لا أقصد بالدور اليهودي في صناعة مذهب المحدثين؛ أي ازدراء أو احتقار لليهودية، أو طرح هذا المقال ضمن سياق التحريض الديني كما يحلو للبعض ذكره لليهودية كنوع من المؤامرة على الأمة، أو أن يتعلق هذا الدور بأي شوفينية أو قومية إسلامية مزعومة؛ أنتقدها وأتبرأ منها؛ فالقومية عندي هي للإنسان وصلاح البشرية، يكون بالأخلاق والعمل الصالح، وهو معنى كلمة التقوى في القرآن مصداقًا لقوله تعالى: “ولباس التقوى ذلك خير” [الأعراف : 26] و “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” [الحجرات : 13]
هذه الصفحات ستكون عرضًا إبستمولوجيًا لاستقراء مصدر فكر أهل الحديث الحقيقي بعيدًا عن التكهنات، وسيدور حول وضعية كل من “أبي هريرة وكعب الأحبار ووهب بن منبه وأبي بن كعب”، وغيرهم في نشوء هذا الفكر، وكيف انتقلت طرق التفسير التقليدية اليهودية للتناخ إلى فقهاء ورواة المسلمين، وقبل العرض والتحليل؛ أشير إلى جزئية هامة غفل عنها كل من خاضوا في هذا الشأن، وهو (الدور اليمني) جغرافيًا وثقافيًا في نشأة فكر الحديث، وكيف انتقل هذا الدور اليمني للعراق وسوريا بعد الفتنة الكبرى؛ فغالبية هؤلاء اليهود كانوا من اليمن ثم أسلموا؛ إما في فترة مبكرة من الدعوة الإسلامية، أو في عصر الخلفاء الأربعة، وحين نعرض للدور اليمني في ذلك؛ فهدفنا أن نستقرئ الواقع اليمني -ثقافيًا وسياسيًا- هذا العصر، وإمكانية أن يتصل هؤلاء بحضارات اليمن القديمة في حضرموت وسبأ ومعين.
فلدينا كعب الأحبار المتوفي عام 32 هـ، والذي كان يهوديًا منتميًا لقبائل “حِميَر” اليمنية، وكذلك “وهب بن منبه” الصنعاني ابن منطقة ذمار اليمنية والمتوفى عام 114هـ، حتى أبو هريرة الدوسي ابن قبيلة دوس اليمنية من أبرز فقهاء هذا الخط الروائي، وبرغم أن التاريخ لم ينقل ديانة أبي هريرة الحقيقية قبل إسلامه؛ إلا أنه نقل ديانة كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعلى الأرجح كان أبو هريرة شأنه كشأن الدوسيين يهوديًا حِميَريًا من الذين ورثوا أطلال مأرب السبأية في أعقاب معارك دولتي “حِميَر وسبأ” في القرون الأولى للميلاد، وأسلافه من الذين هجروا مأرب بعد انهيار السد لجبال الحجاز في الشمال، وتظهر ثقافة أبي هريرة باتصاله العقلي والوجداني الشديد بكعب الأحبار، حيث اشتهرت علاقتهما المتينة في التراث؛ لدرجة خلط روايات أبي هريرة عن الرسول بكعب الأحبار، وهي من بعض آفات روايات هذا الصحابي التي نقلها واستنكرها الإمام النووي وغيره.
إضافة لشخصيات أخرى هما “نوف البكالي” و “عبد الله بن عمرو بن العاص”؛ فالأول كان يهوديًا حِميَريًا فأسلم، أما الثاني كان صحابيًا يروي عن كعب الأحبار شأنه كشأن أبي هريرة، واشتهر في التراث (بالزاملتين) اللتين وجدهما في معركة اليرموك، وتحويان علومًا من أهل الكتاب، والزاملتان هي حقائب كبيرة تعني في المصرية (الشوال أو الغبيط أو الشيكارة)، وحين تحدث ابن كثير عن هاتين الزاملتين، قال منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود، فكان هذا أول ظهور ما يسمى (الإسرائيليات) في الفكر الإسلامي.
