كأس العالم لكرة القدم مناسبة رياضية لها علاقة بالكرة الدائرية وأرضية ملعب ولاعبين مشهورين ومغمورين، وفرق عالمية تجوب القارات وجماهير تدافع عن فرقهم ومراكزهم الرياضية، مرات بهدوء ومرات أخر بعصبية وعنف ودماء. وقطعت هذه البطولة عبر تاريخها، أشواطًا ومراحل عديدة في القوة والتنافس والإبداع وإمتاع الجماهير؛ حيث تقام مرة كل أربع سنوات، في أحد الدول المختلفة حول العالم، بشروط وضوابط الفيفا وغيرها من المنظمات الرياضية والدولية والمختصين.
ولا أدعي هنا بأن لي علاقة حميمة مع تلك البطولة، ناهيك عن كرة القدم أساسًا، وغيرها من الكريات المختلفة لمختلف الرياضات الشعبية. ولا أتابع في الغالب، إلا ما تيسر من أشواط في وقت الفراغ، أو عند تمضية الوقت مع الأهل والأصدقاء والأولاد، ولا يعنيني أيضًا انتصار أي فريق أو دولة أو لاعب؛ فأنا لا أفقه في قوانين الرياضة الشئ الكثير، ولا أعلم ماهو الفاول والتسلل وغيرها من مفردات الكرة الرياضية، بالإضافة إلى أسماء اللاعبين وخصوصيات حياتهم وانتقالهم من فريق إلى آخر، أو ماهي رواتبهم وأسماء زوجاتهم وصديقاتهم الحسان.
ما ذكرته أعلاه، لا يعني بأنني قد غيرت رأيي وبدأت في متابعة المباريات أو كؤوس العالم أو الدوري الأوروبي وغيره؛ بل ما جعلنى أكتب عن هذه المناسبة، هو في انتقالها إلى قطر، الدولة الخليجية المنتمية إلى العمق العربي الرحب والعالم الإسلامي ممتد الأطراف.
وربما هي مفارقة أن يتم انعقاد بطولة كأس العالم، بكل صخبها وعنفوانها وتحديات الفرق واللاعبين وجماهير الناس والمشجعين بكل خلفياتهم الثقافية والدينية واللادينية والفكرية، في قطر، وأن يتواجدوا على أرض غير أرضهم، في دولة ليست أوروبية ولا غربية ولا تنتمي الى العالم الأول أو الثاني؛ بل تنتمي إلى العالم الثالث بكل مساوئه وقيمه الرجغية. في دولة، مثل قريناتها في دول الخليج وغالبية العرب، لا تزال تتعاطى مع العادات والتقاليد والدين بصورة منغلقة ومتعصبة.
يقام كأس العالم 2022 في دولة تختفي فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق المرأة واللا اعتقاد مثل غالبية الدول العربية والإسلامية، في دولة يعاني فيها المثليون والأقليات المختلفة من الاضطهاد والمنع والرفض لزيارتهم فعاليات كأس العالم، في دولة تستمر في رفض ومنع المشروبات الروحية أثناء احتفالية كأس العالم، في دولة تهتم عبر جزيرتها الإعلامية، بكل ثورات العالم وحقوق العالم ومطالب الشعوب، ما عدا الأقرب إليها.
وكعادة العرب، لم تسلم احتفالية كأس العالم من التدخلات الدينية الإسلامية الفجة، ومحاولة الزج بالإسلام في عروق وتفاصيل الكرة واللاعبين والمشجعين، ولم يتخل الفقهاء وجيوش الوعاظ ومنابر الدعوة من الدعوة إلى اعتناق الإسلام والحث على الإيمان وذكر مناقب السلف ومآثر التاريخ والموتى وأهل القبور.
وكأن ما لدينا من مسلمين ومشاكلهم لا يكفي، وكأن ما لدينا من تطرف وعنف وتخلف وجهل لم يعد يرضينا؛ بل نريد أن يصيب العالم كله. وكأن ما لدينا من حالات القمع والوصاية والاستبداد قد شبعنا منها ونريد للعالم أن يتذوقها، وكأن ما لدينا من عداء للمرأة والفن والحب والحياة قد أعمانا؛ فنريد للعالم المبصر أن يكون أعمى مثلنا.
