في عصر الدولة الأموية كان المسلمون والعرب يعيشون تحت وطأة فكرتين سادت فترة من الزمن، تأسس على إثرها غالبية الفكر الإسلامي، ثم ورث المسلمون في هذا العصر هاتين الفكرتين بنسب ودرجات مختلفة لكن بإنكار مسمياتها الأصلية التي وردت في كتب التراث، وهاتين الفكرتين هما (الجبر والإرجاء) فعلى الأولى برر الخلفاء والفقهاء مظالمهم بنسبها إلى الله وقضاءه وقدره، وعلى الثانية هربوا من التكفير الذي ميّز جماعات الخوارج الذين انتشروا منذ عهد عثمان وطوال العصر الأموي..
لكن مع ذلك أنكر الفقهاء والحكام تمسكهم وقناعتهم بهاتين الفكرتين، لكن عملوا بها في الواقع، وروايات التاريخ تشهد أن بعض القادة الأمويين كانوا يصرحون بعقيدة الجبر كالحجاج بن يوسف الثقفي، وروايات التاريخ تشهد أيضا على توجه بعض الصحابة والفقهاء للقول بالإرجاء ردا على الخوارج. وهو القول الذي يمنع تكفير الأعيان والمسلمين بعد انتشار آفة التكفير على الرأي والاجتهاد في عصر الصحابة حتى وصل الأمر لاغتيال الخليفة الرابع وواحد من أكبر وأهم الصحابة هو الإمام “عليّ بن أبي طالب” على يد “عبدالرحمن بن ملجم” الخارجي الذي كان يدرس الفقه والعقيدة بمصر لكن لم يُعجبه السلطة السياسية التي كان يراها مرجئة فقرر الخلاص منها، وسبق القول أن تقبيح مذهب الإرجاء بدأ منذ الثورة العباسية لدور المرجئة الأساسي في حماية الخليفة الأموي من التكفير سواء من الخوارج أو من الشيعة الذين نظروا ليزيد بن معاوية كشخص كافر تمرد على الإسلام بقتل الحُسين..
ومع ذلك لم يحصل الإرجاء على القبول الذي حصل عليه الجبر مع الأمويين، فلكي يتوسعوا في فتوحاتهم وغزواتهم كان يتطلب ذلك تكفير الأعداء أحيانا لأبعاد وظروف شرحناها في مقالتي هنا في مواطن بعنوان ” أضواء على مذهب المرجئة الإسلامي” لذا كان الفقه الإرجائي بالعصر الأموي يميل للانتقائية لصالح الخليفة والصمت عن تكفيره للأعداء بالغالب. ولم يحصل الصراع بين المرجئة وخلفاء الدولة الأموية سوى بعد عبد الملك بن مروان لفقدان أبنائه عنصر الخبرة السياسية والبرجماتية اللازمة لتدجين والسيطرة على الفقهاء والمفكرين، وهو الأمر الذي تتطلب منهم قتل بعض زعماء الإرجاء أو من اتهموا به كغيلان الدمشقي وغيره..
