الموسيقى والغناء في السعودية مرا بمراحل عدة يصعب حصرها، تأثرت خلالها بكل المتغيرات الحياتية، وتعتبر فترة الستينيات هي المرحلة المفصلية في نشأة الفن الغنائي والموسيقي في المملكة، ومع ذلك بقى الفن الموسيقي والغنائي محظورًا خارج أسوار المؤسسة العسكرية والإذاعة.
قبل ذلك كان هناك مجموعات قليلة من هواة الموسيقى والغناء في كل من منطقة الحجاز والمنطقة الشرقية والوسطى، ممن كانوا يمارسون العزف والغناء خفية وداخل غرف مغلقة ومعزولة،أو في أماكن نائية بعيدًا عن أعين الرقباء، خشية أن يتم ضبطهم متلبسين بالآلات.
كان يتعرض عازفو الموسيقى إلى تكسير آلاتهم الموسيقية، أو حمل الآلات فوق رؤوسهم والطواف بهم في الأسواق باعتبارهم فسقة ومارقين.
يؤكد الملحن عبد الرحمن الحمد، أن المتشددين في السعودية قادوا حربًا شعواء على الفن والفنانين واستهجان الموسيقى والغناء والمسرح والعاملين بها، وتحت ضغط هذه الظروف تم حظر الموسيقى والغناء باعتبارها حرامًا ووسيلة لعب ولهو ورفاهية.
ويضيف: “بعد تعيين ولي العهد محمد بن سلمان، بدأت مظاهر الترف تطغى على الحياة العامة في البلد، حتى أصبحت حركة الموسيقى والغناء نشطة، يقابله في الاتجاه الآخر التقلص التدريجي لنفوذ المؤسسة الدينية، ولا عاد هناك مكان للقول بأن الموسيقى والغناء حرام”.
في فبراير 2019، أعلن وزير الثقافة السعودي، بدر بن عبدالله آل سعود، عودة الموسيقى والفنون إلى مناهج التدريس بعد فترة طويلة من الانقطاع استمرت أربعة عقود تقريبا، كما أعلنت المملكة في مايو من العام الجاري عزمها على تعميم تدريس الموسيقى لطلاب المدارس، على لسان سلطان البازعي، رئيس هيئة الموسيقى السعودية؛ بحيث تكون جزءً من المواد الفنية الدراسية التي يتم إدراجها في مناهج التعليم العام، بجانب دراسة المسرح والفنون التشكيلية، وصناعة الأفلام السينمائية.
فكيف استقبل السعوديون هذه القرارات؟ وكيف عرف المجتمع السعودي الموسيقى من قبل؟ وماذا كان يفعل هواة الموسيقى بالمملكة؟
كالعادة خرجت فئة معترضة على قبول شيوع الموسيقى في المجتمع السعودي، واختلفت أسباب الهجوم على قرار السعودية بتدريس الموسيقى ما بين الديني والأخلاقي والمجتمعي.
يقول محمد اليحيا، مواطن سعودي، في تصريحات خاصة لمواطن، أن هناك مجالات أخرى غير الموسيقى كانت أحق بالاهتمام ويضيف: مخرجات التعليم الجامعية عندنا ضعيفة، نقص في الأطباء والمهندسين والتخصصات العلمية النادرة، البطالة مرتفعة النقل العام شبه مفقود والكثير من الأولويات”.
كما كتب مغردون عبر تويتر الكثير من التغريدات الرافضة لقرار تدريس الموسيقى، حيث كتب حساب باسم “سماحة الشيخ” يقول: “يريدون إفساد المجتمع وإدخاله سكة الغناء والخراب، استضافوا الموسيقى في المناهج الدراسية لكي يصبح أطفالنا وشبابنا أهل الملاهي والبارات”
يريدون إفساد المجتمع وإدخاله سكة الغناء والخراب
— سماحة الشيخ (@sheikh1932) September 21, 2022
وعزله عن إشغال أوقاته بما ينفعه في دينه ودنياه ..
ولم يكتفوا بذلك بل استضافوا الموسيقى إلى المناهج الدراسية لكى يصبح أطفالنا وشبابنا أهل الملاهي والبارات !!#السعودية pic.twitter.com/WocroiX02k
ماذا سيُقدّم تدريس الموسيقى لأبنائنا غير الانحلال والتخنث والاغراق في اللهو والغفلة والضياع !!#لا_نريد_الموسيقي_بالمدارس
— معالي الربراري (@Mrbrary) May 24, 2022
وكتب حساب باسم سعيد بن ناصر الغامدي، تغريدة قال فيها: “ستصبح البلاد أكبر دولة في الرقص باعتماد تدريس الموسيقى في سبع جامعات”.
وبحسب وسائل إعلام سعودية فإن الجامعات السبع التي تم اعتماد تدريس الموسيقى فيها يأتي ذكرهم على النحو التالي: “جامعة الملك سعود، جامعة جازان، جامعة الملك خالد، جامعة تبوك، جامعة حائل، جامعة عفت، وجامعة دار الحكمة”.
تداولت الأخبار عودة تدريس الموسيقى في المناهج السعودية، فهل درس السعوديون الموسيقى من قبل؟
يوضح محمد القثمي “مواطن سعودي”، أن مناهج الموسيقى كان موجود في المدارس، وتحديدًا من بداية الستينيات حتى نهاية السبعينيات، لكن توقفت بعد دخول “جهيمان” للحرم المكي الشريف، وبعدها بداية الظلام الفكري للتيار الديني بالسعودية، حيث كان عمره في ذلك الفترة 10 سنوات، وشهدت فترة طفولته هذا التحول.
