أُنتج هذا المقال بالتعاون مع حملة جنسيتي حق لي ولأسرتي
في أيار/مايو 2022، صوّب الكثير من الناخبين/ات أنظارهم في اتجاه ما ستفرزه الانتخابات النيابية من احتمالاتٍ وأفقٍ جديدة، لا سيما للّبنانيات المحرومات من جملةٍ من الحقوق الأساسية، من ضمنها الحق في منح جنسيتهن لأسرهنّ. وقد سُلب منهن هذا الحق منذ ما قبل صدور الدستور اللبناني، بموجب قانون الجنسية الصادر بالقرار رقم 15 عام 1925.
بالكاد اتّضحت تركيبة المجلس المُنتخب حديثاً، حتّى ثبُتَ مرّةً أخرى للنساء أن هذا المجلس لن يكون مختلفاً جدّاً عن البرلمانات السابقة. فعلى الرغم من وصول بعض الوجوه الجديدة والمستقلّة إليه، ومن بينها تلك التي دعمت علناً هذا الحق كالنواب ابراهيم منيمنة وحليمة قعقور ونجاة صليبا، سوى أنّ تمثيل الأحزاب التقليدية فيه ما زال قويّاً، علماً أن معظمها يناوئ هذا الحق أو يساوم عليه تحت شعاراتٍ وطنية ومبرّراتٍ ظاهرها ديموغرافي وباطنها أبوي.
باستثناء عددٍ محدود من النواب المستقلّين ونواب الحزب التقدّمي الاشتراكي ومجموعهم معاً 22 نائباً ونائبة، وبعض النواب الآخرين الموزّعين على كتلٍ أخرى لا تنضوي رسمياً تحت لواء حزبٍ معيّن، ومجموعهم 19، فإنّ معظم النواب الآخرين لم يعلنوا عن موقفٍ صريح أو حازم من حق النساء في منح جنسيتهن خلال حملاتهم الانتخابية أو في الخطابات التي تلت انتخابهم نوّاباً. وإن أعلنوا عن مواقف معيّنة، فغالباً ما كانت تأتي تلك من باب تسجيل تصريح إيجابي أو مبهم يجمّل صورتهم أمام اللبنانيات، أو تحت عنوان المساواة الذي يبقى فضفاضاً حين لا يُرفق بمخطّط واضح؛ أو في أحسن الأحوال، كانت تأتي على شكل دعوة إلى “رفع مكانة المرأة اللبنانية”.
ولكن ماذا تعني هذه “المكانة” بالتحديد؟ وعن أي “مكانة” يتحدّثون؟ وإذا كان المقصود بالـ “المكانة” المنشودة موقعاً أكثر مساواةً وعدالةً وأماناً للنساء، بخاصة المهمّشات منهن، فهذه “المكانة” حتماً لا تشعر بوجودها المحرومات من الحق في إعطاء جنسيتهن اللبنانية لأفراد أسرهنّ، ومن بينهن كلود، ولينا، وأنيسة اللواتي قابلناهن بعد انتخابات 2022.
بالنسبة إلى كلود، 46 عاماً، وهي حاضنة أطفال متزوجة من فلسطيني منذ 27 سنة، لا أمل حقيقي في أن يتغيّر شيء مع المجلس الأخير، حتّى أنها لم تنتخب أحداً من أولئك الذين “وعدوا ولم يوفوا بوعودهم”، كما تقول، ولم تعد أصلاً تثق بأحد.
لكلود ثلاثة أولاد، ابنتان وابن، الصغرى تبلغ 12 عاماً، والبكر 24، والشاب 23. ليس بمقدور كلود أن تهمل مطلبها وتمشي، على رغم دعوة أقاربها لها إلى التخلّي عنه. فكيف لها أن تنساه وآثار غيابه تلاحقها كل يوم، وفي أدقّ التفاصيل؟
ليس آخر تلك التفاصيل آثار حرمان ابنها من السفر للعمل في الخارج وسط الأزمة المعيشية الخانقة التي يرزح تحتها المقيمون/ات في البلاد. ذنبُ ابنها أنه يحمل وثيقة فلسطينية، مع العلم أنه متخرّج حديثاً من الجامعة وتمّ قبول طلب توظيفه منذ بضعة أشهر، فاعتقد حينها أنه أخيراً وجد السبيل للتخفيف من الضغوط الاقتصادية التي تخنق كثيرين/ات، وتخنقه هو ومَن يشاركونه وضعه القانوني بشكلٍ مُضاعف.