في ظل هذا الوضع خرج المعتزلة يعترضون على الجبر والإرجاء معا، فتوسطوا بين الأمرين بنظرية فقهية وعقائدية جديدة هي (المنزلة بين المنزلتين) فحصلوا على خصومة الدولة الأموية في البداية وعلى خصومة وعداء الخوارج بشكل أشد، وملخص القول بهذه النظرية أن فاعل الكبيرة ليس مسلما ولا كافرا. بل في منزلة بين المنزلتين حتى يتوب عنها، وبهذا يظهر أن الحضور المعتزلي في بداياته كان سياسيا ضد أفعال الخلفاء الأمويين الذين ينسبون مظالمهم لله أولا، وعلى الفقهاء الذين يحمون هؤلاء الخلفاء ويصفوهم بالإيمان ثانيا، ويظهر ذلك من سلوك أشهر الذين اعتقدوا بالاعتزال وهو “معبد الجهني” المتوفي عام 80هـ بمشاركته لثورة ابن الأشعث ضد بني أمية، لكن ولأن روايات التاريخ تثبت مشاركة الجهني تلك الثورة ولأنه توفي قبلها بعامين أو ثلاثة توجد روايات أخرى تقول بوفاته عام 90 هـ
خرج المعتزلة يعترضون على الجبر والإرجاء معا، فتوسطوا بين الأمرين بنظرية فقهية وعقائدية جديدة هي (المنزلة بين المنزلتين) فحصلوا على خصومة الدولة الأموية في البداية وعلى خصومة وعداء الخوارج بشكل أشد
لم يُعرف الجهني بالاعتزال وقتها بل بمسمى آخر وهو “القدرية” وهو وصف ذم كان يطلقه الفقهاء الأمويون على معارضيهم من المعتزلة بمعنى (نُفاة القَدر) فالمساحة التي ينطلقون منها جبرية. فكل قول إذن بحرية الاختيار للإنسان وأنه هو الذي يخلق أفعاله ليستحق الوعد والوعيد عليها هو في مضمونه يعني (نفي القدر) الذي يفهموه، فالقضاء والقدر الأموي هو ما قبل ولادة الإنسان مُسجّلا في اللوح المحفوظ، وبالتالي كل ما يُصيب الإنسان من خير وشر مُقدر سلفا من الله، وكل ما قدره الله هو مُراد الله. وبالتالي فكل من يعترض على مظالم الأمويين هو يعترض على قدر الله في الحقيقة، فهو إذن (ينفي القدر) ثم ظلت هذه الصورة ملاصقة للمعتزلة إلى اليوم بعد أن ورث الفقهاء المسلمون ذلك الوصف – أي القدر – على فقهاء المعتزلة بنفس المعنى الأموي.
كان الظهور الأول للمعتزلة أيضا في شخصيات كعمرو بن عبيد وأبي الأسود الدؤلي وواصل بن عطاء والحسن البصري، والأخير معدود على فقهاء السنة والجماعة لكن القاضي عبد الجبار (359- 415 هـ) عدّه معتزليا في كتابه “طبقات المعتزلة” الذي عدّ فيه أيضا بعض الصحابة كمعتزلين مثل أبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر. وغيرهم، كذلك عدّ الحسن والحسين معتزلة. وفي هذه لمحة قد يُتهم فيها عبدالجبار بالمبالغة ولكن إذا تفحصنا روايات وتاريخ العصر الأموي وكيف سادت فيه نظريات الجبر والإرجاء لرأينا أن خروج الحسين على الأمويين لم يكن سياسيا فقط بل كان دينيا أيضا لكفاح المذهب الجبري التكفيري الذي وصفت بموجَبه كل معارضة للسلطة الأموية بالكفر والحرب على قضاء الله وقدره بمجرد الاعتراض أو الخروج، ونفهم أيضا كيف أصبح الشيعة في وقت لاحق من أشد خصوم الجبر والإرجاء معا بطريقة يشهد بها المراقبون قُرب الشيعة من المعتزلة فكريا واشتراكهم في كثير من الرؤى السياسية والعقائدية لدرجة أن مذهبا شيعيا كبيرا وهو الزيدية أنقذ التراث المعتزلي بعد القمع العباسي له، فنجت عشرات الكتب المعتزلية من الحرق إبان اضطهاد وقمع المعتزلة على يد المتوكل بالله العباسي (205 – 247 هـ) والقادر بالله العباسي أيضا (336 -422هـ)
كذلك فالصحابي ابن عباس (3ق. هـ – 68 هـ) عندما نتفحص سيرته فكريا وسياسيا نجد أنه شارك مع الإمام على في معركتي الجمل وصفين، وهو راوي حديث رزية الخميس الذي يحكي فيه اختلاف الصحابة عند النبي وتشاجرهم وقت احتضاره، فقد كان فكريا الشيعة والمعتزلة أكثر من السنة حتى العبارة الدارجة في كتب الفقه على المذاهب الأربعة (وقد خالف الجمهور ابن عباس) أي أن ثوابت السنة في كثير منها كسرها ذلك الصحابي، ومن تلك المسائل زواج المتعة والطلاق والمواريث وتأويل الصفات الخبرية.. وغيرها أما المواريث بالذات فهي أكثر ما خالف فيها ابن عباس جمهور الصحابة ومذهب السنة بالعموم..
