ما الذي يجعل الساحة الثقافية بمجتعمنا منذ ما يزيد عن القرن لا تتعرف إلا على عدد محدود من القضايا دائرة مغلقة لا تخرج عنها نقاشاتنا؟ وعود يبدو أبديًا لعناوين قارة؟
للإجابة على السؤال يلزم أولاً رصد ـ ربما غير مكتمل ـ للمتصدرين الفضاء الثقافي ومن أداروا نقاشاته على امتداد القرن الماضي، ثم الكشف عن صورة تمثلها خطابهم.
في مفتتح القرن تلوح أسماء مثل: الشيخ علي يوسف، محمد رشيد رضا، المنفلوطي، شبلي شميل، سلامة موسى، أحمد لطفي السيد ثم يليهم جيل طه حسين والعقاد والمازني وأحمد حسن الزيات وزكي مبارك وأحمد أمين ومصطفى صادق الرافعي..، ثم هناك جيل زكي نجيب محمود، توفيق الحكيم، يحيى حقي، الشيخ محمد متولي الشعراوي..، يأتي بعد ذلك يوسف إدريس، يوسف السباعي، خالد محمد خالد، نجيب محفوظ، أنيس منصور، محمود أمين العالم، عبد الرحمن الشرقاوي.. ثم هناك صلاح عبد الصبور، أحمد بهاء الدين، صلاح جاهين، أنور عبد الملك، الشيخ محمد الغزالي، عادل حسين، يليهم أسماء مثل: صلاح عيسى، محمد عمارة، فرج فودة، فهمي هويدي، سيد القمني.
الملاحظة الأولى التي تقدمها لنا هذه الأسماء؛ أن غالبيتها من أصحاب اللغة لا أصحاب الفكر، واللغة عند المشتغلين بالأدب أو الصحافة ليست إلا أداة لتصوير حقيقة معروفة من قبل؛ لا وسيلة لبلوغ حقيقة غير معروفة بعد، هم بذلك ذوو خطاب بلاغي، ولتحديد ملامح هذا الخطاب البلاغي لزم الاستعانة بمن وضع “الأسس الكبرى للتفكير البلاغي العربي”؛ وهو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، هذه الأسس أو السمات ضمنها الجاحظ في كتابه الشهير البيان والتبيين، والبيان كما يدلنا أديبنا القديم “اسمٌ جامع لكل شيء كشفَ لك قناع المعنى، وهتك الحُجُب دون الضمير” فـ “مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام”.
يوضح الجاحظ لنا من خلال تعريفه أن الخطاب البلاغي معني بـ”الفهم والإفهام” أي بالشرح والتفسير، كذلك بـ”تفصيل المجمل وتخليص الملتبس”؛ فالغرض منه الوضوح، وعلى لسان عمر بن الخطاب (حين صادف رجلاً يدعى هرم بن قطبة)، ينبه الجاحظ إلى سمة أخرى فيقول “ورأى (ابن الخطاب) دمامته وقلَّته، وعرف تقديم العرب له في الحكم والعلم، فأحبَّ أن يكشفه ويسبر ما عنده، فقال: أرأيت لو تنافرا إليك اليوم، أيهما كنت تنفِّر؟ يعني عَلقمة بن عُلاثة وعامر بن الطُّفيل. فقال: يا أمير المؤمنين، لو قلت فيهما كلمة لأعَدتُها جَذَعة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لهذا العقل تحاكَمت إليك العرب.
وفي موضع آخر يذكر الجاحظ: “نظر عمر إلى الأحنف وعنده الوفد، والأحنف مُلتفٌّ في بتٍّ له، فترك جميع القوم واستنطقه، فلما تبعَّق منه ما تبعَّق، وتكلَّم بذلك الكلام البليغ المُصيب، لم يزَل عنده في علياء، ثم صار إلى أن عقد له الرياسة ثابتًا له ذلك إلى أن فارَق الدنيا. هذه اللمحة تكشف أولوية البلاغة على الحقيقة، وإذا تتبعنا تفصيل أو مفهوم الجاحظ للبلاغة سنجد أنها ـ فيما جمع من آراء ـ تعادل الخطابة، ومن ذلك أن البلاغة هي “البصر بالحجة والمعرفة بمواضع الفرصة”، وهي “إظهار ما غمض من الحق وتصوير الحق في صورة الباطل”.
ثم إن هناك مقولة شهيرة للجاحظ: “إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ”. لتحرض تلك المقولة عددًا من النقاد على إقامة صلة بين رؤيته تلك والمدرسة الشكلانية الحديثة في النقد الأدبي، والتي تركز على الشكل ليتقدم على المحتوى أو المضمون.
كل هذا يضعنا أمام خطاب بلاغي يستهدف الشرح والتفسير والوضوح، ولا يبتعد باللغة عن عتبة تصوير حقيقة معروفة من قبل، وتستطيع بكل يسر أن تتبع ملامح هذا الخطاب في كتابات أغلب الأسماء المذكورة، ولن يحجز اندفاعك أسماء لم تتقدم إلى الفضاء الثقافي من بوابة اللغة؛ فكان دخولها من بوابة الفكر، على سبيل المثال رائدا العلمانية ومنظراها؛ شبلي شميل وسلامة موسى.
نقرأ معًا في كتاب نظرية التطور وأصل الإنسان لسلامة موسى أن على الواحد منا أن “يُشرب عقله ويصبغ ذهنه” بهذه النظرية، وأن الفرق بين شخص كهذا وبين رجل “يجهل هذه النظرية كالفرق بين إنسان قد اكتشف ملكوتا رائعًا عظيمًا وبين آخر عاش عمره محبوسًا في صومعة يظنها جماع ما في هذا الكون من خلائق ومكنونات وأسرار. وإذا كان أحد القديسين قد قال مرة بدافع النزعة الدينية الشريفة التي كثيرًا ما رفعت رجل الدين في المسيحية والإسلام فوق نفسه: “أخي الطير”؛ فإن رجل التطور لا يقول هذا القول فقط، بل هو يحسه في أرجاء نفسه وتلافيف دماغه ومسارب دمه.