للمفارقة، وعلى عكس ما يحصل مع الكثير من النساء المتزوّجات من رجال لبنانيين، فإن كل الممتلكات تقريباً مُسجّلة باسم كلود، ذلك أنها الطرف الوحيد الذي يمتلك الجنسية اللبنانية في الأسرة. كل شيء باسمها، حتّى الخطوط الخلوية التي يبتاعها أولادها من أموال جهودهم – علماً أنهم يعملون من دون التمتّع لا بضمان صحي ولا بتعويض نهاية خدمة- الأمر الذي يشكّل، بالنسبة إلى كلود، ظلماً ومسؤولية كبرى. أن يعمل الأولاد من دون ضمانات، ومع ذلك، تُسجّل كل مشترياتهم باسمها.
بخلاف واقع الامتيازات التي عادةً ما يتغنّى به الرجال اللبنانيون، فإن ابنها الذي يُحرم من فرص العمل في الخارج بسبب أوراقه ولونها الأزرق، يُحرم أيضاً من احتمال الحصول على الجنسية في حال ارتباطه بلبنانية، وتبقى حظوظ شقيقته في امتلاكها أعلى من حظوظه، في حال زواجها من لبناني.
أمّا لينا اللبنانية المتزوجة من فرنسي منذ 22 عاماً، فقد مُنع ابنُها -الطفل- من الدخول إلى مسبح الحمّام العسكري مطلع صيف 2022 لأن إدارة المسبح اعتبرت أنه غير لبناني، علماً أن أمّه لبنانية، وكان من الواضح أنه يجيد التكلّم باللغة العربية، لا بل يشارك في أنشطة الكشاف اللبناني.
يشعر هذا الطفل أنه ينتمي إلى البلاد بشدّة، كالكثير من نظرائه الشبّان الذين عاشوا طيلة حياتهم فيها. تُعلّق لينا على أوضاع ابنَيها قائلةً، “أكثر ما يؤلمني هو الانتماء المزدوج الذي يشعر به أولادي. أن يشعروا أنهم ينتمون إلى هنا وفي الوقت نفسه كل شيء يُشعرهم بأنهم لا ينتمون. لكنهم ينتمون كثيراً إلى هنا، وأحياناً أكثر من غيرهم، إذ يرون أنفسهم في رحلةٍ دائمة لبرهنة هذا الانتماء أمام الجميع واختيار كل ما يمُتُّ إلى لبنان بصلة”.
أمّا لينا اللبنانية المتزوجة من فرنسي منذ 22 عاماً، فقد مُنع ابنُها -الطفل- من الدخول إلى مسبح الحمّام العسكري مطلع صيف 2022 لأن إدارة المسبح اعتبرت أنه غير لبناني، علماً أن أمّه لبنانية، وكان من الواضح أنه يجيد التكلّم باللغة العربية، لا بل يشارك في أنشطة الكشاف اللبناني.
"ترقيعات" سهّلت أوضاع اللبنانيات في ظل غياب قانون يحفظ حقهنّ
عام 2010، أدّى المرسوم الذي تقدّم به المحامي زياد بارود، وزير الداخلية آنذاك، إلى تسهيل حياة الكثير من اللبنانيات المتزوجات من أجانب وعائلاتهن التي كانت تُعامل قبل حزيران 2010 كسائر الأجانب في شؤون الإقامة وتجديدها. فبعد إصدار مجلس الوزراء المرسوم رقم 4186، صار يحق لأولاد اللبنانيات وأزواجهن بما سُمّي بـ”إقامة المجاملة” التي تُجدّد كل 3 سنوات، مجّاناً، ومن دون اشتراط تقديمهم تعهّداً موقّعاً لدى الكاتب العدل بعدم مزاولة أي مهنة في لبنان، كما كانت الحال في الماضي.
