خلال التاريخ الحديث وحتى القديم، كانت حرية الرأي والتعبير المحرك؛ بل المحرض الأول على الثورة والتمرد والإبداع والخيال، وبالتالي الانتقال من طور الجمود والخوف والجهل والتخلف والاستبداد، إلى طور البحث والمعرفة والشك والحريات واتساع الآفاق، وخوض مغامرات العلوم والفنون والسياسة والفكر، وهو كل ما يتعلق بانتقال الإنسان المطيع (العبد)، إلى الإنسان المتحضر والمجتمع المتقدم والفكر العقلاني.
هنا، كيف علينا أن نفهم حدود وماهية وخطورة مفهوم حرية الرأي والتعبير؟ وبالتالي هل علينا فتح أبوابها حتى عنان السماء؟ أم علينا أن نحتاط ونحذر ونخاف ونتوجس مما سوف يسفر عنه مثل هذا النوع من الحريات في مجتمعات لا تزال حبيسة التاريخ والأديان والموتى وأهل القبور، في مجتمعات لا تزال تتعاطى مع الكلمة بحذر وريبة ونظرة سطحية رجعية، مجتمعات تعاقب الكلمة إن خرجت بشكل عقلاني، أو خالفت منطق القطيع أو تعرضت لما هو متعارف عليه في الأوساط العربية من ثالوث الحرام؛ الدين والجنس والسياسة؟
يغيب عن العقل العربي، حتى اليوم واللحظة، مسار حرية الرأي والتعبير، مسارها وكيف بدأت؟ وإلى ما وصلت؟ ولماذا أصبحت مهمة وجوهرية ومصانة بالقانون؟ لماذا هي مكتوبة بالدماء الحمراء في فصلها الأول؟
إن المسافة أو الزمن أو التاريخ الذي يعرفه العقل العربي عن مفهوم الحريات والرأي والشك والسؤال، في مجمله لا يتجاوز مئة عام وربما أقل، وهو لا يشكل أي نقلة واقعية وحقيقية في مسار التطور والتقدم، ناهيك أنه يعرفها بشكل سطحي عارض، تختفي فيه الأكاديمية العلمية والمنهجية الرصينة.
وعلى الرغم من وجود العديد من الثائرين والغاضبين والحانقين على أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والدينية؛ إلا أنه مع غياب الانفتاح التكنولوجي في تلك الأزمنة الغابرة، وقمع أرواح المفكرين والأدباء والعقلانيين، لم يصل إلينا من تراثهم وأدبياتهم إلا أقل القليل، نظرًا لما تعرضت إليه إنتاجهم من حرق وإتلاف متعمدين.
هذا الغياب، أو بالأحرى التجهيل والتغييب القسري لإدماج العقل العربي في مساراته الطبيعية نحو التعلم والاستزادة والاختلاف، وممارسة التعلم والحرية والحياة الطبيعية والتفكير النقدي، هو السبب الأول في أن يكون الإنسان العربي، في غالب الأحوال، فردًا مختلفًا عن الإنسان في العصر الحديث.
فردًا يعاني من فوبيا الحريات والشك والسؤال وكل ما يتعلق بالجديد، فردًا لم يتعرف على نفسه وجسده ورغباته وميوله واختلافاته، فردًا نشأ على الوصاية والقمع والمراقبة والخوف، فردًا استطاع أن يبني جدارًا عاليًا، في منزله، في مسجده، في مدرسته، في مجتمعه، وفي شارعه الذي يسكن حتى لا يذهب وراءه، ويرى المستقبل والعالم المختلف وكيف يعيش الآخرون.
فردًا استطاع إقناع نفسه، وبقوة جهله، استطاع إقناع أنجاله وأحفاده بأنه الأفضل في العالم، بأنه الأقوى، بأنه المؤمن الوحيد الذي تنتظره الجنة ولا أحد سواه، بأنه الوحيد دائمًا الذي على حق وغيره خاطئون مذنبون عصاة زناة.
وعلى الرغم من الجهل والقذارة والانحطاط والتخلف في مجتمعه، إلا أنه سوف يكافأ على عباداته وطقوسه الدينية، على طاعته لرجال الدين وأهل العمائم، على ضربه وتهميشه للمرأة، على اغتصاب عقول أطفاله بتعاليم قسرية ومعتقدات متطرفة وملابس سوداء مخيفة، على افتخاره بأنه قتل مفكرًا أو سجن مثقفًا أو أحرق مثليًا أو فجر نفسه وسط العديد من الأبرياء والضحايا بلا أي شعور بالذنب واللوم.
يغيب عن العقل العربي، حتى اليوم واللحظة، مسار حرية الرأي والتعبير، مسارها وكيف بدأت؟ وإلى ما وصلت؟ ولماذا أصبحت مهمة وجوهرية ومصانة بالقانون؟ لماذا هي مكتوبة بالدماء الحمراء في فصلها الأول؟ لأنها بالحقيقة استقرت في الوجدان قبل العقول بعد ثورات عديدة على الأنظمة المستبدة والسلطة الدينية الرجعية.
