يصف الصحفي الأمريكي «ماكينزي فانك» (McKenzie Funk) أثر اللامساواة في تحمل وطأة الفوضى الصناعية مع المماطلة في حل قضية الدَين المناخي كأحد تبعات الرأسمالية المستغلة، ضمن صفحات كتابه «مكاسب مفاجئة: الأعمال المزدهرة للاحتباس الحراري» الصادر عام 2014، قائلًا:
«إذا كنت واقفًا على أرض مرتفعة، ثريًا بما يكفي، وشماليًا بما يكفي، وبعيدًا فوق مستوى البحر بما يكفي؛ فإن الاحتباس الحراري العالمي لن يمثل تهديدًا وجوديًا لك، كما هو الحال بالنسبة إلى مصري أو أحد سكان جمهورية مارشال أو جزيرة ستاتين».
فالشاهد في الأمر، أنه طالما ظل يسمح لأولئك الرأسماليين المُلوِثين للبيئة، مِمَّن يرون في تدمير المناخ فرصة استثمارية لتكديس الثروات، بالاستمرار في مسعاهم التخريبي دون وجود رادع حقيقي، سيحصد الفقراء والمهمشون حول العالم آثار الكارثة المناخية بدرجة أكبر من غيرهم بشكل غير متكافئ، على الرغم من كونهم الأقل مساهمة في حدوثها؛ إذ تؤثر الانبعاثات الكربونية الصادرة عن دولة واحدة على جميع دول العالم، من خلال إضافة المزيد إلى مخزون غازات الغلاف الجوي المسببة للأزمة الاحتباس الحراري؛ فقد كشف تقرير (Carbon Majors)، الصادر عام 2017، أنّ 100 شركة فقط كانت مسؤولة عن 71% من انبعاثات الغازات الدفيئة الصناعية العالمية منذ عام 1988، على نحو ملزم بإعادة التفكير في مآلات النظام البيئي في ظل مستقبل بيئي ينذر بالأسوأ.
وبلغة الأرقام؛ فمن المتوقع أن يفقد الاقتصاد العالمي 10% من إجمالي قيمته بحلول عام 2050، بحسب تقديرات معهد (Swiss Re)، حال لم يلتزم الرأسماليون المُلوِثون بالأهداف المنصوص عليها في اتفاقية باريس للمناخ 2015، التي تقضي بضرورة إبقاء الزيادة في درجة الحرارة العالمية عند أقل من درجتين مئويتين، واستمرت ممارسات الفوضى الصناعية في زيادة معدلات الانبعاثات الكربونية وتآكل الموارد الطبيعية.
قضية الدَين المناخي وخراب الفوضى الصناعية
تكمن المفاجأة في تَحوَّل المحادثات حول قضية الدَين المناخي ومحاولات نزع الكربون عن الطاقة المستخدمة في تدوير عجلة الاقتصاد العالمي إلى ساحات حَرب ضَرُوس، بعدما ظهر للجميع خلال الآوِنةِ الأخيرة أنّ الأزمة المناخية ما هي إلا قضية سطوة اقتصادية، عقب اقتحام أساليب المناورة والخداع طاولة المناقشات، نتيجة إحجام العديد من الحكومات عن التعهد بالتوقف التام عن مساندة الرأسماليين المُلوِثين في أفعال الفوضى الصناعية الضارة بمحدودية وندرة الموارد الطبيعية.
وعوضًا عن ذلك، كرروا تعهداتهم بالعمل على خفض استخدام الطاقة غير النظيفة، والتخلص من إعانات دعم الوقود الأحفوري الرخيص (النفط والغاز الطبيعي والفحم)؛ سواءً بإنهاء الإعفاءات الضريبية في الدول المتقدمة، أو دعم أسعار الوقود للمستخدم الصناعي في الدول منخفضة الدخل؛ مما يترك مجالًا واسعًا لتلاعب أولئك الذين لا يملكون الحافز الحقيقي لحماية الكوكب؛ فالجميع على دراية بكافة المشاكل المناخية، ويريدون الوصول إلى حلول جذرية لها.