سمح هذا المرسوم للكثيرات بتنفّس الصعداء بعد أن طوى صفحة كابوس الترحيل الذي لاحق لعقودٍ خلت أولادَهن وأزواجَهن الذين كان يُشترط من أجل بقائهم في لبنان إمّا أن تكون بحيازتهم سمة سياحية، أو أن يكونوا قاصرين/ات ومسجّلين/ات كطلّاب وطالبات في المدرسة-مع كل ما يرافق هذا التسجيل من عقبات- أو أن يعملوا ضمن عددٍ محدود من المهن تحت وصاية كفيل لبناني-مع كل ما يرافق العمل تحت أحكام الكفالة من انتهاكاتٍ صارت معروفة.
قبل عام 2010، كانت اللبنانيات يتعرّضن لاستفسارات واستقصاءات في البيوت للتأكد من حقيقة زواجهنّ، كما تشهد لينا، الأمر الذي لم يكن يحصل مع المتزوّجات من لبنانيّين مثلاً. وكان على الأمّهات التقدّم بتعهّدات يضمنّ بموجبها أنّ أولادهن -حتى ولو كانوا رضّعاً- لن يعملوا في لبنان. أي أنّهم لن ينافسوا اليد العاملة اللبنانية التي كان أوّل من حاربها ولا يزال عنفُ الدولة ونهبُها المديد لها.
وكأنما هؤلاء لم يخرجوا من أرحام لبنانيات، أو لم يُولدوا ويترعرعوا في البلد ويتحدّثوا لغته ويحفظوا زواريبه على غرار شبّان وشابّات أخريات، صدَف أن ارتبطت أمّهاتهم بلبنانيّين لا أجانب، فكان من حظّهم أن لم يَطلْهم عقابُ النظام الأبوي على خيار أمّهاتهم “الوطني”.
في المقابل، فإن عقبات كثيرة منذ ما قبل العام 2010 لم تُبدّد بعد، وما برحت تلاحق اللبنانيات المتزوجات من أجانب وأولادهن حتى اليوم، منها الصعوبات المرتبطة بالحق في التعلّم والتسجيل في المدراس الرسمية، والحق في العمل في المجالات والمهن التي يختارونها -لا فقط تلك التي لا تتطلب مزاولتها الانتساب إلى نقابة- وحق الاستفادة من الضمانات الصحية والتعويضات (وإن لم يعد لها قيمة فعليّة اليوم بسبب تدهور العملة).
أظهرت السنوات الماضية كم أن الحق في التعليم والحق في العمل -وهما حقّان بديهيان ومحوريّان- بقيا أسيرَي قرارات الوزراء المعنيّين المتعاقبين. ففي أي لحظة، كان يمكن أن يصل وزير تربية جديد ويلغي، من حيث يدري أو لا، تعاميم سلفه التي تستثني أولاد اللبنانيات المتزوّجات من غير لبنانيين من الشروط الخاصة بالأجانب في ما يتعلّق بالتسجيل في المدارس الرسمية. كذلك الحال بالنسبة إلى وزارة العمل التي انطلقت تعاميمها الصديقة للنساء المتزوجات من أجانب مع تولّي الوزير السابق شربل نحاس لها.
لكن سرعان ما كانت أرض الواقع تُفرز ممارساتٍ غير متطابقة مع تلك التعاميم، أو كانت تتوالى قرارات أخرى مع قدوم وزراء جدد تؤدي عمليّاً إلى إبطال ما جاء في التعاميم السابقة من استثناءات للعاملين/ات المولودين/ات من أمهات لبنانيات، لتتحرّك مرّةً أخرى عناصر التفتيش في وجه الأجانب، ومن ضمنهم المولودون/ات من لبنانيات، فتعود الحقوقيات/ين ويكثّفن تحرّكاتهن أمام كل وزارة على حدة من أجل استعادة مكتسبات كنّ انتزعنها من وزارة سابقة، في مسارٍ أقل ما يُقال فيه إنه مرهق ومكلف، ولو أنه كان يؤتي ثماره في معظم الأحيان.