وبالنسبة للإسرائيليات؛ فقد حاول البعض جمعها في كتب موحدة، وأشهر هذه المحاولات ما فعلته د. آمال ربيع التي كانت تأتي فيه بالنص من تفسير الطبري وأصله من كتب التوراة باللغة العبرية وترجمته بالعربية؛ وذلك على اعتبار أن تفسير الطبري هو أقدم كتاب تفسير مدون على الإطلاق وأكبرهم حجمًا أيضًا، وحوى بين جنباته معظم الإسرائيليات المشهورة التي نقلها المحدثون عن يهود اليمن، وترجح الدكتورة آمال ربيع في هذا الكتاب أن بعض نسخ التوراة كانت مترجمة للعربية في عهد النبي، وأن وجود اليهود والمسيحيين قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية يدل على وجود لغة مشتركة بينهم وبين العرب، بخلاف الرأي الشائع أن الاسرائيليات دخلت التراث الإسلامي مع أول ترجمة عربية للكتاب المقدس من القس يوحنا أسقف أشبيلية في الأندلس، وذلك بعد وفاة النبي بـ 100 عام، ثم جاء يهود كـ سعديا الفيومي وموسى بن ميمون وإبراهام بن عزرا وترجموا وشرحوا التوراة باللغة العربية، وأود القول هنا بأن الكتاب مليء بالمعلومات الغنية، وهو خط زمني يمكن من خلاله فهم كيفية دخول هذه الروايات تراث المسلمين عن طريق الطبري، ومنه إلى بقية التفاسير. ويمكن من خلاله أيضًا معرفة الشخصيات التي نقلت التراث اليهودي للإسلام.
علمًا بأن للإسلام جاذبية في نفس اليهودي للمشتركات الكثيرة التي تجمعهما؛ ففي الإسلام واليهودية الإله واحد، وهناك إصرار على توحيده لمقاومة أي مظاهر للوثنية والتعددية الإلهية، كذلك بعض المحرمات كلحم الخنزير والدم والميتة وما ذبح على النُصُب أي القرابين، وكلاهما يقولان بالشريعة؛ أي القانون والناموس، وفي اليهودية تسمى (الهالاخاه) وكذلك الختان بغض النظر عن صدق انتساب هذا العمل للإسلام، فالقرآن لم يقل به، وكذلك الأحاديث لم يصح منها شيء وفقًا لعلماء السند، إنما هذه الروايات التاريخية في شأن الختان ولو لم يصدق انتسابها للرسول والإسلام؛ لكن رواجها في القرون الثلاثة الأولى لهو دليل على قبول مجتمع المسلمين لهذه العادة، وأن المشترك بين اليهود والمسلمين هذه الفترة كان كبيرًا لعقائد كثيرة يصعب ذكرها في هذا المقام، لكني أذكر أن الصلوات بين الدينين متشابهة لحد كبير من الوضوء والسجود، وأنها لليهود ثلاث مرات في اليوم؛ بينما للمسلمين خمس صلوات، حتى أن التحية واحدة وهي (السلام عليكم / شالوم)، وكلاهما يعبدان إلهًا مفارقًا للعالم لا يمكن رؤيته أو تخيل مادة له.