يغيب عن العقل العربي، بأن العالم المتقدم اليوم قد خاض الحروب، حروبًا ليست عسكرية بالضرورة، لكنها حروب الكلمة والفلسفة والرأي والنقد، وصارع أفكار الجهل والظلامية ورأس الكنيسة وتجار الدين والدم، قد دفع ثمن العديد من تضحيات الرجال والنساء في سبيل إقامة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الاجتماعية.
يغيب عن العقل العربي الكثير من مسارات التاريخ في الفلسفة والفنون والحب والجنس والتفكير والدهشة من السؤال والبحث والمغامرة. يغيب عن العقل العربي معنى حرية الرأي، لأنه لم يتعلم المسؤولية، ولا يعترف بالقانون والنظام والوقت والساعة، لم يتعلم قيمة احترام الطابور والحضور في الوقت المحدد، لم يتعلم معنى الاختلاف وحرية الآخرين الفردية، لم يمارس الديمقراطية إلا في صورتها الدينية والقبلية والطائفية، لم يرفض أو يتمرد أو يعترض لأنه تعلم الخضوع والضرب والخنوع واعتبرها من كمال الإيمان وحسن الأخلاق وتربية الوالدين الصالحة.
حرق المقدسات الدينية أمرًا عاديًا في العديد من الدول والمجتمعات العلمانية، لكن بالمقابل تلك الشعوب والمجتمعات لا تمارس هذا الفعل، ليس لأنه حرام أو غير شرعي؛ بل لأنهم تركوا المقدسات الدينية في حالها
هنا، كيف يمكن أن نفسر مسألة حرق المقدسات الدينية عند مثل هذا الفرد المتطرف المشحون كراهية وحقدًا وتعصبًا إزاء العالم الذي يتم تصويره دائمًا بالعالم المؤامراتي، العالم الذي يريد أن يلغيه من التاريخ بكبسة زر، العالم الذي يريد أن يسرق عفة نسائه وحريمه وغلمانه، العالم اليهودي والنصراني والمشرك، العالم الذي لن يهدأ له بال حتى يسقط دينه. هنا، وبمثل هذه العقلية المصابة بداء التاريخ، لن تفهم أن حرية الرأي والتعبير يمكن الاعتراض عليها، ويمكن استهجانها، بل ويمكن حتى ملاحقتها قانونيًا، مالم تشكل لدى الدستور والدولة والنظام العام جزءً اصيلاً من الحرية والتعبير.
قد يكون حرق المقدسات الدينية أمرًا عاديًا في العديد من الدول والمجتمعات العلمانية، لكن بالمقابل تلك الشعوب والمجتمعات لا تمارس هذا الفعل، ليس لأنه حرام أو غير شرعي؛ بل لأنهم تركوا المقدسات الدينية في حالها، تركوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر، لأنهم فهموا وتأكدوا بأن المقدسات الدينية، موجودة وستتواجد، وستظل كذلك؛ لماذا؟ لأنها حالة طبيعية تمثل قمة القلق البشري والحيرة المعرفية منذ وجود الإنسان بشكله العاقل في مجموعات بشرية ومجتمعات تنظيمية قانونية، تلك الشعوب، ورغم اعترافها بحق حرق المعتقد، إلا أنها أيضًا لا تخلو ممن ينتقد مثل هذه السلوكيات الطائشة، ويعتبرها وسيلة لاثارة مشاعر الآخرين وتغذية صور العداء والكراهية بين الثقافات المختلفة.
إن أفضل ما هو متواجد في مفهوم حرية الرأي والتعبير، هو اعتبارها وسيلة للاحتجاج والقوة، وسيلة للتقدم والمعرفة، وسيلة لإيصال فكرة ومحتوى ومضمون، وسيلة علينا جميعًا أن نتكيف مع نتائجها، أن نحذر من إثارة الفرقة والكراهية بسببها، أن نرفض وقت الرفض، أن نحتج وقت الاحتجاج، أن نعترض بطرق سلمية وأخلاقية تمثل الوعي الحديث، أن نؤمن بحق الإنسان في حرية الرأي والتعبير، أن نعتقد بأن ما تم تلقيننا إياه حول (مساحة الرأي والتعبير) يجب أن يخضع لمشرط حرية الرأي والتعبير من جديد، أن نثق بأن مفهوم حرية الرأي والتعبير مفهوم حداثي لم نتعلم منه وعنه الكثير، لأننا إلى اليوم نعيش في عصر الظلمات، عصر ما قبل الحريات والدولة والإنسان المتحضر. نحن نعيش عصر الإنسان البدائي والتفكير البدائي ومجتمعات العادات والتقاليد والتراث.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.