“كنتُ أعرف أن لي الحق في العمل في القطاع الخاص، لكن أصحاب العمل كانوا أحياناً يتردّدون في توظيفي وأحياناً أخرى يستسهلون انتهاك حقوقي فلا يشملوني أو مَن هُم مثلي في أي خطط تأمين مثلاً… وفي المدرسة، كلّما سُئلت عن اسمي كنتُ أتوقع ردود فعل ساخرة، لأن اسمي الكامل المصري طويل جدّاً… وهذه التفرقة أسمّيها حالة اغتراب. كنّا أنا وإخوتي نشعر بها في الأمن العام أيضاً، والمعاملة هناك كانت تختلف بين الأوقات التي نذهب فيها أنا وإخوتي وحدنا، والأوقات التي كانت ترافقنا فيها أمّنا اللبنانية”، يروي لنا ربيع، ابن الخامسة والعشرين المحروم من جنسّية أمّه أنيسة المتزوجة من مواطن مصري.
حملة "جنسيتي حق لي ولأسرتي": إنجازات تتعدّى التشريع
منذ عام 2000 وحملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” التي أطلقتها “مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي” تنشط على أكثر من صعيد في لبنان وعدد من دول المنطقة بهدف تكريس حق النساء في منح جنسيتهن لأسرهن. سنواتٌ من النضال أثمرت قوانين مُعدَّلة في مصر والجزائر والمغرب، بيد أنها عجزت أمام جدار الجمود التشريعي والعقلية الذكورية السائدة في لبنان وسوريا والأردن وغيرها من الدول.
بالنسبة إلى كريمة شبّو، مديرة الحملة ومركزها بيروت، فإن النّكسات لا تعني أن اليأس موضوع على الطاولة، لأن الحملة “أحرزت تقدّماً كبيراً في مجال تحويل المطلب إلى قضية رأي عام واجتهدت على خطوط موازية لخط العمل التشريعي، وذلك بغية إيجاد حلول عملية تسهّل الإجراءات الرسمية على النساء وأسرهن”، علماً أن الحل الجذري لهذه الإشكالية يبقى بأيدي النواب وحدهم.
مع ذلك، لا يتوانى الكثير من هؤلاء النواب عن إلقاء اللوم على الآخر الذي يحول، برأيهم، دون إقرار هذا الحق، أكان اللاجئ، أو النازح، أو السوري المسلم، أو الفلسطيني المسلم -والمسلم السنّي بالتحديد- في الحالة اللبنانية. كما أنهم لا يرون عيباً في الإبقاء على قانونٍ يناهز عمره القرن، ويُمعن حتى الساعة في إجبار النساء وأولادهن وأزواجهن والمدافعات عن حقوقهن على بذل جهود جمّة من أجل التخفيف من الأضرار المترتّبة عليه، والتنقل من وزارة إلى أخرى وإدارة إلى أخرى لإنتاج حلولٍ موقّتة، والانتفاض على مراسيم تجنيس جائرة تصدرها الرئاسة اللبنانية كهدية لأصحاب رؤوس المال والنافذين، عاماً تلو العام.
مراسيم التجنيس
“أكثر ما يُغلي دمي هو مراسيم التجنيس التي يصدرها رئيس الجمهورية بين الفينة والأخرى. حالما سيصدر مرسوم جديد من هذا النوع، سوف أصرخ وأظل أصرخ ولن أسكت إذا لم يشتمل على أفراد عائلتي… لي ملفّ في صندوق بريد الرئاسة أنا والكثير من اللبنانيات المتزوجات من أجانب، وحتى الآن لا أحد يعير مطلبنا أي اهتمام”، تخبرنا كلود بحسرة، هي التي عاشت وزوجها في لبنان منذ نعومة أظافرهما.
