يبدو أنّ أحد أوجه الاختلاف بين الغرب والشرق؛ كلاهما ليس منطقة جغرافية في الأساس؛ بل مجموعة من القيم وأنماط التفكير وغير ذلك، هو نحو الغرب إلى المأسسة والتبشير، مقابل التساهل والتجاهل في الفعل لدى الشرق.
وفي قضية “الهوية الجنسية”، وعلى رأسها المثلية الجنسية كمثال، لم يفد هذا السلوك على مجتمع بتأثير آخر؛ فهو سلوك طبيعي موجود في رتبة الثدييات، والتي منها الإنسان، الذي سار تاريخيًا نحو أنماط معيشية وسلوكية غير مقيدة بالغرائز الطبيعية المتشابهة، ما أنتج تنوعًا ثريًا في الثقافة البشرية بمعناها الواسع.
في مثال المثلية الجنسية، حين ننظر إلى الشرق والغرب يتبين أنّ الشرق لم يسع لمأسسة المثلية كممارسة؛ سواء بالعقاب أو الدعم إلا قليلًا في الحالة الأولى، بينما في الغرب اتخذت القضية طابع المأسسة في العقاب أولًا، ثم المأسسة في الدعم بشكل يبدو وكأنّه تكفير عن إحساس بعقدة الذنب، تلك التي لم يشعر بها الشرق تجاه القضية، وكان له مقاربة أخرى تراوحت بين الرحابة والتجاهل والعقاب دون هوس بالمطاردة أو الدعم.
التبشير بالمثلية الجنسية
قبل انعقاد بطولة كأس العالم الأخيرة (قطر 2022)، شنّت وسائل إعلام ونخب غربية هجومًا حادًا على الدولة المستضيفة قطر، بسبب قضايا عديدة؛ منها حقوق العمال الأجانب وقضايا ثقافية مثل “الهوية الجنسية”. تتمحور المشكلة الغربية في مبدأ “التبشير” الذي يتناقض مع مبادئ الحرية التي تمثّل تميز الغرب، وليس مقصودًا بكلمة “الغرب” جميع مواطني الدول الغربية، وكذا الحال في كلمة “الشرق”.
في موضوع المثلية الجنسية في كأس العالم الأخير، حاولت نخب غربية فرض رؤيتها التبشيرية على دولة قطر ومن ورائها مواطنو الدول العربية والإسلامية وغيرهم، في مقاربة تشبه التبشير الغربي بالمسيحية الذي رافق الاستعمار الغربي. في التبشير فرض رجال الدين المسيحيون على مجتمعات كاملة اعتناق الديانة المسيحية، واتخذ أشكالًا عدة منها نزع الأطفال من أسرهم ووضعهم في مدارس دينية، وفي مفارقة متكررة تناقضت القيم الغربية حتى الدينية المسيحية مع سلوك رجال الكنيسة، خاصة فيما يتعلق بسوء معاملة الأطفال.
ويتشابه سلوك الغرب في موضوع المثلية الجنسية مع فعل التبشير، رغم تناقض الدعوتين جذريًا. في الحالتين انطلق الغرب من نظرة دونية للآخر؛ تقوم على تصنيفه على أنّه كائن أقل من نظيره الغربي، ويجب عليه الانصياع لما يطلب منه، لأنّه لا يدرك الأصلح له.
مواقف خليجية
ناقشت “مواطن” القضية مع ثلاثة كتّاب من دول الخليج العربي، وبسؤاله حول وجود دوافع عنصرية كامنة وراء خطاب الغرب عن الحريات في الدول العربية، أجاب الكاتب والروائي العماني، محمد الشحري بأنّه على سبيل المثال موقف المنتخب الألماني، الذي احتج على منع قطر حمل شارات الترويج للمثلية والتنوع الجنسي، وأضاف “يؤسفني خضوع المنتخب الألماني للضغوطات الإعلامية، ويتخلى عن مهمته الرياضية لصالح فئة تفرض ذائقتها على الآخرين. ونحن نعلم أن حرية التعبير في ألمانيا مُقيدة؛ فلا يجوز التشكيك في محرقة الهولوكوست، ولا أداء التحية النازية، مع أن لفظة النازية تعني الوطنية (Nationalsozialismus)، وهو أمر يزعج الأحرار في ألمانيا الذين لا يقبلون بتجزئة المبادئ”.