أما عن عناصر التأثير اليهودي في صناعة الحديث والرواية؛ فهم كثيرون؛ “ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام ونوف البكالي وغيرهم” ومن الصحابة الناقلين عنهم “أبو هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم” والمقام لا يتسع لذكر وشرح الجميع منعًا للثرثرة والتكرار غير المُجدي في السياق، أكتفي بتحليل أهم شخصيتين من مسلمة اليهود الذين أثروا في مذهب المحدثين على الإطلاق؛ هما (كعب الأحبار ووهب بن منبه)، وبعد العرض المختصر لأخبارهم أعقبه بشرح المنهاج الفكري لهم وانتقاله حرفيًا لتلاميذهم من المسلمين:
أولا: كعب الأحبار: وهو أول مفسر حقيقي للقرآن، وعن طريقه ظهر علم التفسير الشفهي قبل تدوينه على يد ” ابن جرير الطبري” المتوفي عام 310هـ، والتاريخ ينقل أن وضع الحديث بدأ أولا في التفسير، ثم انتقل للفقه والسياسة والعقائد؛ فالوازع الذي دفع الوضاعين لرواية الحديث كان عن فضول لمعرفة القرآن أولا، والعرب في القرن السابع لم يكونوا أهل حضارة وكتابة وتدوين؛ بينما اليهود عرفوا التدوين والاحتكاك بأهل الحضارات؛ فكان إسلام البعض منهم مقدمة لتفسير القرآن وإزالة الغموض عنه وشرح الآيات المبهمة بعد وفاة الرسول. وللدكتور عبد المنعم حنفي في موسوعته عن “فلاسفة ومتصوفة اليهود” أكثر الكلام عن كعب الأحبار، ونقل بدءً من الصفحة 184 بعض المطاعن على كعب واتهامه بالمسؤولية عن وضع الإسرائيليات في الفكر الإسلامي، مستشهدًا بكلام أئمة التفسير كالثعلبي وابن كثير والألوسي ورشيد رضا وغيرهم.
علمًا بأن مصطلح الإسرائيليات لا يتضمن فقط الأحاديث الموضوعة؛ بل الصحيحة أيضًا، ويمتلئ كتاب صحيح البخاري بكثير من تلك الإسرائيليات، كما أثبتت الباحثة الكويتية “سندس عادل عبيد” في دراستها عن الراويين ” ابن جريج وأبي العالية الرياحي” وهما من رواة البخاري الذين اشتهروا بنقل الإسرائيليات، ومجموع أحاديثهما في صحيح البخاري 213 رواية، أما إسرائيلياتهما في تفسير الطبري قد بلغت 2459 رواية، وهو رقم كبير بإحصاء بسيط عن راويين اثنين فقط دون الأخذ في الاعتبار روايات أبي هريرة واليهود السابقينسندس عادل عبيد وهي بالآلاف.
أسلم كعب الأحبار سنة 17 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وينقل الثعلبي قصة إسلام كعب كالتالي: “بلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لمَ لمْ تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابًا مختومًا، وقال: لا تفك ختمه؛ فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم” (تفسير الثعلبي 3/ 128) وقيل إن إسلامه لقصة أخرى؛ قال الثعلبي “قال النخعي: قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار “يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا” [النساء : 47]، فقال كعب: يا رب أسلمت، يا رب أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية.” انتهى (تفسير الثعلبي 3/324)
ولا يمكن التسليم بهذه القصص؛ فكعب الأحبار كان يعرف بالإسلام والقرآن قبل قدومه للمدينة في عصر عمر بن الخطاب؛ فهل لم يعرف بتلك الآية قبل قدومه؟ أم لإسلامه شيء آخر؟ وما طبيعة علاقته بالصحابي “معاوية بن أبي سفيان”؟ فالتاريخ ينقل هذه العلاقة بوضوح ويرسم معالمها أنها كانت جيدة جدًا، وأن كعب الأحبار ذهب للشام في عصر ولاية معاوية عليها، بل إن معاوية لقيه في اليمن قبل فتح مكة. وسياسيًا يمكن اعتبار أن إسلام كعب كان تقربًا للسلطة العربية في شخص الخليفة عمر بالمدينة وواليه معاوية بن أبي سفيان في الشام، والدليل أن إسلام الرجل تأخر عامًا واحدًا فقط عن فتح القدس، حيث فتح العرب القدس عام 16 هـ، وأسلم كعب الأحبار عام 17هـ، وتقارب هذه التواريخ مع مركزية القدس في الدين اليهودي تقول إن كعبًا أسلم ليدخل ويعيش بالقدس والشام بطريقة شرعية.