بَيْدّ أنّ الحلول لم تأتِ فيما مضى، ولا دلائل على أنّها قد تأتي مستقبلًا، بعدما خطط لمنعها بإحكام؛ نتيجة وقوف الطاقة غير النظيفة وراء تصاعد معدلات النمو الاقتصادي العالمي؛ حيث بلغ دعم الوقود الأحفوري على الصعيد العالمي من قبل حكومات العالم حوالي 5.9 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي، أو 6.8% في عام 2020، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 7.4% في عام 2025، مع استمرار ارتفاع حصة استهلاك الوقود في الأسواق الناشئة، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي.
ومن ثم لا يريد الرأسماليون المُلوِثون من أصحاب المصالح والنفوذ، التخلي عن مصادر الطاقة غير النظيفة، وقطع مكاسبهم الضخمة منها، وبالتالي يسعون بكافة السُبل إلى إبعاد النقاشات حول تحديد المسؤولية التاريخية عن تفشي آثار الفوضى الصناعية التي يمكن أن تتسبب في انهيار بيئي، يقضي على سُبل الحياة التي نعهدها بطريقة هوليودية، وذلك على نحو دفع معه الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» (António Guterres) للتحذير خلال مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ (COP-27)، من أن كوكب الأرض في طريقه إلى الجحيم، فقال:
«إنّ الساعة تدق.. نحن نصارع من أجل حياتنا».
من هنا تأتي أهمية طرح المناقشات الجادة حول قضية الدَين المناخي وتمويل الخسائر والأضرار للدول الأكثر عرضة للتغيّرات المناخية دون أي ذنب اقترفته، والعمل على كبح جماح النظام الاقتصادي العالمي.
استدامة الموارد الطبيعية
واقع الأمر، إن أزمة تغيّر المناخ هي قضية منهجية الأسس الداعمة للنظام الاقتصادي العالمي؛ كون أنّ النظام الرأسمالي الذي يسود العالم حاليًا، ولد معيبًا منذ يومه الأول، فهو نظام اقتصادي ذو بعد واحد ينظر إلى الربح على نطاق الاقتصاد الجزئي (Microeconomics)، والناتج القومي الإجمالي على نطاق الاقتصاد الكلي (Macroeconomics)، ويقوم على الاستغلال والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وأيديولوجية السوق الحر واليد الخفيّة التي تحرك الاقتصاد وتشجع النزعة الاستهلاكية، بما يعمل على زيادة الإنتاج لمقابلة الاستهلاك بطريقة تفاقم المشاكل البيئية.
بالإضافة إلى أن النظام الرأسمالي، يركز على تحليل أرقام النماذج الرياضية فقط، مستبعدًا آثار القضايا الملحة في الحياة الواقعية والبيانات الإحصائية ذات الصلة بها، لا سيما في المجالات المتعلقة بتنمية رأس المال الطبيعي؛ مثل قضايا: (تكلفة التدهور البيئي، وجودة الحياة وتحسينها، ومحدودية الموارد الطبيعية، وعدم المساواة في الخسائر والأضرار، والآثار الاجتماعية)، على اعتبار أنها عوامل خارجية، لا علاقة لها بنمط الإنتاج الرأسمالي المهتم حصرًا بتقفي معدلات النمو الاقتصادي، سواء في ميزانيات الشركات أو حسابات الدخل القومي للدول.