يرى الروائي الشحري، ضرورة إعادة النظر في المعايير الأخلاقية أولًا، ثم تحديث القوانين بما يتوافق ويناسب الفطرة الإنسانية السليمة. ويقول “ليس من المعقول ولا المقبول تعميم المثلية الجنسية وتفصيلها على المجتمعات والشعوب”، ويصف الحملات الغربية التي رافقت كأس العالم بأنّها “حملات مسعورة من قبل خصوم النجاح والعنصريين المنزعجين من نجاح البطولة”.
لم يسع الشرق لمأسسة المثلية كممارسة؛ سواء بالعقاب أو الدعم إلا قليلًا في الحالة الأولى، بينما في الغرب اتخذت القضية طابع المأسسة في العقاب أولًا، ثم المأسسة في الدعم بشكل يبدو وكأنّه تكفير عن إحساس بعقدة الذنب.
الأكاديمية السعودية المتخصصة في الأدب المقارن والدراسات الثقافية، سماهر الضامن، أجابت بأنّ الملفات المتعلقة بالأقليات عمومًا، ومجتمعات الـ (LGBTQs) خاصة، مازالت ملفات شائكة في العديد من الدول الغربية أصلًا، وأضافت: “مازال المثليون وسواهم من الفئات التي تعد ضمن الأقليات تكافح لنيل الاعتراف والحقوق المدنية في العديد من البلدان في الشرق والغرب”. وأشارت إلى أنّه فيما يخص مجتمعات الـ (LGBTQs) فليس هناك “اتفاق على المسائل الخلافية المتعلقة بهم في أي مكان في العالم، وحتى في الدول التي شرعت العديد من القوانين المنصبة في صالحهم”.
وأفادت الأكاديمية السعودية فيما يتعلق بخطاب قطاع من النخب الغربية حول المثلية وكأس العالم في قطر، بأنّه “لا يخرج عن تقاليد خطاب الاستعمار ووصايته الأخلاقية التي اعتدنا عليها مع الكثير من القضايا؛ حيث سعى الغرب لفرض منظومته الأخلاقية وقيمه، مدعيًا أنها الأنبل والأفضل والأقرب للإنسانية، وأنها القيم التي تصلح أن تكون عالمية”، وشددت على أنّ هذا الخطاب “لم يخل تاريخيًا ولا آنيًا من تدليس الحقائق وتزييف للمعطيات”.
محاولة لتمزيق الثقافة السائدة
من جانبها، ترى الكاتبة والصحفية الكويتية، الجازي السنافي، بأنّ موضوع المثلية لا يزال يثير جدلًا كبيرًا في العالم، ما بين مؤيد ومعارض. وقالت لـ “مواطن”، بأنّه لا يمكن تجاهل هذه الحملات الممنهجة التي تحاول فرض رأيها وبسط نفوذها وتشويه الثقافات الأخرى التي لا تدعم هذه الحملة الغربية الغريبة.
وتابعت: “ربما كان حدث كأس العالم الذي أقيم في قطر أكبر مثال على التدخل الغربي السافر، ومحاولة خلق صورة نمطية (رجعية) حول الثقافة الخليجية أو العربية بشكل عام؛ حيث شُنت حملات شرسة على دولة قطر الشقيقة بسبب تمسكها بثقافتها”.
تنظر الكاتبة الكويتية إلى الموضوع على أنّه أكبر من رد فعل على مجرد منع أعلام وشارات المثليين؛ بل هو “محاولة لتمزيق الثقافة السائدة وتفتيتها من خلال دعم قضية – غير مقبولة – ومحاولة دمجها في المجتمع بصورة طبيعية”.
لدى كثير من المتقبلين لحقوق “الهوية الجنسية” مثل غيرهم ممن لهم مواقف أخرى، شكوك حول دوافع وماهية التمترس الغربي النخبوي وراء الترويج لتلك القضية، خصوصًا أنّها تتعلق بفئة محدودة عددًا من حيث التناول العلمي المحايد، بينما حجم الزخم الموجه للترويج والدعاية لهذه الميول لا يتناسب مع حقوق تلك الفئة التي صارت في موقع التطرف اليوم ضد القيم التي تعبر عن السواد الأعظم من البشر، داخل جميع المجتمعات حتى الغربية.
بناءً على تلك الرؤية، يمكن القول بأنّ المجتمع الغربي يتصف بالتطرف في معارضة ثم دعم الأفكار؛ وعلى سبيل المثال هناك قضايا (معاداة السامية، المثلية، العنصرية على أساس العرق، حقوق المرأة..)، وهذا التطرف لا يمس المجتمعات الأخرى فقط؛ بل قطاعًا واسعًا من المجتمع الغربي، الذي يُدفع إلى رد فعل يتصف بالعنصرية والتطرف هو الآخر، في ظل غياب قدرة على التوافق بين القيم داخل المجتمع الواحد؛ إما الانتصار أو الهزيمة.