ثانيا: وهب بن منبه اليمني الصنعاني، ولد سنة 34 هـ لأسرة يهودية؛ فورث علوم التوراة، وكان يبث منها الكثير في حياته، وأذكر أن الشيخ رشيد رضا عتب على الحافظ ابن حجر العسقلاني تساهله في النقل عن وهب بن منبه وكعب الأحبار في رده على أحاديث وروايات (عُمر الدنيا)، التي دست في كتب الحديث وتم تصحيح العديد منها، ويقول الشيخ في ذلك: ” قد علمت من هذه النقول أنه ليس في عمر الدنيا حديث مرفوع صحيح ولا حسن، وأن الروايات فيه إما ضعيفة وإما موضوعة، والراجح أن كل ما ورد فيها من مرفوع وموقوف ومن الآثار؛ فهو من الإسرائيليات التي بثها في الأمة كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما، ولو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما وخطّأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل لخفاء تلبيسهما عليهم لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل” (تفسير المنار 9/ 401)
وكلام رضا يُحمل مسؤولية الخرافات في التراث الإسلامي لكلا الرجلين (كعب ووهب)؛ فالذي كان مهتمًا بتحديد عمر الكون لم يكونو عَرَبًا؛ بل يهودًا يربطون بين هذا العُمر والنص المقدس، فضلاً على أن أحبار اليهود كانوا مهتمين بالتفاصيل غير المهمة؛ كالمسافات والأطوال؛ مثل سفينة نوح وتابوت العهد وغيرهم، وقد روي عن وهب بن منبه أن حجم التابوت كان ثلاثة أذرع في ذراعين، وعلى هذه الطريقة في التفسير كان معظم فقهاء المسلمين الذين فسروا القرآن في وقت لاحق، وأشهر من كان مهتمًا بتلك التفاصيل غير المهمة هو الإمام قتادة وابن عباس وغيرهم، وجميعهم تلقوا العلم من كعب الأحبار أو وهب بن منبه.
وأشير هنا لأمر هام أختم به؛ وهو أن طريقة تفسير اليهود للنص المقدس والتي ورثها معظم أئمة المسلمين في التفسير والحديث تتسم بخمسة سمات فكرية:
- البُعد عن التعليل والتحليل؛ لما في ذلك من عناء عقلي ومشقة فكرية أكبر من قدرات رجل الدين؛ فكانت طريقة الرهبان والأئمة تتلخص في (التمثيل والتشخيص والتجسيم)؛ وهي قدرات عقلية بسيطة يمكنها تشبيه الخالق في المحسوس بكلمات سهلة مفهومة، وعلى ذلك كان مذهب المشبهة الذي دخل معظم مذاهب المسلمين وتبرأ منه البعض؛ كلٌ وفق قدراته؛ فمنهم من كانت براءته ناجحة، والبعض الآخر فشل، والبعض نجح وفشل جزئيًا واتسم مذهبه بالتناقض، أما كتب الحديث والتفاسير فهي مليئة بهذا التشبيه والتجسيم بما فيها الكتب المسماة بالصحيحة.
- تسييس النص المقدس وربطه بالنبوءات والغيبيات، وقد ورث أئمة المسلمين هذا المنهج من كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهم؛ فكافة روايات المهدي المنتظر وفتن وملاحم آخر الزمان متأثرة بمنهج تدوين سفري “أشعياء وحزقيال” في الكتاب المقدس، وهذا السمة يمكن تسميتها (بالأسطرة السياسية)؛ حيث إن للأسطورة معنى قويًا في النفس يكاد يفوق قوة الشعر والبلاغة، فكلا الأمرين (الأسطورة والشعر) مهتمان بالمعاني أكثر من الحقائق، لذا تجد أن كل روايات الملاحم والفتن غير واقعية، وإذا أمكن تصورها واقعيًا فلا يمكن تعليلها أو تحليلها عقليًا إلا ويظهر عوارها فورًا. ودائمًا أردد أنه ولكي يقضي الباحثون على الخرافة السياسية عليهم (بالسؤال)
- ربط الجمهور بالقادة وخلق أبطال دينيين في سياق القصة والحكاية، وهذا المنهج ورثه اليهود من الحضارة اليونانية التي تعد هي الأشهر في هذا المجال؛ فالفكر اليوناني كان حكّائيا في تصوره الديني، وأشهر تلك الحكايا والقصص ملاحم “الإلياذة والأوديسا”؛ فتم ربط الجمهور بالتجسيد البشري للآلهة في الأرض؛ وهذا معنى ميول رجل الدين في تجسيد وتمثيل أفكاره، وهذا الميل اللاعقلي كان سمة لكل الحضارات القديمة في تصورها لدينها. بيد أن اتجاهات عقلنة الدين أو الربط بين النص المقدس والفكر السليم هو اتجاه متأخر بدأ مع القرون الأولى للميلاد في المسيحية مع “سانت أوغسطين” المتوفى عام 430 مـ، ثم ازدهر على أيدي فلاسفة المسلمين في العصر العباسي الثاني، وهو الاتجاه الذي ساعد في القضاء على الخرافات الدينية وإعادة الاعتبار للعقل بشكل كبير، ولا زال مؤثرًا في الحركة التنويرية الدينية بالعصر الحديث.