مِمَّا حدا الكثير من الأصوات الغاضبة إلى زيادة المطالبات بإعادة هيكلة النظام الرأسمالي العالمي، الذي خذلنا بالفعل في نواحٍ كثيرة، من بينها تصور أن الموارد الطبيعية المحدودة وغير المتجددة بطبيعتها عنصر من عناصر (الدخل)، وأن استخدامها ليس له (تكلفة)، بينما هي في حقيقتها تُعدَّ (رأس مال متناقص)، وذلك حسبما يحاجج الخبير الاقتصادي الألماني «إيرنست فريتز شوماخر» (Ernst Friedrich Schumacher) في كتابه «صغير جميل: الاقتصاد كما لو كان الناس مهمين»، ومن ثم لا يمكن لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي أن تستمر في الارتفاع بطريقة مطردة إلى الأبد، دون الحفاظ على استدامة الموارد الطبيعية النادرة والمحدودة، وبالتالي قد ينتهي الحال أمام خياريين؛ إمّا تقويض الرأسمالية أو تقويض الحياة.
لذلك، نظمت مجموعة من طلاب الاقتصاد في جامعة السوربون بباريس وقفة احتجاجية في عام 2000، رفعت خلالها لافتات غاضبة دوّن عليها عبارة: «نريد الهرب من العوالم الخيالية»، في إشارة ضمنية إلى أن النماذج الاقتصادية (Economic Models) التي يدرسونها، والنابعة من الرأسمالية المستغلة كنظام اقتصادي يسود العالم، فشلت في الوفاء بوعودها بتقديم حلول واقعية وحكيمة لثلة من المشاكل الاقتصادية، على رأسها: قضية الدَين المناخي ومشكلة الندرة النسبية للموارد الطبيعية، في مقابل تعدد وتجدد الاحتياجات البشريَّة منها، مع عدم أخذ أثر الفوضى الصناعية على مدى استدامة تلك الموارد بعين الاعتبار عند قياس معدلات النمو الاقتصادي وفقًا لنموذج قياس الناتج القومي الإجمالي (Gross Domestic Product. GDP).
تقويض الرأسمالية المستغلة
اليوم، بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على وقفة طلاب جامعة باريس، لا يبدو أن النظام الاقتصادي في ثوبه الرأسمالي يتصرف كما لو كانت سلامة الكوكب وموارده المحدودة أمرًا هامًا يجب وضعه كأولوية تنفيذية حتى في ظل الركود العالمي القادم؛ حيث يعاني الكوكب في الوقت الحاضر من تبعات أزمتين رئيسيتين، هما: (الأزمة الاقتصادية والأزمة المناخية)، وكلاهما مرتبط بالآخر بشكلِِ ما، بفعل الروابط القائمة بين الرأسمالية الصناعية والمشاكل البيئية.
فقد نجح النظام الرأسمالي في ابتكار أساليب أكثر تطرفًا وإضرارًا بالبيئة والمناخ بطريقة غير مسبوقة منذ اندلاع الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وذلك في إطار سعيها الأعمى إلى مراكمة الثروات، على النحو الذي دفع معه العديد من النشطاء البيئيين إلى الخروج في سبتمبر 2019 للمشاركة في احتجاجات «أيام الجمعة للمستقبل» المناخية، والمطالبة بإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي.
يسعى «اقتصاد البيئة» إلى إخضاع قياس معدلات النمو الاقتصادي لعدة مخاوف إنسانية وبيئية واجتماعية أكثر اتساعًا من حصرها في أرقام وبيانات
فأي شخص حاول التصدي لفهم المسألة المناخية بشكل موضوعي ومنطقي، سيدرك من الوهلة الأولى أن تطوير كافة الأنشطة الاقتصادية يأتي في سياق استخدام البشريَّة للموارد الطبيعية، وبالتالي لا يمكن لمعدلات النمو الاقتصادي الاستمرار في الارتفاع بمعدلات متلاحقة إلى الأبد، دون الحفاظ على استدامة تلك الموارد النادرة والمحدودة بطبيعتها.
وفي هذا السياق، تثير الكاتبة والناشطة الكندية «ناعومي كلاين» (Naomi Klein)، التي تشتهر بكتاباتها المناهضة للرأسمالية، قضية حساسة في كتابها «هذا كل شيء: الرأسمالية في مواجهة المناخ»، الصادر عام 2014، مفادها أن أزمة تغيّر المناخ العالمي ليست إلا أحد أعراض المشكلة الكبرى التي نعاني منها، والمُتجسدة في فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومن ثم يجب التحول التدريجي نحو نظام اقتصاد آخر يقوض الرأسمالية.
