يناقش أرسطو في كتابه الثاني من مؤلفه “السياسة” ستة أنظمة سياسية يتخيلها لستة أنواع من المواطنين، واحد من هذه الأنظمة هو النظام الديموقراطي، فهل الديمقراطية مناسبة للمجتمعات العربية؟
الذين لا يستطيعون الفصل بين آمالهم وبين حال الواقع ومتطلباته سيجيبون بـ “نعم”! أما الواقعيون فسيطرحون المزيد من الأسئلة: هل يمكن تطبيق هذا النظام؟ وهل ستتقبله المجتمعات العربية في ظل وضعها الراهن؟ ومن الذي سيفوز بالسلطة في ظل غياب دستور يحمي الديمقراطية، ومجتمعات متدينة (مِلل) تتطلع نحو مستقبلها في الآخرة أكثر مما تخطط لحياتها الدنيوية؟ وما الذي يمكن عمله لأجل أن يصبح نظام الحكم هذا قابلًا للتطبيق؟
الدولة قبل الديمقراطية
يعلمنا جورج طرابيشي أن الديموقراطية تتجوهر في صندوق الرأس قبل أن تتمظهر في صندوق الاقتراع، وأنها مفهوم برسم الزرع لا ثمرة برسم القطف، وأن العلمانية والديموقراطية توأمان لا يمكن الفصل بينهما.
لو تخيلنا أن الديموقراطية نظام تشغيل، والمجتمعات العربية هي الأجهزة، يمكننا حينها برمجة أو تنصيب النظام الديموقراطي! ينبغي أولًا، وقد استعرنا مثال الكمبيوتر، التخلص من الفيروسات حتى لا يكون النظام الديموقراطي قابلًا للانهيار في أية لحظة!
والحال أن أغلب الأجهزة العربية بيئة جاذبة لفيروسات التدخل العسكري والديني والقَبَلي في شؤونها المدنية والسياسية، والمُشْكل أن بيئة تنصيب مكافح الفيروسات تتطلب برنامجًا طويل المدى يقوم على نوعية التعليم والثقافة، وهذه خطوة ليس لها بوادر، وتشي في الظروف الراهنة بإمكانية الإجابة بـ “لا” على السؤال المطروح أعلاه.
القول بغياب بيئة صالحة لاستزراع أو تنصيب النظام الديموقراطي شيء، والقول عن الكف عن التجريب شيء آخر، على اعتبار أن التجريب مرادف للتمرين، وهو مقدمة لتهيئة البيئة المقصودة.
في هذه المجتمعات التي يرتبط فيها تعريف الفيروس في أذهان الجماهير الغفيرة كمرادف للخير والصالح العام، من السهل وصولها إلى السلطة والحكم عبر صناديق الاقتراع وباختيار ورضا الأغلبية، ويمكن حينها اعتبار هذه الأنظمة “ديموقراطية“؛ كونها تحظى بقبول أغلبية الشعب!
في هذه الحالة من اختلاط المفاهيم لا يمكن فرض نظام بعينه، لأن صبغة الحكم تاريخية وتنبع من المجتمع نفسه، والحركة هنا تكون من القاعدة إلى قمة الهرم، كما قال عبد الكريم سروش في كتابه “الدين العلماني“: “فليست الحكومة العلمانية هي التي جعلت الناس علمانيين، بل إن الناس العلمانيين هم الذين جعلوا من حكومتهم علمانية. والحكومة الدينية لا تجعل الناس متدينين، بل إن الناس المتدينين هم الذين يفرضون على حكومتهم أن تلتزم بتعاليم الدين وتحترم أحكام الشريعة”.
وهو قول تخالفه تجارب عملية عديدة، منها تجربة إيران، التي تحولت من المذهب السني إلى الشيعي، ومن الحكم العلماني إلى الديني، بتغيُّر الحاكم، وكذلك التجربة التركية، بتحولها من الخلافة العثمانية إلى الدولة العلمانية، وتجربة تونس في عهد بورقيبة، ثم التجربة السعودية بقيادة محمد بن سلمان، وهي تجربة لم تكتمل بعد، لكن أهميتها في تبعية الديني للسياسي.
مشكلتنا العربية إذن ليست في غياب الديمقراطية، وإنما في غياب الدولة. نحن نعيش في عصر ما قبل الدولة، في عصر السلطة التي ينصب اهتمامها في الحفاظ على بقائها في الحكم وتسخير كل الموارد لأجل ذلك.
