، وحقوقيات لا يريننا نظيراتٍ حقيقيات لهن في الحراك النسوي، بل ضحايا وجب إنقاذهن لتسطيرنا كعدد في ملف إنجازاتهن وبطولاتهن.
هرم الإطارات التي وُضِعنا فيها كنساء بدويات في مجتمع طبقي لا ينتهي، من امرأة مضطهدة من القبيلة والمجتمع المختلف عنها، إلى قبيلة مضطهدة من قبل الحكومة، ومن الطبقات الأعلى منها، فينتهي بنا الحال في مجتمع يضطهد كل طرف فيه الطرف الآخر، حسب ما يتميز به.
يقال: “يولد المولود ورزقه معه”، وأنا أقول: تولد الأنثى وقالبها معها؛ نقبل على الدنيا ومعنا قوالبنا، قوالب يعيبها ضيقها، فلم تسعنا، ولن تتسع لنسويتنا معنا، وتالياً يتم انتزاعها منا بشكل أو بآخر، حتى نُعجَن ويعاد تشكيلنا في أشكال تتماشى مع هذا القالب، لكي نتلاءم مع المجتمع. كلما كبرنا، ضاقت علينا قوالبنا أكثر فأكثر، لكن الأسوأ هو عدم إدراكنا أن هذه القوالب ما هي في الواقع إلا زنازين سُجنّا فيها، سواء أكان هذا السجان أماً، أو أباً، أو سلطةً، أو أي عابر في الطريق. يرى البعض هذه الزنازين منطقة راحةٍ، لكن أعتقد أن الموت دائماً يكمن في تلك الأماكن التي نظنّها أماننا.