كذلك هو ابن عم الإمام علي واشتهر عنه أنه فقد بصره آخر حياته حزنا وبكاء على الأئمة (على والحسن والحسين) وتم حبسه في شعب غارم آخر حياته مع الإمام محمد ابن الحنفية ابن الإمام علي ابن أبي طالب.. والذي حبسه كان الصحابي “عبد الله بن الزبير” الذي كان يكرهه بصفة شخصية كما نقل المسعودي في مروج الذهب، وبعد تحرير المختار الثقفي له طرده ابن الزبير للطائف حتى توفي فيها. علما بأن واصل بن عطاء (80 -131 هـ) أحد مؤسسي وكبار المعتزلة الأوائل كان تلميذا لمحمد ابن الحنفية، وبذلك توجد صلة مؤكدة بين ابن عباس وواصل أتوقع من خلالها لماذا عدّ القاضي عبد الجبار هذا الصحابي معتزليا..
تفسيري لهذا التضارب حول ابن عباس وخلاف المذاهب حوله (سنة – شيعة – معتزلة) أنه يعود لنجاح الثورة العباسية، بمعنى أن ابن عباس لم يكن مقدسا وموثوقا به طوال العصر الأموي باعتباره من بني هاشم وقريبا من فكر المعتزلة، وبعد نجاح الثورة تم استدعاء أفكاره ورأيه لحكمته في الوسط الشيعي، ثم عاد السنة لتقديسه بعد تحول العباسيين لمذهب السنة وحصر التشيع في نسل الإمام علي دونا عن بقية الهاشميين، علما بأنه لا يوجد اتفاق شيعي على ابن عباس.. هناك من يذمه بناء على أخبار موروثة من الإمام جعفر الصادق، وتقديري أن عدم اتفاق الإمامية على تشيع ابن عباس يعود للخلاف بين العباسيين والعلويين في معارك المنصور والنفس الزكية سنة 145هـ، فقد كان العباسيون يبجلون ابن عباس بنشر آرائه وأحاديثه وفتاويه، بينما احتفظ العلويون بحبه لسببين الأول لتاريخه مع الإمام علي وأبناؤه، الثاني لأفكاره وفتاويه التي خالف فيها أقوال السنة كثيرا وشجاعته في الإبداء برأيه وسط أجواء سياسية وفكرية محتقنة.
أيضا كان الظهور الأول للمعتزلة في مشهد قتل المفكر “غيلان الدمشقي” المتوفي عام 106 هـ وكيف أن الخليفة الأموي “هشام بن عبدالملك ” (71 – 125هـ) قتله بعد مناظرته للإمام الأوزاعي، وهو نفس الخليفة الأموي الذي قتل “الجعد بن درهم” أيضا سنة 105 هـ بحادثة شهيرة بلغت من قسوتها وبشاعتها أن افتخر بها فقهاء السنة للانتقام من المعتزلة والتشفي في موت زعمائهم، فقد رُوي أن الخليفة أمر واليه على الكوفة “خالد بن عبدالله القسري” بإعدام الجعد، فنفذ الوالي أمر الخليفة بقتل الجعد في عيد الأضحى وقال قولته الشهيرة “أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما” ثم نزل فذبحه في أصل المنبر. فكان عصر هشام بن عبد الملك من أشد العصور قسوة على المعتزلة حتى أنه قتل اثنين من أكبر زعمائه ومفكريه مما أدى لانزواء كثير من الفقهاء عن الاعتزال وابتعادهم عن القول به مخافة القتل…
إن غاية ما كان يقوله غيلان الدمشقي والجعد بن درهم لا يتعدى فكرة “الحرية” وأن الإنسان ليس مجبورا على أفعاله بل يخلق الله القدرة فيه على الفعل ثم وعن طريق هذه القدرة المخلوقة يفعل خيرا وشرا بمحض إرادته، وهذا ملخص فكرة “خلق أفعال العباد” عند المعتزلة. والتي عارضها فقهاء السنة بشدة معتبرين أن الله هو الذي يخلق فعل الإنسان في انشقاق فكري ومذهبي لم يحرر معنى الخلق حينها في أذهان السنة، لأن مفكري الاعتزال تناولوا فكرة الخلق بمعنى آخر غير الخلق الإلهي بل كانوا يقصدون به مسئولية الفرد عن أفعاله كاملة وأن الوعيد بالنار والوعد بالجنة يلزمه الإيمان بحرية الإنسان في تصرفاته، وبالتالي فخلق أفعال العباد عند المعتزلة يعني أن الإنسان هو الذي يفعل وليس الله، لكن فقهاء السنة ولأنهم تأثروا جدا بالجبر الأموي اعتبروا أن هذا القول (كُفريّ) يعني إنكار أصل من أصول الدين وهو أن الله خالق كل شيء، وبناء على ذلك كتب البخاري كتابا من أشهر كتب السنة للرد على المعتزلة في هذا الأمر وهو “خلق أفعال العباد” وهو كتاب مُصنف روائي نصوصي لا يرد وفقا للمعايير الفكرية والنقدية بل ينقل أقوال لصحابة وتابعين وأئمة بنظام حدثنا وأخبرنا يقولون فيه بكُفر من يقول خلق الإنسان لأفعاله، واعتبار أن هذه الأقوال تغني عن التفكير في قضايا الحرية التي “يشاغب” بها المعتزلة في ميادين الفكر والسياسة.