فترى كلاين أن تبعات أزمة تغيّر المناخ من انتشار حرائق الغابات والعواصف والفيضانات والاحتباس الحراري وهطول الأمطار الحمضية ونقص الغذاء، ما هي إلا رسالة قوية وجرس تنبيه مدوي، لبدء المساعي الجادة لإنقاذ العالم من آثار الفوضى الصناعية المدمرة، قبل أن يتغير العالم إلى شكل لم نعهده من قبل، فتسعى إلى تأليب الرأسمالية المستغلة على المناخ، والدعوة إلى اتباع نظام اقتصادي جديد، قادر على تحويل تركيزه من تعظيم الأرباح قصيرة المدى، إلى أيديولوجية واعية بيئيًا ومستدامة، والتخلي عن أيديولوجية السوق الحر كدعامة رئيسية للنظام الرأسمالي في عصرنا.
نحو اقتصاد خالٍ من الكربون
لحسن الحظ، أفرزت التغيرات المناخية المتلاحقة ظهور «اقتصاد البيئة» (Environmental Economics) كفرع حديث من فروع العلوم الاقتصادية، يهتم بقضايا تتعلق بمساوئ الاستخدام البشري للموارد الطبيعية، عبر قياس ما يعرف بـ«البصمة البيئية» (Environmental Footprint) الخاصة بحساب مدى تأثير هذا الاستخدام على البيئة والمناخ وضمه إلى حسابات الاقتصاد.
إذ يسعى «اقتصاد البيئة» إلى إخضاع قياس معدلات النمو الاقتصادي لعدة مخاوف إنسانية وبيئية واجتماعية أكثر اتساعًا من حصرها في أرقام وبيانات ضخمة صماء، يتخفى وراءها الوقود الأحفوري الرخيص، عبر دمج متطلبات الاستدامة في النماذج الرأسمالية التقليدية، والتحرك نحو تبني اقتصاد خالٍ من الكربون يحافظ على الموارد الطبيعية، والتأكيد على فكرة أن الشركات يجب أن تتحمل المسؤولية عن آثارها البيئية، على النحو الذي يطلق العنان إلى ما يعرف أيضًا بـ«رأسمالية المناخ» (Climate Capitalism) أي تعزيز الاستثمار في النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام وتوفير التمويل اللازم له.
بَيْدَ أنّ «رأسمالية المناخ» مازال ينظر إليها كفرع اقتصادي في طور النظرية، ولم ينتقل إلى حيز التنفيذ على الوجه الأكمل، ويتعرض لعدة انتقادات لفتحه مجالًا لظهور عمليات خداع «الغسل الأخضر» (Greenwashing)، والتي يمكن من خلالها للرأسماليين المُلوِثين أنّ يقنعوا الجميع بأنهم تحولوا إلى ممارسات أكثر استدامة واخضرار من أجل إبعاد الضغط المجتمعي عنهم، لمجرد أنهم يعيدون التدوير ويطلقون الحملات الإعلانية والمبادرات المجتمعية الداعية لتلميع صورتهم أمام المجتمع، بينما ممارساتهم المدمرة للبيئة تعمل في الخفاء.
في النهاية، إذا أراد صناع القرار الوصول إلى هدف صافي انبعاثات صفريَّة، عليهم أولًا أنّ يسرعوا الخطى نحو تبني آليات اقتصادية تحقق أيديولوجية أكثر استدامة واخضرارًا، مع العمل الجاد على كبح جماح الرأسماليين المُلوِثين وأساليبهم المخادعة للتملص من قضية الدَين المناخي ومسؤوليتهم عن الخسائر والأضرار البيئية، كيلا يصل الكوكب إلى نقطة اللا عودة، وندفع جميعًا فاتورة الفوضى الصناعية.