يضعنا سلامة موسى بذلك لا أمام نظرية علمية تقبل الخطأ؛ بل أمام معتقد ديني جديد لابد أن تتشربه عقولنا” لنحسه بـ”تلافيف أدمغتنا ومسارب دمنا”، هذه الكتابة الأيديولوجية تؤكد أن الحقيقة بينة لا جدال حولها (وهو نفسه ما يقدمه الخطاب الديني). الأمر ذاته في كتابات شبلي شميل؛ فنجده يعنون كتابًا له عن مذهب النشوء والارتقاء أيضا بـ”الحقيقة”!، بينما النظرية العلمية تستعصي على هذا الوصف؛ فهي لا تكون نظرية إلا إذا سمحت بتخطأتها.
يمكنك أن تغادر هذا الجيل لتنتقل إلى الجيل اللاحق ستقع على سيطرة تامة لخطاب اللغة باستثناء عمل وحيد لاسم من أبرز مثقفينا وأصحاب اليد الطولى في نقاشات الساحة الثقافية على امتداد قرابة نصف قرن، وهو الدكتور طه حسين في مؤلفه “في الشعر الجاهلي”، في هذا النص لا يلتزم عميد الأدب العربي بسمات حددها الجاحظ لخطاب اللغة، فيجاوز الشرح والتفسير إلى الشك والارتياب، والوضوح إلى الغموض والالتباس، لكن إذا استعدت أعمال طه حسين السابقة على هذا العمل مثل ذكرى أبي العلاء واللاحقة كذلك مثل: على هامش السيرة، من حديث الشعر والنثر، الفتنة الكبرى، الشيخان…إلخ.
يبدو نص "في الشعر الجاهلي" كأنه نتوء في مسار انتظمت به أعمال طه حسين التي لا تجد فيها أي أثر لمنهجه بمؤلف "في الشعر الجاهلي"؛ فهو عمل ينتمي إلى خطاب مغاير؛ خطاب الفكر لا خطاب اللغة التي تندرج تحته كل أعمال طه حسين باستثناء هذا النص.
تجد هذه الأعمال وغيرها وقد انتظمت جميعها ضمن خطاب حددتُ ملامحه، وإذا كان هناك موضع للنقد بها فلا يعدو أن يكون إضعافًا لرأي وميلاً لآخر، أو تتبعا لخطأ أو ردًا لحكم، ليلتزم النقد دائمًا صورته التقليدية التي تتماهى وخطاب اللغة، وبهذا يبدو نص “في الشعر الجاهلي” كأنه نتوء في مسار انتظمت به أعمال طه حسين التي لا تجد فيها أي أثر لمنهجه بمؤلف “في الشعر الجاهلي”؛ فهو عمل ينتمي إلى خطاب مغاير؛ خطاب الفكر لا خطاب اللغة التي تندرج تحته كل أعمال طه حسين باستثناء هذا النص.
تلك الصورة تحرضني على القول بأن “في الشعر الجاهلي” عمل منتحل، لا ينتمي إلى عميد الأدب العربي وخطابه، لهذا السبب تجاوزته الساحة الثقافية سريعًا؛ فلم يستتبعه نقاشات على ذات النمط بعدما تجاوزه صاحبه نفسه كأن لم يكن، أما الوقوف عند هذا العمل فبسبب أهميته البالغة من جهة منهاجه وموضوعه، وبسبب أنه حمل اسمًا تصدر الساحة الثقافية قرابة نصف قرن، وكان حري به أن يقطر نقاشاتها ـ حتى وإن كانت تلك المتصلة بالأدب والتراث فقط ـ من خلال منهج أرسى دعائمه؛ إلى مساحات مغايرة؛ بل ربما استطاع أن يقلل من انحياز الفضاء الثقافي إلى خطاب اللغة على حساب الفكر، ليأتي بعدها اسم مثل نجيب محفوظ فيزيد من مساحة الانحياز إلى الأدب ويؤبده، والأدب ببلدنا ـ كما يذهب فوكو ـ يتميز أكثر فأكثر عن خطاب الأفكار، ليصبح مجرد تجل للغة لا قانون لها سوى التأكيد على وجودها.
إذا عدنا إلى أسماء استعرضتها تجد منهم من اعتنى بالتنظير الأيديولوجي؛ وهو في طبيعته أقرب إلى خطاب اللغة، أما القلة الذين اتجهوا إلى الفكر فلم تبلغ نصوصهم في تأثيرها حد توليد نصوص أخرى تشتبك مع الطرح، تطوره أو تعارضه ليتسع مداه؛ فحتى عندما برزت مؤلفات فكرية قادرة على كسر الحلقة المفرغة لمناظراتنا ونقاشاتنا؛ مثل “نقد الخطاب الديني” لنصر حامد أبو زيد، لم يجد النص بيئة ملائمة تنتقل بالنقاش حوله إلى مساحات مختلفة عن المعهود، ليدور النقاش حول حرية الرأي وأحقية الكاتب في أن يذهب إلى ما ذهب إليه! ومازلنا إلى اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى، يتصدر الفضاء الثقافي أسماء تنتمي إلى خطاب اللغة لتُرسخ أكثر فأكثر حالة التكلس، فتدور الساحة الثقافية وندور معها في دائرة مفرغة من القضايا والعناوين المكرورة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.