إن غاية ما كان يقوله غيلان الدمشقي والجعد بن درهم لا يتعدى فكرة "الحرية" وأن الإنسان ليس مجبورا على أفعاله بل يخلق الله القدرة فيه على الفعل ثم وعن طريق هذه القدرة المخلوقة يفعل خيرا وشرا بمحض إرادته، وهذا ملخص فكرة "خلق أفعال العباد" عند المعتزلة
أما المشهور أن الاعتزال بدأ مع واصل بن عطاء وأن مصطلح المعتزلة كان من الحسن البصري على واصل بقوله (اعتزلنا واصل) فعليه نُظُر من ثلاثة نواحي:
الأول: أن مصنفات القرنين الثاني والثالث الهجريين لم تُعرف المُعتزلة فيهم بهذا الاسم بل (بالقدرية) ويظهر ذلك بوضوح في مصنفات الكتب الستة، بينما الحسن البصري كان يعيش في القرن الأول الهجري، كيف ذلك؟ إن التفسير الوحيد لهذا التضارب أن الخبر المنسوب للحسن البصري عن واصل ظهر في عصر متأخر لإثبات سُنية الإمام البصري وفصله عن الفكر المعتزلي الذي كان يضعه المعتزليون في طبقاتهم، ولنا مثال مشهور في كثرة وضع اسم القدرية من الفرق الكافرة والمبتدعة في مصنفات هذا العصر أشهرها “خلق أفعال العباد” للبخاري، وسنن أبي داوود والترمذي، حتى موطأ مالك ذكر القدرية كفرقة مرتدة كافرة عليها التوبة وإلا القتل (موطأ مالك تحقيق الأعظمي 3342)
الثاني: أن علم الكلام المنسوب لأئمة المعتزلة – صناعة وصياغة – هو اتجاه فلسفي للتوفيق بين الدين والعقل، ويبحث في أمور خمسة مشهورة هي (طبيعة القرآن قديم أو حديث – العدل وأفعال العباد – مرتكب الكبيرة – النبوات – وجود الله والتوحيد) وتلك المباحث الخمسة لعلم الكلام لم تكن ظهرت في العصرين الأموي والعباسي الأول وهي الفترة الممتدة على مدار250 عام بعد موت الرسول ، فقد كان العلم شفهيا بين العرب ويُستدل على العلم بالأثر حينها كما يُستدل على الإنسان في الصحراء بآثار أقدامه، ومن تلك الزاوية ظلت ثقافة العرب شفهية تتبع آثار أجدادهم حتى جاء عصر العقل بدايات القرن 3 هـ في ترجمات “ثابت بن قرة وحنين ابن إسحاق”. وغيرهم في نقل علوم اليونان للشرق العربي والإسلامي..