أمّا لينا فتسأل، “لمَ علي دفع مبالغ طائلة لأضيف اسمي إلى لوائح طلبات التجنيس؟ هذا حقي، ولدي أمل كبير بأن أحصل عليه، ولو بعد حين”. وتردف، “زوجي (الفرنسي) مقيم معنا منذ 25 عاماً، هنا في لبنان، ألا تحق له الجنسية أيضاً؟”
6 محطّات قانونية بارزة خلال العقد الماضي
في جردةٍ سريعة على مشاريع قوانين العقد الماضي، يتبيّن لنا كيف فُرض النقاش حول حق النساء في منح جنسيتهن لأفراد عائلتهن على الأجندة السياسية، وإن لم يؤدِّ فرضه هذا إلى نتائج تشريعية ملموسة بعد. ويعود الفضل في ذلك إلى المناضلات المعنيات بشكل مباشر أو غير مباشر بهذا الحق والقيّمات على حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” اللواتي ازداد نضالهن عزماً وإصراراً خلال سنوات العقد الماضي.
2012-2013
عام 2012، اتّجهت الحملة نحو مجلس الوزراء الذي كان يرأسه رئيس حكومة لبنان الحالي، نجيب ميقاتي، في محاولةٍ لإسراع مسار “مشروع قانون تعديل أحكام القوانين المتعلّقة بمنح الجنسية اللبنانية” الذي صاغته الحملة، ليُعدّ بموجبه لبنانياً أو لبنانيةً، “كل شخص مولود من أب لبناني أو أم لبنانية، وكل شخص مولود في أراضي لبنان ولم يثبت أنه اكتسب بالبنوة عند الولادة تابعية أجنبية، وكل شخص يولد في أراضي لبنان من والدَين مجهولين أو والدَين مجهولي التابعية”.
في ذلك الوقت، تشكّلت لجنة برئاسة الوزير سمير مقبل وعضوية الوزراء وائل أبو فاعور، ومروان شربل، وعدنان منصور، وسمير جريصاتي، وشكيب قرطباوي، اضطرّتها الحملة إلى الانعقاد بعدما مارست ضغوطاً مباشرة وجريئة على نائب رئيس الحكومة آنذاك، أي رئيس اللجنة الوزير سمير مقبل، وأمام شركته الخاصة لا مقر المجلس النيابي، من أجل دفعه إلى تحديد مواعيد الاجتماع الذي كان تقاعس لأشهر عن تحديدها. وبالفعل، بدأت اللجنة، إثر تحرّكات الحملة، مناقشاتها حول مشروع القانون، وبدت الأجواء إيجابية خلال الأسابيع الأولى من الاجتماعات، بحسب شبّو. لكن في لبنان، على حد قولها، “بتنامي على شي وبتفيقي على شي تاني”، إذ صدرت النتيجة عام 2013 بأن رُفض المقترح رفضاً تاماً، لا بل سُرّب القرار قبل الإعلان عنه رسميّاً، وتبيّن أنه قرار جائر ومذلّ للنساء، لم يطّلع عليه أصلاً جميع أعضاء اللجنة، ومن بينهم الوزير السابق وائل أبو فاعور الذي اعترض علناً على الغشّ الذي حصل. وكانت حجّة الرفض آنذاك أن مشروعاً كهذا “لا يُعد مُلزماً إذا تسبّب في تشكيل خطر على المصالح الوطنية العليا”.
منذ عام 2000 وحملة "جنسيتي حق لي ولأسرتي تنشط على أكثر من صعيد في لبنان وعدد من دول المنطقة بهدف تكريس حق النساء في منح جنسيتهن لأسرهن. سنواتٌ من النضال أثمرت قوانين مُعدَّلة في مصر والجزائر والمغرب، بيد أنها عجزت أمام جدار الجمود التشريعي والعقلية الذكورية السائدة في لبنان وسوريا والأردن وغيرها من الدول.