ويضيف القثمي: “كان جهيمان رجل جاهل ومتشدد جمع مجموعة من الشباب الصغار، وأوهمهم بظهور المهدي المنتظر، وأن البداية من الحرم المكي بالسيطرة عليه، ومبايعة المهدي المزعوم لإخراج الناس من الضلال إلى الهدى بحد زعمه”.
مثقفون سعوديون موسيقيون مع انفتاح المملكة على الفن والموسيقى
يؤكد إبراهيم الدخيل، ملحن سعودي لمواطن، أن قرار تدريس الموسيقى سيكون له أثر ثقافي وعلمي على نفوس الطلاب، ويساعدهم في فهم لغة العالم والإدراك التام لأهمية الموسيقى في حياتنا وتأثيرها الإيجابي على الروح والنفس والمجتمع، ويضيف: ” تدريس الموسيقى سوف يساهم في تطوير مستقبل الأغنية السعودية ويقدمها للجمهور بشكل أفضل”.
إن كارهي الحياة يدفعون غيرهم إلى كره حياتهم، وهكذا؛ فإن كارهي الموسيقى لا يرغبون في سماعها ويحاولون منع الجميع من الاستمتاع بسماعها. ويعلق الدخيل، على هذا قائلًا: “كثير من المحبطين حولنا، ويجب علينا ألا نفكر في كلامهم، القطار يمشي إلى أمام الطريق، ومن أراد الركوب في قطار المستقبل نرحب به”.
يقول الملحن السعودي عبد الرحمن الحمد، في حديثه لمواطن: إن الموسيقى قديمًا كانت تستخدم في تأدية الطقوس الدينية المختلفة؛ بل وفي الاحتفالات المتنوعة، وكان لها دور هام في صهر الجماعات وضبطها وانتظامها في نمط متجانس؛ فكانت شعائر العبادة تبقى الوسيلة للتعبير عن نفسها في صور فنية، ويضيف : “إن جميع الفنون ومنها الموسيقى والغناء نشأت في أحضان الدين، باعتبارها الوسيلة التي تقرب البشر إلى القوى الغامضة وتهدئة الآلهة وإراحتها”.
ويعلق ياسر مرزوق، أستاذ الأدب الحديث ورئيس قسم مهارات تطوير الذات بجامعة تبوك، في حديثه لمواطن، على قرار تدريس الموسيقى بالمملكة قائلًا: إن هذا القرار أحد القرارات الهامة الذي طال انتظاره، والموسيقى في أصلها تنمي الذوق والذائقة، وتخاطب الشعور والوجدان”.
ومن ناحية الهجوم الذي طال القرار، فيرى مرزوق أن هذا الاختلاف يستوجب تقبله واحترامه ويضيف: “مجتمعنا لما يزل مجتمعًا محافظًا بوجه عام، ولا سبيل إلا بالتوسط والوسطية في الأمر بين طرف متشدد، وآخر متساهل”.
ما الذي كان يفعله السعوديون لدراسة الموسيقى أثناء حظر دراستها؟
يقول المثل الشعبي الذي لا يهزه الطرب فليس من العرب، فقبل قرار تدريس الموسيقى في المملكة، “كان الكثير من هواة الموسيقى يضطرون للسفر لدول خارج السعودية بهدف تعلم الموسيقى”. حسبما وضح الإعلامي السعودي عبدالرحمن المنصور لمواطن.
ويضيف المنصور: “قرار تدريس الموسيقى كان متوقعًا في ظل رؤية المملكة العربية السعودية وتنوع الحراك الاقتصادي والثقافي وصناعة الترفيه والاهتمام بالثقافة”.
أخيرا، وبعد سنوات من المنع
بعد سنوات تقدر بأربعين عامًا من حظر تعليم الموسيقى، واضطرار السعوديين السفر خارج المملكة لدراسة الموسيقى، وحقبة قديمة تعود لخمسينيات القرن الماضي، كان يلاحق فيها من يعزف الموسيقى في السعودية، وبعد توقف لإحياء الحفلات الغنائية في العاصمة السعودية، دام لثلاثين عامًا تقريبًا، أصبحت الممكلة نفسها يأمن مواطنوها أثناء ممارسة العزف الموسيقي والغناء، فهناك مسابقات رسمية للعزف تقام داخل المملكة، كما لم يعد المواطن السعودي بالحاجة للغربة لدراسة الموسيقى؛ فيمكنه الآن دراستها في أحد المعاهد السعودية، كما لم يعد يحتاج السعوديون لحضور الحفلات الغنائية في مصر ولبنان والأردن، بعد سماح المملكة بعودة حفلات الغناء على أراضيها.
في 2017 أحيا الفنان السعودي محمد عبده، حفلة غنائية في الرياض بصحبة الفنان راشد الماجد، بعد حظر إقامة الحفلات طيلة التسعينيات، وكانت آخر حفلة أحياها عبده تعود لـ 1988. تلقى مثل هذه الأنشطة هجوما من فئة تقول أنها تدعو للحفاظ على الوقار والدين والأخلاق، بينما تطلع فئة أخرى من السعوديين لمزيد من الانفتاح والتحديث، والتقدم في مجالات الفن والترفيه.