وهذه النقلة العلمية كان لها أثرا كبيرا على حركة التدوين التي كان يرفضها كل خلفاء المسلمين خشية أن يُستبدل القرآن بغيره أو يُحرّف. فلم يكن مسموحا بتدوين الكتب نسخا وتوزيعها في الأمصار سدا للذرائع ودرءا لخطر تحريف القرآن وتوزيعه بنسخ غير أصلية يصعب السيطرة عليها، لكن بعد شيوع الترجمات وزيادة نفوذ المعتزلة وهجران الأئمة للمذهب الأثري واعتباره غير علمي أو غير كافي لمعرفة القديم كان لزاما عليهم أن يصبحوا أكثر مرونة فاختاروا التدوين، فأصبح القرن 3 هـ هو العصر الرسمي لبدء الكتابة الحديثية والإخبارية وتدوين كل ما كان يتداوله العرب والمسلمون شفهيا في القرنين السابقين.
الثالث: أن فصل مفهوم الاعتزال عن السنة والجماعة كمذاهب حدث في عصر متأخر أيضا، فمصنفات القرنين الثاني والثالث لم تعرف مذهب السنة والجماعة بهذا الاسم بل بأهل الحديث أو أهل الأثر، واشتهر عن أبي حنيفة أنه لم يروي الأثر أي لم يكن من الأثرية، والمعنى أن العرب والمسلمين في هذا العصر – القرنان 3،2 هـ – عرفوا الحديث لغة على أنه ضد القديم لكن يتصل معه بالأثر. وفي ذلك تشبيه بآثار أقدامهم في الصحراء فيُقال إن أثر فلان يصل لكذا وكذا، فكان الحديث هو حلقة الوصل بين الجديد والقديم عن طريق الإسناد إما بلاغا أو إرسالا أو تحديثا وإخبارا، وعلماء الحديث يفرقون بين هذه المصطلحات لهذا السبب، فأهل الحديث عُرفوا بأهل الخبر أو الإخبار وفي نفس الوقت عُرفوا بأهل الأثر..
المعتزلة كانوا يرون هذه الطريقة في العلم بالقديم ليست مُجدية، فلا يلزمهم وصل القديم بالجديد عن طريق الأثر لأنه لا ضمانة لصدقه، وكانوا أول من وضعوا شرط التواتر لوصل هذه الأخبار الشائعة عن عصر الرسول والصحابة، وطعنوا في حُجبة خبر الواحد أو من جاء بطرق مشهورة غير متواترة لا يتحقق بها العلم قبل الرواية، وهذا التعريف للخبر المتواتر ورثه الإمام “أبو حامد الغزالي” (450 – 505 هـ) في كتابه “المستصفى في أصول الفقه” ردا على تعريف المتواتر للقاضي عياض الذي نقله عن بعض أئمة الحديث الذين مالوا للتساهل في قبول الخبر وتبسيط تعريف المتواتر للتيسير على تلاميذهم في الاحتجاج به على الخصوم، ومن تلك الزاوية حصل المعتزلة على خصومة غير عادية عند أهل الحديث والظاهرية بالعموم، فالمذهبان الظاهري والحديثي (سنة وشيعة) يعتمدون قبول الأخبار بمجرد ثقة الواحد، حتى طالت سهام هذه المذاهب رؤوس المعتزلة فأكثر ابن حزم الأندلسي (384 – 456 هـ) في ذم المعتزلة كالإمام “ابراهيم بن سيار النظّام” (160 – 221 هـ) في كتابه طوق الحمامة لدرجة وصف النظّام بالمؤمن بالتثليث وأنه عشق غلاما نصرانيا علمه فضل التثليث على التوحيد (ج 1صـ 13)
أما عن أصول المعتزلة الخمسة المشهورة وهي (العدل – التوحيد – الوعد والوعيد – المنزلة بين المنزلتين – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فلم تظهر مرة واحدة، لكنها بدأت على يد من ذكرناهم في المقدمة بالعدل كمعنى للوجود يتحقق بالوعيد والوعيد القرآني، والمنزلة بين المنزلتين كخيار رفض به مفكري المعتزلة الأوائل إرجاء السنة وتكفير الخوارج، والطريقة العقلية التي سلكها المعتزلة هي الجدل الديالكيتكي فاشتهروا بالقوة في المناظرات حتى يظهر ذلك من مضمون مناظرة “غيلان الدمشقي والأوزاعي” فما الذي حمل الخليفة الأموي على قتل غيلان سوى شعوره بالخطر بعد هزيمة الأوزاعي أو عجزه؟ إن أبسط تفسير لما حدث بقتل غيلان أنه لو كان الأوزاعي قويا وغيلان ضعيفا ما غضب الخليفة وما استدعي إزهاق روح أحد المتناظرين واختاروا معه الرأفة بحاله..