خلال تلك المرحلة، تحفّظت حركة أمل وحزب الله عن المشروع وحُلّلت هذه الخطوة على أنها “مسايرة” لحليف الحزب آنذاك، أي التيار الوطني الحر، الذي يمثّل الخصم الأساسي لهذا الحق، هو وعددٌ كبير من النواب المسيحيين. لكن تبيّن فيما بعد أن حزب الله نفسه يعارض حق النساء بإعطاء جنسيتهن لأسرهن، وبشدّة، لا من باب “مسايرة الحليف”، إنما خوفاً من تجنيس أعدادٍ كبيرة من المسلمين السنّة، لا سيما بعدما استقرّ خلال عامي 2012 و2013 مئاتُ الآلاف من اللاجئين/ات السوريين/ات في لبنان. وقد تكون حركة أمل هي التي تساير حليفها حزب الله، أكثر من كونها تناوئ هذا الحق لوجه المناوءة. والأمر استُشفّ من كلام عددٍ من أعضائها خلال اجتماعات عُقدت بينهم وبين قيّمات على الحملة، صرّحوا خلالها أنهم، شخصياً، داعمون لهذا الحق.
2018
عام 2018، وُضع على الطاولة مشروعان لا يشبهان بعضهما بشيء: مشروع رئيس التيار الوطني الحر ووزير الخارجية آنذاك، جبران باسيل، قابله مشروع النائب هادي أبو الحسن، أمين سر اللقاء الديمقراطي (الحزب التقدمي الاشتراكي).
تبنّى أبو الحسن ونواب اللقاء الديمقراطي توجّه حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي”، لناحية أنهم لم يساوموا على الحق ولم يثقلوه بالاستثناءات والثغرات، لا بل ذهبوا أبعد من عنوان الجنسية لأفراد أسر اللبنانيات ليعالجوا أيضاً أوضاع مكتومي القيد ويمنحوا الجنسية لمستحقيها. حتّى الآن، لم يُناقش مقترح أبو الحسن، ولا مشروع باسيل الذي فضحت حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” وعدد من الحقوقيّين/ات طابعه العنصري، إذ نصّ على أن يُمنع الرجال أيضاً من منح الجنسية إذا كانت زوجاتهم “من دول الجوار”، أو من مجتمعات اللجوء والنزوح، تحقيقاً للمساواة بين النساء والرجال. فنقل المقترح التمييز من تمييزٍ بين الرجال والنساء إلى تمييزٍ بين فئتين: الرجال والنساء الذين يرتبطون بشخص من خارج “دول الجوار”، والرجال والنساء الذين يرتبطون بشخص من “دول الجوار”، وعلى رأس تلك البلدان، سوريا وفلسطين، وبالتالي، قد لا يحصل أولاد هؤلاء على أي جنسية، ذلك أنه لا يُسمح لنساء فلسطين وسوريا مثلاً منح جنسيتهن لأطفالهن.
2019
شهد عام 2019، قببل تظاهرات 17 تشرين الأول/أكتوبر، زحمة مشاريع أثبتت نضج الحملة وقدرتها التفاوضية والسياسية، منها ما عكس طموح الحملة وسقفها، ومنها ما عاكسها عبر استمراره في تكريس الاستثناءات المؤلمة. من المشاريع الجيدة، المقترح الذي تقدّمت به النائبة السابقة عن كتلة المستقبل، رولا الطبش، والذي كان مطابقاً لمشروع الحملة، وتبنّته حد جلبه معها إلى معظم اجتماعاتها وخطاباتها، بحسب متابعين/ات للقضية.
ومن المشاريع المخيّبة، مقترح رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة وابنة رئيس الجمهورية السابق، كلودين عون، الذي كرّس أنواعاً أخرى من الاستثناءات والتمييز، كالتمييز بين الأولاد الراشدين (الذين لن يحق لهم بالجنسية) والأولاد القاصرين (الذين سيحق لهم بها)، وكانت تقدّمت به أمام رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، إلا أنه لم يُناقش ولم تتم إحالته للدراسة.
ربيع، وهو ابن أنيسة المتزوجة من رجل مصري منذ 30 عاماً، يصف مشروع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة بـ”المُبكي”، لأنه “يخلق تمييزاً أكبر في كنف العائلة الواحدة، ولأنه لا يعترف بالمفعول الرجعي كما هو متوقّع من القوانين العصرية، لا بل يكرّس على المدى البعيد تمييزاً بين لبناني/ة وآخر، الأمر الذي يمكن الطعن به”.