في مختبر الديمقراطية
التصور المثالي للعلمانية قادنا إلى الاعتقاد أنها مفهوم قابل للاستيراد والتطبيق، بغض النظر عن ظروف المستورد، والحال نفسه مع التصور المثالي للديمقراطية الذي يجعلنا نُخرج الديمقراطية من معمل التجربة المتراكمة والمستمرة- التي تقتضي ممارستها التعلم من الأخطاء- إلى خانة المثالية المنزهة.
ثمة مسح سنوي تقوم به جامعة جوتنبرج يسمى “أصناف الديمقراطية“، ويتم تحويل البيانات المدخلة، عبر خبراء في كل بلد، إلى جداول تصنف الدول إلى نوعين: ديمقراطيات، وأنظمة سلطوية، ويعتمد التصنيف على مدى تحقق الديمقراطية عمليًا، لا وهي مكتوبة على الورق.
وفقًا لهذا المؤشر هناك تسع عشرة “ديمقراطية كاملة“، تحل النرويج أولًا، وهولندا عاشرًا، وأمريكا أخيرًا. وهناك 57 “ديموقراطية معيبة”، تأتي إيطاليا أولًا، بعد خروجها مع اليابان من قائمة الديمقراطيات الكاملة. وفي هذه القائمة نجد أيضًا (فرنسا، إسرائيل، الهند، وتونس). وهناك 40 “نظامًا هجينًا”، على رأسها جواتيمالا، وفي أسفلها أرمينيا. وعدد “الأنظمة السلطوية“، واحد وخمسون، موريتانيا في الأعلى، وكوريا الشمالية في الدرك الأسفل من التسلط. وفي هذه القائمة أيضًا (روسيا ومصر وقطر) وبقية الدول العربية.
واحدة من مشكلات عدم التوصل إلى صيغ للتعايش الديمقراطي هي حضور “الديمقراطية الصورية” وغياب أشكال أخرى للديمقراطية؛ مثل الديمقراطية التداولية والتشاورية والليبرالية، والتي يمكن استلهامها حسب حاجة المجتمعات وظروفها المختلفة من أجل تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية في إطار مدني جامع.
غياب الديمقراطية لا ينعكس سلبًا على الداخل فقط؛ بل وخارجيًا؛ فالديموقراطيات، بحسب “نهاية التاريخ” لفوكوياما، “لا يشكل بعضها خطرًا على بعض”، والحروب “لا تنشأ بين الديموقراطيات الليبرالية”. وبتعبير جون ميلر؛ فإن الحرب بين ديموقراطيات معاصرة كهولندا أو الدنمارك “لا يمكن تخيلها أصلًا ولا في المنام”. في “نهاية التاريخ” كتب فوكوياما فصلا عن “قوة الضعفاء” المتمثلة في الديمقراطية، قوة الضعفاء عند فوكوياما هي الليبرالية الديموقراطية؛ وهي أهم سلاح، من وجهة نظره، حتى في عصر تدار فيه الحروب بالريموت كونترول، “فما من قيمة لعدد ما تملكه الدول من الدبابات والطائرات، إن كان جنودها وطياروها عازفين عن ركوبها واستخدامها ضد من يقال لهم إنهم أعداء دولتهم، أو إن كانوا عازفين عن إطلاق النار على متظاهرين مدنيين لحماية النظام الذي يخدمونه في الظاهر؛ فالشرعية إذن- على حد تعبير فاكلاف هافيل– تمثل (قوة الضعفاء)”
ويقول مونتسكيو في “تأملات في تاريخ الرومان“: “نرى منذ قرنين مشاة دولة الدنمارك ينهزمون في كل مواجهة تقريبًا أمام نظرائهم السويديين، بصرف النظر عن شجاعة المقاتلين ودور الحظ في كل لقاء”. ويتساءل: “لا بد أن يكون في النظام الدنماركي، العسكري والمدني، خلل خفي يؤدي بالدوام إلى النتيجة نفسها. ولا أرى في الأمر سرًا عصيًا عن الكشف”. ويوضح المترجم عبد الله العروي ذلك الخلل قائلًا: “السبب الجلي في نظر مونتسكيو هو استبداد ملك الدنمارك”. لكن أيام الاستبداد تلك قد ولّت، وهذا ما يبينه مؤشر الديمقراطية حيث تحل الدنمارك خامسًا في قائمة “الديمقراطيات الكاملة”.
تظل الديمقراطيات، والعلمانيات، في اختبار دائم، وصعود وهبوط أو انتكاس، حتى مع وجود دستور ومؤسسات تحميها؛ ذلك أنها تتفاعل مع شعوب حية، لا مع ملائكة أو شياطين، ويظل السؤال: كفة من هي الراجحة؟ وكيف يمكن زيادة ترجيح كفة الديمقراطية، وهل نتعلم من أخطائنا أم لا؟
استعارة درامية
الحلقة الخامسة من الموسم الثالث في المسلسل البريطاني “التاج” عنوانها “الانقلاب“، لكنها في الوقت نفسه درس في الديمقراطية.