- تقسيم العلم إلى خاصة وعامة، فيُقدمون الكليات للناس ويكتمون الخاصة؛ رغم أن هذه النصوص الدينية الخاصة هي أساس تصورهم للعامة، والنتيجة؛ أن الجمهور يؤمن بنصوص دينية لا يستطيع تأويلها أو تعليلها أو تحليلها، وبرغم أن هذه السمة دخلت معظم الأديان إلا أنها متفشية بكثرة في الإسلام واليهودية عن طريق رجال الدين، فاليهود لم يكتفوا بالأسفار الخمسة المسماة بالتوراة، بل أضافوا إليها كُتُب النبوئيم (أسفار الأنبياء) والكتوبيم (أسفار الرهبان)، ثم أطلقوا وصف (التناخ) على الثلاثة، فيصبح التناخ هو مجموع (التوراة – والكتوبيم – والنبوئيم) ومجموع التناخ ما يربو إلى 50 كتابًا، علمًا بأن هناك خلافًا في التسمية بأن التوراة هي التناخ، وما اصطلح عليه بالأسفار الخمسة فقط (العهد – والتثنية – والعدد – والخروج – والتكوين) هي المسماة بالسامرية، علاوة على تقديس كتب المدراش والتلمود؛ وهي مجموع تفاسير التناخ وأحاديث وتواريخ الأنبياء وشروحها، مما جعل المكتبة اليهودية من أغنى وأكثر المكتبات الدينية في العدد والكمّ.
المسلمون السنة فعلوا نفس الشيء؛ حيث لم يكتفوا بالقرآن؛ فوضعوا كتب السنة بجواره، وهي مجموع أحاديث تسعة كتب أطلقوا عليها (الكتب التسعة)؛ وهم (البخاري – مسلم – ابن ماجة – أبو داوود – النسائي – الترمذي – مالك – ابن حنبل – الدارمي)، ولم يكتفوا كذلك بهذه الكتب التسعة، فقدسوا شروحها المسماة بشروح السنة، وأشهر تلك الشروح “لابن حجر العسقلاني – والنووي – وبدر الدين العيني”وغيرهم؛ بل لم يقف الأمر إلى هذا الحد؛ بل وسّعوا جدًا من مفهوم السنة -أحيانًا- لظروف الفتوى؛ فيضطرون للاحتجاج بكتب حديث غير التسعة، كصحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي ومسند الطيالسي ومصنفات الصنعاني وابن أبي شيبة والفتن لنعيم بن حماد وغيرهم، وكذلك فعل الشيعة الإخباريون بتقديس كتب الحديث (كالكافي – وما لا يحضره الفقيه – والتهذيب – والاستبصار)، وهي مجموع الكتب الأربعة في الفقه الشيعي الإمامي للإخباريين، إضافة لكتب الوسائل وبحار الأنوار ومستدرك الوسائل وغيرها.