للمفارقة حتى المعالجات الغربية القاسية لقضية مثل المثلية بدأت في التسرب إلى مجتمعات المنطقة؛ في حلقة حوارية على قناة “الحرة” حول المثلية في الخليج العربي، طرح أحد الضيوف المعارضين للمثلية فكرة “العلاج” للمثليين والمثليات، وهو نمط لم يُتبع من قبل في المجتمعات العربية من قبل السلطة.
المثلية موجودة.. لكن
أشارت الكاتبة والصحفية الكويتية، الجازي السنافي، إلى أنّ المثليين وغيرهم موجودون منذ القدم، في كل مجتمع؛ سواء متدين أو منغلق أو منفتح. وترى أنّ الأجدر دعم حقوق النساء المضطهدات والعنف تجاه النساء، وقضايا المشردين، وقضايا مهمة مثل زواج القاصرات وتجارة الأطفال والبشر، وحمل المراهقات.
تقول السنافي “هذه القضايا أكثر أهميةً من دعم قضية أشخاص لهم ميول جنسية معينة”، وترى أنّ حملات الدعم الغربية للمثلية تشوه صورة الغرب لا العرب. وأضافت بأنّ هذا الموضوع تسبب في انشقاق وآراء مختلفة داخل تلك المجتمعات التي تدعي الانفتاح، بينما هم “أنفسهم يمارسون أبشع أنواع الاضطهاد والعنف والعنصرية تجاه الأقليات”.
بدورها، قالت الأكاديمية السعودية سماهر الضامن، بأنّ ازدواجية القيم والموازين لدى الغرب ليست بجديدة، وأساسها أن من يصدرون مثل هذا الخطاب لا يراعون الخصوصية الثقافية للمجتمعات التي يهاجمونها ولا يفهمون السياقات السوسيوثقافية التي نمت فيها منظومة الأخلاق والأعراف.
أوضحت الضامن أنّ موضوع التوجه أو الميول الجنسية في الكثير من الدول العربية والإسلامية هو “شأن خاص، لا يليق الإعلان أو الحديث عنه على الملأ حتى بالنسبة لمغايري الجنس”. وترى أنّ الدين الإسلامي هو دين “يحترم الخصوصيات بشكل عام ولا يحبذ التدخل فيها بشكل سافر”. تربط الضامن بين ثنائية العقاب والدعم في المجتمع الغربي، وترى أنّ مسيرات الفخر للمثليين في دول غربية عديدة رد فعل على الاضطهاد الذي كانوا يواجهونه والاحتقار الذي يعانون منه، فضلًا عن التوظيف السياسي لهذه القضايا في الغرب، وأحيانًا في تلميع صورة الدول وملف حقوق الإنسان (كما في حالة إسرائيل التي تقدم نفسها كجنة المثليين).
سؤال الخصوصية الثقافية
تحتاج قضية الخصوصية الثقافية إلى تحريرها من خانة “رد الفعل” على القيم الغربية، وبالمثل تحريرها من خانة الثقافة السائدة في مجتمعات الدول العربية، لأنّها لا تعبر عن خصوصية حقيقية بقدر ما هي أداة تعزز سيادة نمط ثقافي في حقيقته يحمل أنماطًا متخيلة عن المجتمعات، منذ بداية تواجه الحضارتين الغربية والشرقية.
تلك الأنماط المتخيلة تعيق النمو المفترض لمجتمعات المنطقة، التي لم تخلق ثقافة تعبر عنها، وتكون دافعة لتحقيق تطلعات أفرادها، ولأنها عملية شاقة من البحث الأكاديمي الرصين، الذي لا يلقى التشجيع والدعم بل القبول، ينحو الجميع إلى معادلة السائد كثقافة لهذه المجتمعات مقابل الوافد الغربي، ما يخلق صراع الخصوصية الثقافية.
ازدواجية القيم والموازين لدى الغرب ليست بجديدة، وأساسها أن من يصدرون مثل هذا الخطاب لا يراعون الخصوصية الثقافية للمجتمعات التي يهاجمونها ولا يفهمون السياقات السوسيوثقافية التي نمت فيها منظومة الأخلاق والأعراف.
