يعالج الفيلم الجزائري “سولا” نوفمبر 2021م، موضوع الأم العزباء في مجتمع لا يرحم. استلهم المخرج صلاح إسعاد قصة الفيلم من حياة “سولا بحري” التي شاركته في كتابة السيناريو وقامت بدور البطولة بأداء مدهش. فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم وجائزة رمسيس مرزوق لأفضل تصوير في مهرجان الإسكندرية السينمائي في دورته الثامنة والثلاثين، كما توِّج بجوائز أخرى في مهرجانات عربية وعالمية.
بداية واقعية
تشير عبارة الاستلهام إلى أننا سنشاهد قصة واقعية، وهي فعلًا كذلك بالمعنى الانتقائي لمفهوم الواقعية، أي باختيار واقع بعينه وتكثيف مجتمع ما بصفات حددها صانع القصة من أجل تحقيق هدفه أو رؤيته في النهاية، وهي رؤية فنية ثرية لا تخلو من خاتمة وعظية كما سنرى.
يبدأ الفيلم بطرد “سولا” من البيت، نعرف لاحقًا أن والدها هو من فعل ذلك، لكننا لن نعرف السبب إلا من خلال التأويل بالنظر إلى ماضي “سولا“، كما لن نعرف من هو والد طفلتها، الذي يبدو أنه قد تخلى عنها أثناء الحمل. والمسكوت عنه هنا غير مهم؛ فالهدف هو إلقاء الضوء على المصير الذي ينتظر أُمًّا عزباء بلا مأوى، هل ستجد في الشارع حضنًا بديلًا؟ وهل يمكن لدائرة المقربين والأصدقاء أن يجدوا لها وطفلتها الرضيعة حلًا؟ أم أنهم سيكونون وحوشًا أخرى يطردونها من حياتهم كأبيها؟
بعد خروجها من البيت مطرودة نرى “سولا” وهي على تاكسي برفقة طفلتها، صاحب التاكسي “عمار” رجل مسن طيب، لا يملك ما يساعد به “سولا” سوى إياصلها مجانًا، يقلها عمار إلى بيت خالتها لتودع طفلتها عندها مؤقتًا، ثم تنتقل “سولا” من تاكسي عمار إلى سيارة تُقل حبيبها الذي يحاول مساعدتها في إيجاد مأوى لها لكن دون جدوى.
لتحري الموضوعية يقسم صلاح إسعاد المجتمع إلى قسمين: جانب خيِّر يمثله عمار (بوجمعة جيلاني)، وحبيب “سولا”، ستيكا (حمزة تيمايني) وسفيان (فرانك إيفري)، ورجل يظهر في نهاية الفيلم بعد انتشاله “سولا” من الطريق ومساعدتها في البحث عن طفلتها، بينما رفيقه يلومه على مساعدته لها، ثم أمين (إيذير بن عيبوش) الذي يقف وسطًا بين الخير والشر. لكن ممثلي الخير هنا جميعًا لا يملكون سوى النوايا الطيبة، خلافًا لممثلي الشر الذين يلحقون الأذى بها ويتساوى في ذلك الأقرباء والغرباء.
تَقبل خالة “سولا” الاحتفاظ بالطفلة ساعات معدودة بعد أن تُلقي على “سولا” كلمات قاسية تذكِّرها بخطيئتها التي لم تعالجها بالإجهاض كما نصحتها، وتحاول صديقتها آمال (أمينة بلعابد) إغواءها للعمل في الدعارة لتكسب في اليوم الواحد راتب شهر من عملها كمدلكة في حمام، لكن “سولا” ترفض العمل في الدعارة فتتعرض لما هو أسوأ: اغتصابها، إضافة إلى اغتصابها نفسيًا ومعنويًا بما تسمعه يوميًا من ألفاظ وشتائم من الناس في الشارع ومن المقربين، ثمة مقابلة هنا بين حياة الأم العزباء وبين فتيات الليل اللواتي لا يلاقين المعاملة نفسها.
بعد محاولات البحث عن مأوى يقودها اليأس للاستنجاد بصديقتها آمال التي تقبل استضافتها في بيتها، لكنها تتركها في سيارة مع شابين ليقوم أحدهما باغتصابها ثم يطردانها لتهيم في الشارع قبل أن يلتقطها بسيارته صديقها أمين، وهو شاب ثري يعيش من أجل اللذة ويحاول اغتصابها بعد أن أسرف في الشراب، لكن يمنعه من ذلك ابن خالته سفيان، ومع أن هذا الشاب لا يعرفها، لكنه -وهو القادم من فرنسا- يحمل قيمًا تجعله يتعاطف معها، مع ما يتضمنه هذا الاختيار من مقارنة مضمرة بين نمطين من القيم للمجتمعين الفرنسي والجزائري.