أحداث المسلسل هي معالجة درامية للتاريخ، تدور أحداث هذه الحلقة حول قرار حكومة ويلسون عزل اللورد ماونتباتن من وزارة الدفاع لرفضه تقليص ميزانية الدفاع، تفشل الحكومة في حل الأزمة الاقتصادية، فتقوم بتعويم الجنيه ويزداد الوضع ترديًا، فيجدها الرأسماليون فرصة للانقلاب على الحكومة بالتواصل مع ماونتباتن بهدف الترتيب لانقلاب عسكري. يوضح اللورد أسباب نجاح الانقلابات في الكثير من الدول واستحالة نجاحه في بريطانيا؛ بسبب وجود مؤسسات ديمقراطية عريقة، ويقترح عليهم عاملًا واحدًا بإمكانه إنجاح الانقلاب؛ وهو دعم الملكة. وبعد علم رئيس الوزراء بتحركات مجموعة ماونتباتن يتصل بالملكة إليزابيث مهددًا بتحريك جبهة الجمهوريين للانقضاض على الملكية، تلتقي الملكة بماونتباتن ويدور بينهم الحوار التالي:
ماونتباتن: لماذا تحمين رجلاٍ مثل ويلسون؟
تنظر إليه الملكة إليزابيث بغضب وتقول: أنا لا أحمي ويلسون، وإنما أحمي رئيس الوزراء، أحمي الدستور، أحمي الديمقراطية.
ماونتباتن: لكن إن كان الرجل الذي يقف في قلب تلك الديمقراطية يهدد بتدميرها؛ فهل نقف مكتوفي الأيدي ولا نفعل شيئا؟
الملكة: نعم. وظيفتنا هي ألا نفعل شيئًا، وننتظر الناس الذين انتخبوه وأتوا به إلى السلطة عن طريق الصندوق أن يطردوه عبر الصناديق نفسها، إذا كان هذا هو قرارهم.
استعارة درامية أخرى نجدها في فيلم “جسر الجواسيس“، 2015، يخاطب جيمس دونوفان (توم هانكس) العميل السري هوفمان: “أنا أيرلندي وأنت ألماني، لكن ما يجعلنا أمريكيين هو شيء واحد فقط: كتاب القواعد الذي نطلق عليه الدستور، وبموجبه نوافق على القواعد”. ولنا أن نتساءل: ما الذي يجمعنا كعرب؟
لنرى في المقابل كيف تُعالج الديمقراطية دراميًا في الشاشة العربية. يتحدث فيلم “إمبراطورية م” 1972م، عن أُم (فاتن حمامة) تضحي بالحب وبسعادتها الشخصية في سبيل أبنائها، وعن قدرة المرأة على الجمع بين مهامها في البيت كأم لستة أبناء، وبين مهامها في الوظيفة الحكومية كمديرة لمنطقة تعليمية، برغم الصعوبات التي تواجهها في الوظيفتين. قصة الفيلم اجتماعية، لكن دلالاتها السياسية واضحة، عن مفهوم الحرية والديمقراطية وحاجتهما إلى المسؤولية. لا يكتفي الأبناء بالحرية المحدودة التي تمنحها لهم الأم، والمشروطة بتحمل المسؤولية؛ فيطالبون بانتخاب ديمقراطي حر. تقبل الأم بالتنازل عن سلطتها، وتنتهي الانتخابات بمرشح وفائز وحيد؛ هي الأم نفسها! فازت بدون دعاية انتخابية سوى ما قدمته لأبنائها من رعاية وحب.
هل كانت الرقابة ستسمح بتمرير قصة الفيلم لو أن نتيجة الانتخابات (الديمقراطية) أدت إلى سقوط “الأم” وتم انتخاب ابنها مصطفى، الذي بذل مجهودًا في الدعاية لنفسه، ثم اختار أمه في الأخير مع البقية لتفوز بالإجماع! يقول مصطفى: “لنسميها إمبراطورية جمهورية ديمقراطية ميم.” ترد الأم: “مش مهم الاسم، المهم أن يجمعنا الحب.” والرسالة: سنمنحكم الحرية والديمقراطية بشرط انتخاب “الأم”. وبناء عليه: لا حاجة لانتخابات، لأن الواقع مطابق لقصة الفيلم أو هذا ما يراد إيصاله!
