وصلت الحرب في اليمن إلى مرحلة الجمود، وتسعى الأطراف الفاعلة لترجمة مكتسبات الميدان العسكري إلى واقع سياسي. في معظم المحافظات اليمنية التي كانت ضمن الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن) استقرت السيطرة الميدانية لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وتسيطر الشرعية اليمنية على معظم محافظة مأرب، وفي الغرب تسيطر على معظم محافظة تعز ومناطق في محافظة الحديدة.
وفي المحافظات التي كانت ضمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن)، تسيطر الشرعية اليمنية على معظم الجغرافيا، عدا مناطق محدودة في محافظة الضالع؛ فبها تواجد حوثي. تحت عباءة الشرعية اليمنية توجد قوى أمر واقع بمثابة السلطة الفعلية في مناطق سيطرتها؛ في مأرب يسيطر حزب التجمع اليمني للإصلاح، ذو التوجهات الأيديولوجية المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين. في محافظة تعز هناك تواجد للإخوان المسلمين وقوى سياسية؛ منها أجنحة من حزب المؤتمر الشعبي العام والناصريين وغيرهم، وفي الحديدة وأجزاء من تعز توجد المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح نجل شقيق الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
بينما في جغرافيا اليمن الجنوبي، يسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو الكيان الجنوبي الأبرز سياسيًا وعسكريًا وشعبيًا على معظم المناطق الجنوبية الهامة، وله نفوذ شعبي طاغٍ مع الكيانات التي تشاطره هدف استعادة دولة الجنوب في بقية المناطق، باستثناء المهرة التي تشهد تواجدًا قويًا لحزب الإصلاح.
رغم أنّ سؤال “المواطنة” غير مطروحٍ بقوة على الساحة اليمنية؛ إلا أنّه سؤال جوهري، خاصة في المحافظات الجنوبية، التي يبدو مشروعها باستعادة دولة الجنوب له حظوظ كبرى من التحقق، على الأقل بات خيار حل الدولتين تبعًا لسيطرة الحوثيين والشرعية مطروحًا في دوائر الفكر والسياسية الغربية، وهو اختراق كبير لثوابت الحلّ الثلاثية التي طالما تمسكت الشرعية والتحالف بها، ورفضها الحوثيون.
الحرب ومفهوم المواطنة
من الناحية القانونية تعتبر كامل جغرافيا دولة “الجمهورية اليمنية” كيانًا واحدًا، ويحمل سكانها جنسية الجمهورية اليمنية، وهم جميعًا مواطنون متساوون، مع اختلاف تواجدهم في مناطق السيطرة الميدانية العسكرية؛ إلا أنّ واقع الحال في البلاد يدفع نحو حلٍ سيقوم على ترجمة المكتسبات العسكرية إلى واقع سياسي؛ وهو توجه يتبناه المجلس الانتقالي الجنوبي والكيانات السياسية الجنوبية ويعملون من أجله، بينما تتمسك الشرعية ممثلة في الرئاسة والحكومة ومؤسسات الدولة بجغرافيا الجمهورية، وبكذلك يطالب الحوثيون.
يتناول هذا التقرير دعوة استعادة دولة اليمن الجنوبية، والتي يُفضل أصحابها مسمى “دولة الجنوب العربي”، ويرون أن اسم اليمن لم يُطلق على أراضيهم إلا منذ عقود قليلة؛ فكيف ينظر الجنوبيون إلى مفهوم المواطنة؟ ومن هو المواطن الجنوبي؟ وما موقف النخب الجنوبية الفاعلة من الشماليين المقيمين في الجنوب؟
يقول الباحث والمحلل السياسي والعسكري، العميد ركن في جيش الجنوب، ثابت حسين صالح لـ “مواطن” بأنّ اليمن هو “اتجاه جغرافي، وليس كيانًا سياسيًا؛ شأنه شأن الشام والمغرب العربي والقرن الإفريقي والبلقان، والتي انبثقت عنها دول”.
وأضاف بأنّ اليمن السياسي لم ينشأ إلا في عام 1918 عندما انسحب الأتراك العثمانيون من صنعاء وتأسست “المملكة الهاشمية المتوكلية”، وبعد فترة بنصيحة سياسيين أُدخل اسم اليمن، وكانت تلك أول تسمية حديثة لدولة فيها مصطلح “اليمن”، بينما كان الجنوب تحت الاستعمار البريطاني.