في محاولة لنسيان ما حل بها تطلب “سولا” من أمين اصطحابها إلى سهرة، فيمضي الثلاثة في السيارة إلى مدينة عنابة، التي تبعد عن العاصمة مسافة 300 كيلومتر، وهم في منتصف الطريق تتصل بها خالتها لتحثها على القدوم لأخذ طفلتها في غضون نصف ساعة وإلا ستلقي بها في الشارع؛ إشارة أخرى إلى قسوة الأهل وانعدام الرحمة، ولأن أمين مصر على السهر يطلب بالتلفون من يذهب لأخذ الطفلة والقدوم بها إلى عنابة.
عند هذه النقطة -التي يمكن أن تتحول إلى منعطف- سيضاف عنصر تشويقي آخر هو مصير الطفلة بين يدي غريب، إضافة إلى عنصر التشويق الأول المتمثل في مصير “سولا” نفسها.
ثمة منعطفات أخرى ماثلة في حادث الاغتصاب والتوقيف والتفتيش من قبل الشرطة مرتين، وهي منعطفات يمكن أن تذهب بالقصة إلى نهايات مختلفة عن تلك التي رسمها صانع الفيلم سلفًا، إضافة إلى ما تمثله هذه المنعطفات من مخاطر يتفاعل معها المشاهد بالخوف مما يمكن أن يحدث لــ”سولا” وطفلتها. يستعمل المخرج هذه المنعطفات- إضافة إلى الحادث الأخير- كوسيلة للتعاطف مع “سولا” وطفلتها، وقد كانت تكفي لتحقيق الهدف من القصة بما يبقيها ضمن نطاق الواقعية المعقولة، لكن المخرج يمضي في استدرار المزيد من العطف بأسلوب ميلودرامي يذهب بالقصة إلى خاتمة تهويلية.
بوصول السيارة إلى ملهى ليلي في عنابة ينقطع السرد بتقنية القطع لنرى “سولا” في مشهد لاحق وهي في سيارة مع غريبين يتحدثان عن انتشالها من الطريق بينما هي تتمتم بكلمات تعبر عن بحثها عن ابنتها وتوحي صورتها الرثة بنسيانها كل شيء ما عدا ابنتها، وبعد استجوابها من قبل الغريبين تستعيد “سولا” ذاكرتها جزئيًا فتتذكر النادي الليلي. وهي في السيارة مع الغريبين، ترى سيارة أمين على شاحنة قطر وقد أصبحت كومة ما يشير إلى وقوع حادث، بعد عناء تتذكر “سولا” ما حل بالسيارة. تنتقل كاميرا المخرج بتقنية المزج من سيارة الغريبين، و”سولا” عليها، إلى سيارة أمين وقد صارت كومة من المعدن بينما “سولا” تكافح من أجل الخروج منها. وهي في حالتها هذه تسمع صوت طفلتها فتنتشلها. وفي مشهد أخير نرى “سولا” وهي تتجه إلى شاطئ البحر حاملة طفلتها معها لتضعها في صندوق مفتوح تدفعه ليأخذه الموج بعيدًا مع عبارة أخيرة تنطق بها “سولا”: “اذهبي يا ابنتي كان الله معك، لا أستطيع أن أشق البحر للمجيء معك، لكنني أؤمن بأن من خلقك سيحميك”.
نهاية أسطورية
المشهد الأخير بعبارته الوحيدة يحيل إلى قصة موسى حين قذفت به أمه إلى اليم، إلى آخر القصة التي رافقتها المعجزات حتى النهاية. استعارة القصة الدينية لتكون خاتمة لقصة واقعية عملت على أسطرة الواقع في دلالة على أن طغيان المجتمع في قصة الفيلم، أو في واقعنا اليوم، يماثل طغيان فرعون في القصة الدينية. بهذه الخاتمة الميلودرامية الأسطورية، التي كان يمكن الاستغناء عنها، تغازل قصة الفيلم القصة الدينية أو تقاربها، بهدف التهويل من خطورة ما أقدمت عليه “سولا” في الجانب المسكوت عنه وهو إنجابها من غير زواج “شرعي”.
تصور قصة الفيلم “سولا” على أنها ضحية، وشخصية سلبية منقادة، والمجتمع هو الجلاد، لكن الخاتمة تُحوِّل الأم إلى مجرمة وشريك للمجتمع في قسوته. ثمة إدانة للطرفين بدرجات متفاوتة، وثمة إدانة لمعايير المجتمع المزدوجة والتدين الشكلي. بعد اغتصابه لــ”سولا” يقول الشاب لرفيقه: “أوقف الموسيقى إنه وقت الأذان”. كما ينتقد الفيلم القانون الاجتماعي الذي لا يسمح بتأجير مسكن إلا بدفتر عائلي. ومن منظور التعامل مع مشاكل الواقع بحلول عملية تقدم قصة الفيلم حلًا مؤقتًا مباشرًا لعواقب الجنس خارج إطار الزواج؛ وذلك بذكر نوع من العقاقير الطبية تساعد في الإجهاض. كما تقترح مضامين القصة ونهايتها الأسطورية حلًا جذريًا؛ وهو التوقف عن هذا النوع من الحب وإلا فإن النهاية ستكون مماثلة لمصير “سولا”.