الشائع أن يمثل السلطة الأبوية رجل، لكن الفيلم يقلب السائد بجعل الأم ممثلة لهذه السلطة، بما تعنيه الأم من احتضان واحتواء، سلطة ناعمة تجمع بين الشدة واللين؛ فهي تجمع في يدها الوظيفتين: وظيفة الأم ووظيفة الأب المتوفى. ورسالة الفيلم تقول بأننا غير مستعدين للديمقراطية، أو أنها لا تناسبنا، ولعلنا بهذا نكون أدنى من الحيوان!
الديمقراطية في عالم الحيوان
هناك من يؤمن بأن الديمقراطية تصلح لشعوب دون أخرى قائلًا: “إعطاء الحرية والديمقراطية لجاهلٍ مثل إعطاء السلاح لمجنون”. أو يستعين بمقولة تنسب لبرنارد شو: “الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل؛ لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصيرك”!
باستعارة الديمقراطية من عالم الحيوان فقد؛ وجد المشاركون في مؤتمر تعقده سنويًا جمعية الإثنولوجيا الأمريكية ومركز دراسة الذئاب في أستراليا، أن الذئاب “تتخذ قرارات بالإجماع ويساعد بعضها الآخر؛ فيما تقوم الكلاب بإصدار أوامر استبدادية أو تمتثل لإرادة الغير.”
الحيوانات التي تعيش في قطعان “تفضل الحياة الديمقراطية وتكره الديكتاتورية.” ورغم ما يلاحظ من أن هناك قائدًا قويًا يتخذ القرارات وتقتدي به بقية القطيع، إلا أن “العلماء يعتقدون أن الحيوانات تعيش حياة أقرب إلى حياتنا الديمقراطية.”
على سبيل المثال: عندما تتعدد الخيارات أمام قرود مكاكا تونكينا لحظة البحث عن الغذاء، يلجؤون إلى التصويت؛ بأن يذهب قرد منهم في اتجاه، يتوقف ويُدير رأسه إلى القطيع. فإن وافقوا على الاتجاه، يتبعونه. وإن لم يوافقوا، يتقدم قرد آخر في اتجاه ثانٍ، مُقترحًا خيارًا جديدًا، ومتى ما تمَّ الإجماع على اتجاهٍ مُعين، ينصاع باقي القردة الذين لم يُصوتوا إلى رغبة الأكثريَّة.”
وفي تجربة للدكتورة لاريسا كونرادت والبروفسيور تيم روبير من جامعة سيوسيكس حول الكيفية التي تصنع بها الحيوانات القرارات الجماعية، “وجدا أن المجموعات الكبيرة منها تفضل الحياة الديمقراطية على العيش في مجموعة استبدادية تحت حكم فرد واحد من غير منافس، حتى لو كان أكثر أفراد المجموعة خبرة. وأظهر النموذج الذي صممه الباحثان، أن للقرارات الجماعية أثرًا مباشرًا على أفراد القطيع. أما المجموعة الاستبدادية؛ فإن قرار القائد فيها هو المؤثر؛ حيث تتحرك بقية أفرادها متى تحرك من مكان الرعي حتى لو كانت لا تزال جائعة، بينما لا يتوقف أعضاء المجموعة الديمقراطية عن المضغ حتى تأخذ الأغلبية كفايتها من الكلأ. واكتشف الباحثان أن إشارات التصويت المتبعة لدى الحيوانات تشمل لغة الجسد أو النداءات، وأنه بإمكان مجموعة صغيرة أن تؤثر في بقية القطيع.”
في انتظار جودو
بالطبع لا تخلو ديمقراطيات العالم من عيوب ذكرها ديفيد جريبر في كتابه “مشروع الديمقراطية“، وما من ديمقراطية واحدة في كل العالم. ويمكن لنبتة الديمقراطية أن تنمو في المنطقة العربية واستثمار ثقافة الطاعة بتحويلها من مجال الدين إلى مجال الدولة. المشكلة أننا لم نفعل شيئًا من أجل استزراع الديمقراطية في المنطقة العربية، وما لم نحسم مسألة تداول السلطة ديمقراطيًا؛ لا يمكن الحديث عن الاستقرار والتنمية؛ إما أن تُحل الأحزاب ونعيش في ظل حكم الحزب الواحد، أو أن تُطبق التعددية السياسية الحزبية على أصولها. هذا التذبذب هو سبب عدم الاستقرار، ولا استقرار أو ازدهار اقتصادي أو أمني بدون استقرار سياسي أساسه الحزب الواحد، لا الفرد أو التعدد السياسي والتداول الديمقراطي للسلطة.