اليمن هو اتجاه جغرافي، وليس كيانًا سياسيًا؛ شأنه شأن الشام والمغرب العربي والقرن الإفريقي والبلقان
بعد انتصار ثورة 26 سبتمبر (1962 – 1970) ضد الحكم الإمامي، تأسست الجمهورية اليمنية فيما يُعرف باليمن الشمالي. وفي 30 نوفمبر عام 1967 انسحب آخر جندي بريطاني من المناطق التي تُعرف بجنوب اليمن، وتأسست جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (1967 – 1970)، وتحولت بعد ثلاثة أعوام إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وظلت قائمة حتى الاتفاق على الوحدة مع جمهورية اليمن عام 1990.
رفضت نخب جنوبية الوحدة التي وقعتها السلطة بقيادة علي سالم البيض، التي حكمت الجنوب بعد أحداث 1986 الدامية بين الجنوبيين أنفسهم. ونتيجة للخلافات بين سالم البيض الذي شغل منصب نائب الرئيس في الجمهورية الموحدة، والرئيس علي عبد الله صالح، وقعت اشتباكات بين جيشي الشمال والجنوب، وشاركت قوات جنوبية منشقة مع الشماليين، لينتهي النزاع في عام 1994 بسيطرة القوات الشمالية على الجنوب. تبعًا لنتائج الحرب تشكل مفهوم “المواطنة اليمنية” الذي ظل سائدًا حتى اليوم، وهو الأساس القانوني المعترف به دوليًا.
المظلومية الجنوبية
في العام 2007 انطلق “الحراك الجنوبي” باحتجاج كيان جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المُسرّحين من عملهم، وطالب الحراك النظام الحاكم بالمساواة وإعادة المسرحين العسكريين والمدنيين، ورفع الحراك الذي توسع لاحقًا مطلب “استعادة دولة الجنوب”.
يكاد يتفق معظم الجنوبيين على أنّهم تعرضوا للظلم والتهميش والاضطهاد منذ العام 1994، على يد نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، الذي حكم البلاد بالتحالف مع حزب التجمع اليمني للإصلاح، تبعًا لنصر عام 1994 نُقلت قوات عسكرية شمالية في المحافظات الجنوبية، وتولى الشماليون المناصب الإدارية العليا، وسيطرت القيادات الشمالية على الثروات في الجنوب.
في العام 1990 قدرت إحصاءات عدد سكان شمال اليمن بنحو 9 ملايين نسمة، مقابل مليون نسمة من سكان الجنوب، الأكبر مساحةً. في حديثه لـ “مواطن” قال نائب رئيس لجنة الدراسات والبحوث بالجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي الجنوبي، بأنّ الدولة الشمولية والاستبداد في دولة الجنوب أدى بالجنوبيين في نهاية الأمر إلى الهرولة إلى مشروع الوحدة اليمنية عام 1990، هربًا من الصراعات التي كانت تعصف بالحزب الواحد الذي كان يحكم الجنوب آنذاك.
مواضيع ذات صلة
وتابع عمر باجردانة، بأنّ “الجنوبيين وجدوا أنفسهم في إطار دولة موحدة قائمة على الفوضى والفساد وحكم القبيلة، ولا معنى فيها للمواطنة المتساوية”. وبحسب حديثه؛ لقي الجنوبيون من قبل القوى المسيطرة على مقاليد الحكم في دولة الجمهورية اليمنية (المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح) معاملة كمواطنين من الدرجة الثانية، بعد التخلص من الحزب الاشتراكي اليمني، والانقلاب عليهم بحرب 1994 لتشهد بعد ذلك اليمن دولة القبيلة القائمة على النهب والاستحواذ.
من جانبه، قال الصحفي والمحرر بمركز “سوث 24” للأخبار والدراسات، عبد الله محسن الشادلي، بأنّ “هذه التراكمات السياسية والاضطهاد الذي مارسته قوى الشمال على الجنوبيين في محافظاتهم، بالإضافة إلى العنصرية التي رافقت المرحلة بدءً من العام 1990 حتى العام 2011، مع انهيار نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، صنع صورة سلبية عن الشماليين وعنصريتهم في الجنوب، ودفع الجنوبيين إلى اليقين بأهمية استعادة الدولة”.