- التفاخر بالنسب والسلالة والقبيلة، وهذا كان دأب اليهود في تفضيل أنفسهم بالنسب عن غيرهم فيما اصطلح عليه “بشعب الله المختار”، وتكاد اليهودية تتفرد بأن مصدرها ليس نبيًا واحدًا أو مُصلحًا واحدا، أو حتى جماعة واحدة؛ بل شعبًا بأكمله، وهذا أعطاها خصوصية بعيدة عن فكرة المؤسس، ليصبح محورها ليس فكريًا؛ بل (شعبيًا سلاليًا)؛ بمعنى أن الانتساب لإبراهيم وابنيه إسحاق ويعقوب سُلاليًا يعني الانتساب مباشرة لإسرائيل، وأن كل من سمع الله يتحدث فوق جبل سيناء لموسى هو شاهد عيان على صحة دينه، وبالتالي نحن لسنا أمام دعوة وتصديق؛ بل شهادة جماعية مصدقة، إضافة لأن العبرانيين وقتها كانوا في شدة 40 عامًا ينتظرون أقل فرصة تنجدهم من مأزقهم، فما بالك وأن هذه الفرصة جاءت من الرب نفسه؟ سيصدقونها مباشرة.
ظهرت هذه الصيغة في تسمية المسيحيين للتناخ بـ “العهد القديم”؛ أي العهد الذي أخذه الله على بني إبراهيم وأولادهم؛ بالتالي فلا يوجد مؤسس وداعية واحد لليهودية؛ إنما هي عوامل تضافرت مع بعضها لتخرج بالشكل النهائي لليهودية التي نعرفها، حتى النصوص المقدسة تجدها متكاملة وظيفيًا؛ فسفر التكوين عقائدي، والخروج سياسي، والتثنية أخلاقي سلوكي، واللاويين تشريعي، وأخيرًا سفر العدد جمع بين التشريع والسلالة، فخرجت أسفار اليهودية العظمى تؤكد ما قلناه بأن محور اليهودية (سلالي شعبي) من جهة، و(تشريعي قانوني) من جهة أخرى، وبالتالي لا دور لزعيم واحد أو مؤسس كما يحدث في الأديان الأخرى.
حتى في كتب الأنبياء؛ نجد أن وظيفة التنبؤ في عدة أسفار مشهورة؛ كإشعياء وحزقيال اللذان يرجح ميرسيا إلياد أنهما كتبا أواخر عهد السبي البابلي في القرن 6 ق.م من كتاب مجهولين، ولأن اليهود وقتها كانوا مسبيين ومضطهدين؛ خرجت النصوص تبشر بميلاد جديد ومخلص ينقذ شعب إسرائيل من محنته. وبرأيي أن فكرة مخلص آخر الزمان أو المهدي المنتظر خرجت من وحي هذين السفرين؛ فالتأثير اليهودي كان كبيرًا على التراثين؛ المسيحي والإسلامي، ولكون السلالة دورها كبير في الدين اليهودي؛ فقد أصبح التفكير بجمع هذه السلالة في دولة واحدة يشكل خطرًا عليهم؛ إما بالانشقاق أو التغريب أو الاختراق أو الإبادة، وهذه كانت محور انتقادات “إسرائيل شاحاك” للدولة اليهودية في إسرائيل ضمن كتابه عن الديانة اليهودية وتاريخها.
هذه الطريقة اليهودية في التفكير ورثها الأئمة المسلمون في التفاخر بنسبهم العربي، فكما أن اليهود يفتخرون بالانتساب لإسحاق يفتخر العرب بالانتساب لإسماعيل، ومن هذه المرجعية خرج (النسابون العرب) يبحثون في أصول العائلات وتمييز القبائل عن أخرى، لدرجة وصف بعضها بالشريفة ونفي الشرف عن الآخرين، ويظل محور انتقاد المثقفين للفكر الشيعي هو تلك الجزئية؛ حيث إن قولهم بطهارة وشرف بني هاشم يماثل في مضمونه قول العبرانيين بطهارة وشرف بني إبراهيم، والعقل يحسم هذه القضية بأنه لو صلح الأولون لا يعني صلاح الآخرين، وأن صدق وطهارة الأولين لا يعني صدق وطهارة الآخرين، بل كل قبيلة وكل إنسان مسؤول عن عمله، وما يفعلونه من خير أو شر هو وليد عدة عوامل مجتمعة؛ كالإدراك والوعي والسلام الروحي؛ فضلاً عن الطبقة الاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية التي تظهر في أحد الأجيال ولم تكن في الجيل السابق.