وكأن ما لدينا من مدراس دينية ومنابر دعوية ولجان خيرية وتيارات إرهابية، وكليات شريعة وفقه وتراث لم تعد كافية في أوطاننا الخربة والرثة؛ بل نريد أن نورثها للعالم كي يكونوا عبادًا صالحين ودعاة فضيلة وأهل زهد.
هذه التناقضات العجيبة والغريبة، يتفوق فيها العرب والمسلمون؛ بل ويبدعون فيها ويصلون إلي المراتب العليا والمتقدمة في ضرب أردأ الأمثلة وأبشع المقارنات وأسخف المناكفات وأغرب الدعوات.
فهل الإسلام بحاجة إلى أعداد متزايدة من البشر بلا معنى، ومرات بلا مأوى، ومرات أخر هاربين من جور الظلم إلى رحاب أوروبا وعدلها وإنسانيتها؟ أم يفتخر الإسلام بنوعيات بشرية إنسانية متقدمة ذكية عقلانية علمية؟ هل الإسلام يكتفي بنجاحه في حال دخول العدد الكبير إليه؟ أم يكتفي حين تتقدم دول معتنقيه وتتطور عقول معتنقيه وتتحضر مجتمعات معتنقيه؟
في غالب الأحوال، ستنجح فعاليات كأس العالم بشكل مادي فقط، بناء على مباني وملاعب البطولة، ومؤهلات السرعة والإنجاز، ومدى الرعاية وإغداق الأموال، لأن ما دفعته القيادة في قطر مبالغ كبيرة ومهولة لضمان نجاح الفعالية، وهو أمر محمود ويستحقون الثناء عليه؛ بل هو مؤشر على تقدمهم على كثير من الدول الخليجية في التنافس العالمي وضمان بناء اسم كبير لمجتمعهم.
لكن ما يجعل من بطولة كأس العالم في قطر، شبيهة بفعاليات الصحوة القديمة في المملكة العربية السعودية (منع الفرح والسعادة ومصادرة الحريات الفردية)، ومجلس الأمة الكويتي (ديمقراطية صناديق وقبائل ومذاهب وشتم وسباب بلا ديمقراطية)، أنها تتنافس في غير هدفها، وبعيدة كل البعد عن مقاصد الرياضة واستثمار البطولة اقتصاديًا، وزيادة رصيد السياحة والاستثمار التجاري والاطلاع على ثقافة الشعب القطري، الذي يمثل ثقافة الخليج والعرب، بلا زيادة أو ادعاء أو مثالية.
فكلنا نعرف أن الشعوب الخليجية في غالبها تنادي بالشريعة والدين والصلاة والحجاب في مجتمعاتهم، لكن أغلبيتهم في السر، وفي الغرب وأوروبا يمارسون الرذيلة، ويرقصون بأحضان العاهرات، ويبدون إعجابهم الكبير بالعلمانية والحريات والديمقراطية في دول الغرب وأوروبا، لكنهم سرعان ما يناقضون أفعالهم وكلماتهم في ديارهم الصحراوية، ومنازلهم المرعبة وأرواحهم المسكونة بالخرافات والوهم والتقاليد.
تنجح أغلب الدول وتتقدم مؤشراتها في حقوق الإنسان والمدنية والأخلاق، حين تقدم صورة حضارية للفعاليات المقامة على أراضيها، حين تبتعد عن التهويل والتضييق وكتم ثقافات وآراء الآخرين، حين تقدم ما يثبت أن دينها متسامح مع المختلفين، قادر على تقبل نقد الآخرين، يسعد لفرح الناس مهما كانت ميولهم وأديانهم ومذاهبهم، هنا، وهنا فقط، يكون كأس العالم قد نجح في تقديم أكبر هدف أسمى رسالة إنسانية إلى دول العالم.
- الآراء الواردة في المقال من حق الكاتب ولا تعبر بالضروروة عن شبكة مواطن الإعلامية