استعادة دولة الجنوب
مع انهيار الدولة المركزية بعد انقلاب الحوثيين على الشرعية في عام 2014، بالتحالف مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، اجتاح الحوثيون محافظات جنوبية منها العاصمة عدن، وتمكنت المقاومة الجنوبية ووحدات عسكرية بدعم التحالف العربي من طرد الحوثيين من الجنوب بعد ستة أشهر. وفي عام 2017 تأسس المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي حظي بدعم كبير من دولة الإمارات، ونجح في تكوين قوات عسكرية متعددة، جرى دمجها فيما يُعرف بـ “القوات المسلحة الجنوبية“.
بعد صراع مسلح مع حزب الإصلاح الإخواني منذ العام 2017 حتى أشهر قليلة مضت، تمكن الانتقالي الجنوبي المتحالف مع قوى قبلية جنوبية من توسيع رقعة سيطرته، لتشمل كافة المناطق الجنوبية؛ سواء بشكلٍ مباشر أو عبر حلفاء جنوبيين، عدا محافظة المهرة ومنطقة الوادي والصحراء في محافظة حضرموت؛ حيث توجد المنطقة العسكرية الأولى الشمالية، والتي يحتج ضدها معظم سكان المنطقة.
من جانبه، يسعى الانتقالي الجنوبي إلى تعزيز حضوره الإقليمي والدولي، لنيل الاعتراف بدولة الجنوب حال نجح المبعوث الأممي والوساطة العمانية في جمع التحالف العربي والشرعية والحوثيين على طاولة مفاوضات، من أجل حلّ نهائي للأزمة. يعمل الانتقالي على تعزيز اتفاق المكونات الجنوبية السياسية والقبلية، وفي سبيل ذلك أعلن عن حوار جنوبي – جنوبي.
ورغم أنّ الانتقالي الجنوبي لم يطرح في الورش والمؤتمرات المتعددة التي تنظمها كافة مؤسساته قضية “المواطنة”؛ إلا أنّها ستكون التحدي الأكبر أمام هدف استعادة دولة الجنوب، حال أُقر حقّ تقرير المصير كأحد خيارات حلّ الأزمة اليمنية.
كل من وُلد لأبوين جنوبيين هو مواطن جنوبي
حضرت تلك القضية في نقاشات تأسيس الحراك الجنوبي منذ العام 2007. يعرض رئيس المجلس الأعلى للحراك الثوري، فؤاد راشد، تلك القضية، ويقول بأنّنا “وقفنا في العام 2010 في المجلس الأعلى للحراك الجنوبي لمناقشة هذه المسألة أثناء إعداد البرنامج السياسي للحراك، في فصل شكل بناء الدولة، وتعريف المواطن الجنوبي”.
وبحسب حديث راشد لـ “مواطن“، شهدت المحافظات الجنوبية تغييرًا ديموغرافيًا كبيرًا؛ خاصة في عدن وحضرموت، بعد العام 1994، يرى راشد أنّ هدف استعادة دولة الجنوب سيواجه في المستقبل مشكلة في هذا الموضوع، لكنّهم يفضلون عدم الدخول في سجال حوله، ويركزون على استعادة الدولة أولًا.
يتناول الصحفي عبد الله محسن الشادلي قضية المواطنة، ويرى أنّها “جوهرية لاستعادة الدولة الجنوبية”. وتابع بأنّ “هناك مخاطر من تنامي أعداد الشماليين في الجنوب عند عمليات الاقتراع أو التصويت مثلًا؛ فمن المعروف أن شعب الجنوب لا يتجاوز 6 ملايين نسمة تقريبًا حتى يومنا، بينما يقارب عدد الشماليين الـ 30 مليونًا”. يرى الشادلي أنّه يجب “تحديد من هو الجنوبي تمهيدًا لحدوث استفتاء كحلّ لاستعادة دولة الجنوب”.