وكذلك تظهر مناظرات المعتزلة في الغضب الشديد من الأثريين والمحدثين على بشر المريسي (138 – 218 هـ) وابراهيم بن سيار النظام، حتى أنهم وُصفوا في كتب الأثرية بشياطين المعتزلة. والعقل يقول إنه لولا قوة هذين الإمامين ما حصلوا على كل هذا الحقد وتلك الكراهية الشديدة، فالإنسان يلجأ للعنف عند شعوره بالخطر. وهذا العنف اللفظي الذي حصل عليه المريسي والنظام لهو دليل على إشعارهم مناظريهم من الأثرية بالخوف، ومن آفات التناظر بشكل عام هو هذا الأمر الذي يدخل فيه كل طرف بغرض الإفحام ضد خصومه، فيلجأ لكل الحيل المشروعة وغير المشروعة للانتصار حتى لو أدى ذلك لتهديد خصمه أو إشعاره بالخوف والضعف النفسي مقابل أن يظهر قويا منتصرا يجذب له مزيدا من الأنصار والدعم، علاوة على السمعة الاجتماعية والنفوذ والهيبة التي يتمتع بها طوال حياته.
أختم بأن مذهب المعتزلة في غالبيته العظمى مندثر والمعلومات عن مؤسسيه الأوائل ضعيفة للغاية لعوامل منها حرق كتبهم وتهديد أئمتهم بعدم الكتابة والتصنيف، لدرجة أن معظم أخبارهم في التراث جاءت من طرف الخصوم باستثناء محاولات القاضي عبدالجبار الهمذاني (359 -415هـ) في موسوعة المغني وكتابيه الشهيرين “تثبيت دلائل النبوة” و “طبقات المعتزلة” ولم تأت المعلومات بإنصاف عن أئمة المعتزلة سوى في ثلاثة كتب للتفسير متقدمة هي “التفسير الكبير لفخر الدين الرازي” (544 – 606 هـ) و “التبيان في تفسير القرآن للطوسي” (385 – 460 هـ) و “مجمع البيان للطبرسي” (469 – 548 هـ) وبدأ انهيارهم الرسمي بعد وثيقة الخليفة العباسي القادر بالله سنة 408 هـ بحظر مذهب الاعتزال والترويج لأفكاره ومعاقبة منتسبيه، والوثيقة كانت أشبه بالمجمع المسكوني المسيحي في إقرار عقيدة دينية ملزمة لجماهير المسلمين وحظر ومعاقبة ما سواها.
حتى يمكن اعتبار وثيقة القادر بالله وما سبقها من قرارات المتوكل بالله العباسي في القرن 3 هـ هما عصر نهاية المعتزلة في التاريخ الإسلامي بالصورة القديمة، بيد أن صورة جديدة يجر إحياءها الآن للمعتزلة أكثر حداثة ومعاصرة وإيمانا بالعلم جرى العُرف الأصولي على اتهام مفكري الليبرالية والعلمانية بها، وهو المستفاد من قول المعتزلة الأوائل بمسئولية الإنسان عن أفعاله وأن الله لا يخلق أفعال العباد كما يقول الأثرية ، وهذا القول علماني محض إذ يجعل الإنسان مسئولا عن أفعاله خيرا وشرا، ومن ثم لا قدسية لتلك الأفعال ولا يجوز نسبها للخالق على طريقة الجبر. وهو مضمون الفصل بين السلطة الزمنية والروحية في السلوك العلماني، ولم يتوقف الأمر على ذلك بل جرى وصف المستشرقين الذين انتقدوا الأحاديث كالمستشرق الألماني “جوزيف شاخت” (1902 – 1969م) بأنهم يريدون إحياء فكر المعتزلة البائد، والمقصود أنهم يريدون إحياء الحركة العقلية النقدية التي تميز بها المعتزلة في بدايات الفكر الإسلامي.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.