ليس بوسع سلطة ما أن تسيطر على المجتمع دون إخضاع اللغة التي يتحدث بها الناس؛ فنجد في رواية “1984” لجورج أورويل أن لجنة من الحزب اجتهدت لوضع لغة جديدة تهدفُ إلى تجريد اللغة من بعض الكلمات؛ بحجّة أنها مترادفات مكرّرة وغير مهمة، فتختزل اللغة كيما يتسنّى لها أن تسطّح أحلامهم وطموحاتهم، وبالتالي، ماذا سيحدث لو احتجزنا اللغة؟ سيكون التواصل مقتصرًا على كلمات بلا معنى من كثرة الاستهلاك اليومي، وما سينتج حينها من عجز ليس نابعًا من عجز اللغة نفسها قدر عجز فكر الإنسان؛ فاختزال اللغة هو اختزال الإنسان ذاته.
في صنعاء اليوم، تُشبه الحياة رواية 1984، التي استشرف فيها أورويل واقع الدولة الشمولية، التي تميل إلى تنظيم تفكير الناس وفقًا لما يناسب مصالحها؛ فتكذب وتغيّر الحقائق، ويضيعُ الخط الفاصل بين الخطأ والصواب، وكل هذا وفقًا لمفارقات في تسمية الأشياء ووظائف الدولة.
يكشف هوس السيطرة على الأشكال الذاتية لتوليد المعرفة، كالخيال والرمز، والأسطورة، واللغة والعقل، وأنماط العلاقات الإنسانية والاجتماعية، حجم النزوع السُلطوي الشمولي تجاه كل ما من شأنه أن يخلق لدى الفرد استقلالية في التفكير، وقدرة ذاتية على إنتاج المعرفة؛ الأمر الذي يفسر، اِنكباب الحوثيين على إعادة صياغة مناهج التعليم -الأساسي والجامعي-، وإنشاء مجلة شهرية للأطفال (مجلة جهاد) تمجد الموت والشهادة، وإقامة معسكرات صيفية للأطفال والمراهقين.
وفي الوقت نفسه، عمدت على تصفية مظاهر المجتمع المدني، ولم ينقض وقت طويل منذ أن أعلنت منع الاختلاط في المعاهد والجامعات، ومنع المرأة من السفر دون محرم، ومنع الأغاني في الأعراس، ومنع إقامة حفلات التخرج؛ من أجل تحضير الجيل الحالي، والجيل القادم، لمستقبل يكونون فيه أقل مقاومة وأكثر تقبلًا لجماعة الحق الإلهي.
يمارس الحوثيون بإتقان سياسية (الأخ الأكبر The Big Brother)، السيد المبجل العلم الفرد المقدس، الذي يمجده الناس ليل نهار، وترتفع صوره في كل مكان، ويجبر الناس على سماع خطاباته ليلًا ونهارًا غصبًا عبر مكبرات الصوت الموزعة في كل مكان. ويقف الناس دقيقتي كراهية كما في الرواية؛ ولكن في المساجد تلك المرّة، دقيقتا الكراهية هنا تستمران نصف ساعة.
وفي ظل غياب المشروعية السياسية، أجبر الحوثيون أصحاب المحلات بتعليق شعارات خضراء، وطلاء مساحة مترين من رصيف الشارع أمام كل محل باللون الأخضر، وتعليق الملصقات النبوية الخضراء، وتثبيت إضاءة خضراء؛ إذ أصبحت عادة سنوية مكررة مع قدوم ذكرى المولد النبوي في السابع من أكتوبر تلك السنة، اختناق المدينة باللون الأخضر، بسبب المغالاة في الاحتفال؛ من أجل تأسيس مشروعية دينية عوضًا عن السياسية، وألزموا التجار في بعض مناطق العاصمة بالحضور إلى ساحة السبعين، -حسب روايات الشهود- للمشاركة والهتاف في حشد الأخ الأكبر أو التنذير بالغرامات المالية.
لا تشذ ممارسات الحوثي عن بنيتها التي تقوم على خلق حالة حرب دائمة، سواء على المستوى النفسي بالجبايات والترهيب وقطع الرواتب، أو على المستوى العسكري بفتح جبهات جديدة وتضييق الخناق على مدينة تعز المحاصرة وقصف الأراضي السعودية؛ ما يجعل من السهل تبرير التسلط بوصفه إجراءات وقائية من مؤامرات العدوان، والأهم من ذلك؛ تعلّق سلطة الحوثي منذ سنوات غياب مؤسسات الدولة وقطع الرواتب بالعدوان؛ حيث إن توقفت الحرب سيتوجب منها أن تفي بالتزاماتها تجاه المواطنين.
لا يمكن الحديث اليوم عن توقف الحرب أو السلام بشكله المؤقت (الهدنة) في اليمن بالمعنى الإنساني؛ إذ صارت الهدنة منذ سنوات أنموذجًا مناسبًا لاستحضار مقولة الأخ الأكبر؛ بأن “الحرب هي السلام”؛ ليس بسبب خروقات الحوثي المتكررة لها؛ بل لأن الهدنة اكتسبت بدورها بعدًا عسكريًا مثل الحرب، بوصفها امتيازًا تكنيكيًا لإعادة تنظيم خطوط التماس والتمركز واستئناف الحرب بشكل أعنف.
كيف سيشهد من سيبقى حيًّا من اليمنيين نهاية صراعهم مع الحوثيون؟ لا بد من نهاية على أي حال، ولا يبدو أن المستقبل يحمل اليمنيين كأفراد بل كجماعة، يغيب الفرد في سبيل “القضية” التي يحملونها أو ينادون بها.
وأميل هنا إلى إعادة صياغة إجابة المحقق الشهيرة على وينستون سميث، الذي ارتكب جرم الكتابة بالسر وتدوين يوميات الحياة؛ حيث كان يشك في وجود الأخ الأكبر؛ (إنك أنت من لست موجودًا)؛ فالإجابة المناسبة على الشكوك بشأن وجود الأخ الأكبر في صنعاء، ليس في الشواهد الموضوعية مثل عدم وجود صحف تصدر أعداد يومية و أسبوعية، أو عدم وجود قناة إعلامية غير منحازة وحسب.
بل إن تلك الصورة المثالية عن الحياة السياسية في صنعاء بالتحديد، والتي جعلت من الصعب التصديق بوجود قمع على الرغم من بضعة معتقلين ومخفيين قسرًا غائبين منذ سنوات، هي أقرب مثال عن القمع والترهيب الكامن خلف زيف الصورة، بحيث من سيقوم بالكتابة والإدانة في المستقبل، سيصير بدوره غير موجود، أو سينتهي به الحال بتعبير أوريل نهاية الرواية:
رفع رأسه فحدَّق في الوجه الضخم؛ لقد أحتاج أربعين عامًا حتى يفهم الابتسامة الخبيثة تحت الشارب الأسود، ويا لسوء الفهم الفظ الذي لا مبرّر له! يا للعناد، ويا للاغتراب المقصود عن ذلك الصدر المُحب! جَرَت على جانبي أنفه دمعتان تفوحان بنكهة الجن، لكنه الآن بخير، كل شيء بخير، وقد انتهى الصراع، لقد انتصر على نفسه الآن! إنه يحب الأخ الأكبر!