المواطنة الجنوبية
ذكر المحلل العسكري، ثابت حسين صالح، أنّ التواجد الشمالي في جنوب اليمن كان حاضرًا منذ عقود طويلة، لكنّه شهد تحوّلًا كبيرًا بعد العام 1994، التي يصف أحداثها بـ “احتلال شمالي للجنوب”. وبحسبه شهدت عدن وحضرموت تغييرات ديموغرافية كبيرة، ويرى أنّ “موجات النزوح بعد انقلاب الحوثيين تصل إلى الملايين، وهي ليست بريئة؛ حيث يغلب عليها الشباب” على حد قوله.
يقول الصحفي عبد الله الشادلي: “أثناء سيطرة الشماليين على الجنوب حتى العام 2011، حصلت عمليات تزوير ومغالطة في منح شهادات الميلاد للمواليد الشماليين بهدف تغيير ديمغرافية الجنوب، ووأد مطلب الجنوبيين باستعادة الدولة”.
بناءً على واقع وجود ملايين من الشماليين استقروا في المحافظات الجنوبية منذ العام 1994، طرحت “مواطن” سؤال من هو المواطن الجنوبي على دعاة استعادة الدولة الجنوبية؟ أجاب رئيس المجلس الأعلى للحراك الجنوبي، فؤاد راشد، بأنّ “كل من وُلد لأبوين جنوبيين هو مواطن جنوبي”.
يشدد راشد على أنّ بحث قضية المواطنة الجنوبية لا تعني أبدًا التوجه لطرد الشماليين. وبحسبه فهناك توافق بين كافة المكوّنات الجنوبية على ألا عودة لنهج دولة الجنوب السابقة في معاداة الشمال والشماليين، وسيكون للمواطن الشمالي امتيازات في الإقامة والتنقل. يقول راشد “نحن على يقين بأنّ الأمن والتنمية مشترك يجمع الشمال والجنوب”.
حول موقف المجلس الانتقالي الجنوبي، قال عمر باجردانة: “موقف الانتقالي الجنوبي من اللاجئين الشماليين واضح؛ هو يعتبرهم لاجئين شماليين، هم مواطنون من دولة الجمهورية العربية اليمنية اضطرتهم الحرب للنزوح إلى مناطق الجنوب، كونها مناطق آمنة”.
هل يمكن أنّ يقبل الجنوبيون بدولة واحدة مع المحافظات الشمالية التي تحررت من الحوثيين؟ يجيب الصحفي عبد الله الشادلي: “من باب الحقيقة والإنصاف؛ فإنّ الوحدة اليمنية غرست في عقول ونفوس الجنوبيين مبدأ العنصرية، ولا أظن أن الجنوبيين سيقبلون أن يحكمهم سياسي شمالي مهما كلف الأمر”.
يتناول الشادلي قضية القبلية في تحديد مفهوم المواطنة، ويرى أنّ المجتمعات في اليمن قبلية تفتخر بأصولها خصوصًا في الجنوب، لهذا يستطيع الجنوبيون تمييز الشمالي والجنوبي مهما استقر في أرضهم.
ما سبق من عرض يتناول وجهة نظر معظم الجنوبيين، وحتى غيرهم من الجنوبيين الذين يعارضون المجلس الانتقالي الجنوبي، كما في حالة كتل وازنة في حضرموت؛ فهم لا يطالبون بالوحدة، ويطرحون مشروع “دولة حضرموت”، استنادًا إلى وضع المحافظة قبل الاستقلال عن بريطانيا عام 1967.
بالنسبة إلى السعودية، التي تقود التحالف العربي، لم تعد لديها رغبة أو قدرة على الاستمرار في خيار الحل العسكري، وما يتسرب عن المفاوضات غير المباشرة برعاية أممية وعمانية، يشي بأنّ المملكة تركز على التوصل لاتفاق على إقامة منطقة عازلة بينها وبين الحوثيين الذين يسيطرون على مساحات كبيرة على الحدود معها. يمنيًا ينذر اختلاف مشاريع القوى الفاعلة في الشرعية بصدامات مسلحة، ستزيد من المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشعب اليمني، ولهذا يجب على التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات البحث عن حلول يمنية واقعية، قبل الذهاب إلى طاولة مفاوضات مع الحوثيين.