أما النائبة عن كتلة أمل، عناية عز الدين، فسعت من خلال مقترحها عام 2019، إلى معالجة أوضاع أفراد عائلات اللبنانيات المتزوجات من أجانب عبر تعزيز حقوقهم المدنية، من دون الاقتراب قيد أنملة من تكريس حق أسر اللبنانيات في اكتساب الجنسية الذي يشكّل، بحسب عز الدين، موضع جدل وخلاف وبالتالي عائق أمام تحسين أوضاع هؤلاء نظراً إلى موازين البلاد المعقّدة. وإن كانت هي نفسها تقول إنها مؤمنة بهذا الحق، غير أنها لا تتجاوز توجّهات حزبها وتظل تعترف بمخاوف الآخرين من هكذا خطوة.
وعلى المشاريع المُساومة كمشروع عزّ الدين، تعلّق كلود، “لستُ مع المقترحات الناقصة التي يظن بعضهم أنها ستسهّل حياتنا. فتلك المشاريع هي بمثابة إبرة بنج هدفُها تسكيتنا ودفعنا إلى أن نرضى بالقليل وننسى حقّنا”.
أخيراً، يحيلنا مقترح عز الدين إلى ما نادى به عام 2010 النائب السابق المنتمي إلى التيار الوطني الحر، نعمة الله أبي نصر، الذي كان روّج لإعطاء “البطاقة الخضراء” لأولاد اللبنانيات المتزوجات من أجانب، وحذّر من ترسيخ حق النساء في إعطاء الجنسية لكيلا “تُستَغل نساء لبنان” و”تتغير تركيبته الديموغرافية”. تلك التركيبة التي باتت ترنيمةً طائفية وعنصرية بالية لكثرة ما ذُكرت في كل مرّة نوقش فيها هذا الحق.
متاهات لم تُفضِ إلى حل
بين مشروع النائب السابق نعمة الله أبي نصر عام 2010، ورفض اللجنة الوزارية لمقترح حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” عام 2013، ومشروع باسيل ، ومشروع النائب هادي أبو الحسن غير المساوم على الحق عام 2018، ومقترح النائبة السابقة رولا الطبش الذي كان أميناً لأهداف الحملة، ثم مقترحَي الهيئة الوطنية لشؤون المرأة والنائبة عناية عز الدين الناقصَين عام 2019، رُميت اللبنانيات وعائلاتهن في متاهات قانونية منها ما بعث الأمل في قلوبهن، ومنها ما طمره.
اليوم، تتمنى اللبنانيات لو تكون المنافسة بين مُقترحَين جيّدين (الطبش وأبو الحسن مثلاً)، لا بين المقترحات الناقصة (عون وعزّ الدين)، التي تجتزئ الحق بداعي الدفاع عن توازنات لا تُحفظ سوى على حساب النساء، وتوزانات لم تردع يوماً ادّعاءاتُ السياسيّين الحفاظ عليها أيَّ انهيار، لا بل يمكن القول إنها ساهمت في إنتاجه عن طريق ترسيخ المحاصصات الطائفية الفاسدة والقاتلة.
في الخلاصة، إذا ما نظرنا إلى خارطة المجلس النيابي الذي انتُخب في أيار/مايو 2022، قد لا نرى تغييراً كبيراً في نسبة الداعمين/ات لهذا الحق، إنما بالحد الأدنى يُتوقّع من النواب أن يرفعوا أصواتهم نصرةً له، وأن تبرز مبادرات أكثر إلحاحاً لفرضه على الأجندة السياسية من جديد، لئلّا يُرمى في طواحين التناسي والإهمال، ومعه آلاف الأسر المُعاقبَة، فقط لأن نساءها خرقن أمْراً أبوياً-وطنياً عبر اختيارهنّ شريكاً من خارج الحدود التي، للمناسبة، لم تُرسم نهائياً بعد.