هذا النوع من الوعظ المبطن أفسد القصة وخلط الفن بالدين، وقد كان لقصة الفيلم أن تنتهي بــ”سولا” وهي تبحث عن طفلتها، أو أن تنتهي وهي تحملها بين يديها في الشارع بعد خروجها من السيارة المحطمة. عند هذين المشهدين، الذين يحملان رسالة للتيه والضياع، كانت قصة الفيلم قد استوفت رسالتها وأبلغت مضامينها في سياق واقعي دون الوقوع في الوعظ والميلودراما. كانت بداية الفيلم قد مهدت للطابع الميلودرامي من خلال الموسيقى التصويرية المصاحبة لمشهد طرد “سولا” من البيت؛ موسيقى جنائزية حزينة- ربما على آلة البالابان، وهي آلة نفخية تشبه الناي- لا تتناسب مع طبيعة المشهد ومعانيه؛ فالمشهد يعكس الترقب لا الحزن، وكان الأفضل مصاحبته بموسيقى والآت مختلفة أو بدون موسيقى.
سينما الطريق
بدأ الفيلم بمشهد افتتاحي للطريق، صوِّر بكاميرا محمولة على تاكسي (بين الولايات)، وهو تمهيد بصري لخط الرحلة التي ستقطعها “سولا”، وتمهيد لتقنية السرد؛ حيث ستكون الطريق هي الحاضر الأساسي بمنعطفاتها التي تتناسب مع المنعطفات المحتملة في السرد. كما صورت كل المشاهد تقريبًا داخل السيارات أو من داخلها. وهذا الاختيار مقصود؛ فالسيارة تحمل معنى عدم الاستقرار والتنقل وضيق المكان والحال، وهو ما تعاني منه بطلة الفيلم في رحلتها للبحث عن سكن لائق ولو من غرفة واحدة كما عبرت “سولا” لعمار.
لا يشير السرد إلى تاريخ بعينه حدثت فيه القصة، وثمة لقطة لصورة هواري بومدين، الرئيس الثاني للجزائر موضوعة على مرآة تاكسي في المشهد الافتتاحي، لكنها لقطة لا تقول الكثير ولا يمكن الذهاب بعيدًا في تأويل مضامينها؛ فالقصة ذات مضامين اجتماعية إنسانية يمكن أن تحدث في أي مجتمع، وفي أي زمان ومكان، وليس في الجزائر فحسب، ما يجعل منها قصة إنسانية لا تحدها الجغرافيا وإن كانت أكثر ارتباطًا بالواقع العربي والمجتمعات المغلقة المماثلة لها؛ حيث تعاني فيها الأم العزباء من ويلات المجتمع ورقابته المستمرة، فتضيق بها السبل ولا تجد مخرجًا سوى قتل الجنين وهو في رحمها أو التخلي عنه بعد ولادته أمام باب جامع أو أن تلقي به في الزبالة، والواقع مليء بمثل هذه القصص.
تبدو القصة عادية وتقليدية من حيث الأحداث، لكن معالجتها الفنية جعلت منها قصة مشوقة، وذلك بأن قسم زمن السرد إلى مناطق زمنية بدأت عند السادسة إلا خمس دقائق مساءً وانتهت عند الساعة السابعة والربع صباحًا؛ هذا من حيث زمن القصة، أما زمن السرد فقد خالف هذا الترتيب في القسم الأخير من الحكاية لغرض تشويقي؛ حيث عمد إلى تأخير مشهد الشاطئ إلى بعد مشهد “سولا” وهي في السيارة مع الغريبين، كما اختار المخرج الليل ليتناسب مع موضوع القصة وحياة الليل.
ينتهي الفيلم بمشهد ختامي و”سولا” على شاطئ البحر وهي تحمل طفلتها. بحسب زمن القصة فإن هذا المشهد الختامي حدث قبل السادسة صباحًا، لكن منظر الأفق الدموي أقرب للغروب منه للشروق، وثمة شمس في الأفق تعدُ بغدٍ أجمل، لكن الظلام واللون الدموي المحيط بالشمس يقتل ذلك الأمل في المهد، كما قتلت “سولا” طفلتها في المهد وهي تعدها بتدخل العناية الإلهية في معجزة تريد لها أن تكون كقصة موسى.