تناقش الأكاديمية السعودية المتخصصة في الأدب المقارن والدراسات الثقافية، تلك الإشكالية، وترى أنّ مشكلة التوتر بين الشرق والغرب قديمة وممتدة تاريخيًا إلى قرون سابقة، ولذا من الصعب التجاوز على هذا التاريخ والتغاضي عن الصور النمطية التي شكلها الطرفان عن الآخر. تقول سماهر الضامن “لكل مجتمع خصوصيته وعاداته وأعرافه ومنظومته الأخلاقية التي لا يمكن في بعض الأحيان شرحها لمن لم ينشأ فيها أو قريبًا منها”. وتؤكد على أنّ هذه القيم “ليست ثابتة وراسخة؛ بل متحولة ومتغيرة”.
ترى الضامن فرصةً في الأزمة الحالية، وتقول من يراجع التراث العربي والشعر في مراحل تاريخية مختلفة، يلاحظ أن هناك تسامحًا في جوانب ما، عاد التسامح معها ممكنًا؛ كالتغزل بالغلمان.
تتابع حديثها، بأنّ هنا المفارقة التي تكمن في علاقتنا بهذا المتن ورسائله من جهة، ورسائل الغرب حول خصوصيتنا الثقافية من جهة. وتقول “لعل هذه الدعوات رغم طابعها الاستفزازي تحفزنا على العودة لتراثنا ومراجعته وفهمه وإعادة استكشافه”.
من جانبها، تقرّ الكاتبة الجازي السنافي، بوجود “بعض الأفكار والأعراف التي يجب تغييرها وتطويرها في المجتمعات الخليجية، وربما الانفتاح بشكل أكبر وأوسع”. لكنّ بحسبها لا يعني ذلك “دعم المثلية والأقليات (الشاذة) ” حسب وصفها.
بالعودة إلى حلقة برنامج “حديث الخليج” على قناة “الحرة”، استضافت مقدمة البرنامج ثلاثة مواطنين خليجيين من مثليّي الجنس؛ رجلين وامرأة. لم ينجح الثلاثة في تقديم قضيتهم بشكل ملائم أمام الجمهور الخليجي، ما يعني أنّهم لم ينتقلوا بعد من مرحلة الظن بـ”امتلاك الحق” إلى إيجاد موطئ قدم في المجتمع لهذا الحقّ؛ حيث لا يكفي في المجتمعات البشرية الامتلاك – دون حكم قيمي – ما لم يكتسب قبولًا يمنحه صفة الوجود.
ليست قضية “الهوية الجنسية” استثناء عن بقية القضايا الأخرى، التي ترتبط بالغرب بشكلها الحالي دون جوهرها، مثل قضايا (الديمقراطية، حقوق المرأة، الحريات والاقتصاد …)، ولئن كانت قضية الديمقراطية رغم عقود الدفع باتجاهها، وبيان مدى نجاعتها كبداية حلٍ لأزمات عديدة، إلا أنّها لم تجد موطئ قدم طالما ظلت بعيدة عن الارتباط بالمجتمع؛ سواء على مستوى التنظير – دون القطيعة مع الفكر الغربي – ومستوى التطبيق النابع من خصوصية كل مجتمع.
وللمفارقة، أدت حملات الغرب تجاه قضية المثلية في كأس العالم إلى دمج معظم المتابعين والمتابعات العرب للقضية مع فكرة “معاداة الغرب لنجاح دولة عربية في تنظيم كأس العالم”، ما جعل التعصب المضاد النابع من الثقافة السائدة يتبنى أنماط فعل – غربية في الأساس – ضد هذه القضية التي تمس في الأساس حيوات مواطنين ومواطنات، ولهم الحق في التعبير وممارسة هويتهم الجنسية؛ سواء أكان دافع الميول طبيعيًا أو رغبة ثقافية طالما لم يؤد الفعل إلى ضرر حقيقي بالآخر، ودون التطرف ضدّ أنماط الجنس المغايرة أو التعدى على حقوقها مثل الأسرة.
وختامًا، يحتاج الغرب إلى فهم أوسع لتعامل السلطات في دول الخليج مع قضية المثلية؛ ففي حين يركز الغرب على العقوبات المنصوص عليها بحق هذه الممارسة في هذه الدول، لا يكلف نفسه عناء البحث حول مدى تطبيق هذه العقوبات، بل إنّ الخطاب الغربي يكاد يكون مسؤولًا عن تحرك سلطات دول خليجية لتطبيق هذه العقوبات، بدلًا عن سلوك التغاضي التي تنتهجها هذه السلطات والمجتمعات طالما ظل التعبير عن قضايا “الهوية الجنسية” غير ملحوظٍ.