في حلقة أذاعتها قناة الحرة مؤخرًا أجرى الصحفي والإعلامي إبراهيم عيسى حوارًا مع يوسف زيدان، لم يشغلني طرح الروائي الشهير في اللقاء، بقدر ما توقفت عند صفة قدمه بها “عيسى” “المفكر الكبير”، صفة يحرص زيدان على تأكيدها بلقاءاته، يشجعه حضوره الطاغي في حياتنا الثقافية كنموذج لمثقف أمست له السيطرة على هذا المجال بمجتمعنا.
لأحاكم هذا النموذج؛ فواضح أني لا أتفق مع عيسى؛ من المفترض أن أتوجه إلى صيغة سؤال تفيد: من المثقف؟ أطابق بعدها دورًا يلعبه زيدان بدور المثقف مثلما أتصوره، مستعينًا بأطروحات قدمها كتاب ومفكرون كثر، عرب وغربيون، تلمسوا بها إجابةً عن هذا السؤال، لكني سأستبدله بسؤال آخر: لماذا المثقف؟
سؤال كهذا يحمل نفيًا لـ”المثقف” رغم حضوره، فهو غائب وإن حضر، أو أن حضوره وغيابه يتساويان، والسؤال تعبير كذلك عن طبيعة الرغبة في وجود مثل هذا “المثقف”.
يجعل هذا السؤال من “المثقف” -خلافا للعادة- موضوعًا، ليتقدم المتلقي أو القارئ بذلك على “المثقف”؛ فحضوره رهينة لرغبة الأول، (وإن كان هذا لا يمنع أن يكون حضور المرغوب به سببًا للرغبة) في نزوع من الذات إلى ما ينقصها، وتولد هذه الصيغة سؤالا ثانيًا: هل الموضوع المرغوب به “المثقف”، مثلما عليه حاله “زيدان”، هو ما تستهدفه الذات فعلا؟
أن ترغب يعني أن تشعر بالحرمان، ليتولد الشعور بالرغبة، أو الشعور بالنقص، فنزوع الذات إلى ما ينقصها “الموضوع”، نزوع غرضه سد النقص أو تحقيق الاكتمال، وهنا يعترضنا سؤال آخر: ما النقص الذي يسده المثقف؟
في ثقافتنا العربية الإسلامية يمكن للراصد أن يقع على بداية ظهور المثقف، أو بالأحرى نضج صورته متمثلاً في “الفقيه المرشد”، الذي يرشد الناس ويهديهم إلى الصراط المستقيم، هيئة روج لها النص القرآني في قصة موسى والخضر، حيث كُلف الخضر بإرشاد موسى إلى “ما لم يحط به خُبرًا”، وحتى يقوم الخضر بذلك عقد صفقة أو مقايضة مع موسى؛ فعلى النبي ألا يعصي للعبد الصالح أمرًا إن رغب حقًا في أن ينال علمه، لنعلم من الحكاية أن الطاعة المطلوبة مقابل العلم تبلغ حد التسليم باللامعقول، لتكون المعادلة سلطة مطلقة يمارسها الخضر مقابل علم أو معرفة من المفترض أن يُحصلها موسى.
حملت الحكاية بذلك رهانين لا رهانًا واحدًا (كما لاح في الظاهر)؛ فهناك رهان الخضر أن موسى لن يستطيع صبرًا على اللامعقول (وإن بدا الرهان أنه تحريض من الخضر على التزام موسى بالطاعة المطلقة)، ثم هناك رهان موسى على تحصيله لعلم يفترض وجوده لدى الخضر، ويؤكد شرط الخضر على معنى أن علمه يقيني، أي أنه يعلم أنه يعلم، وربما لا حاجة بي إلى استدعاء مقولة سقراط النقيضة؛ فهي حاضرة بفعل المقابلة، ليزعم الفيلسوف اليوناني بناء عليها أن غرضه الرئيسي إثارة التفكير، بينما لم يستهدف الخضر أبعد من الاتباع والانقياد.
الفارق بين هذه الصورة الأولية للمثقف -في ثقافتنا- وبين ما بلغه من نضج مع الفقيه، أن الأخير حتى يفوز بتلك السلطة كان لابد أن يتلقى علومًا ويلم بمعارف تؤهله للعب هذا الدور حتى يصبح موضوعًا للرغبة، وإن لم يطل هذا تغييرًا في شرط الخضر؛ إذ انحصرت مهمة المثقف في الهداية، لا يطمح إلى إثارة التفكير وإن وقع فوقوعه يكون عرضًا.
ليس عفوا إذًا أن يشبه يوسف زيدان في لقاءه مع إبراهيم عيسى دوره كمثقف بدور زرقاء اليمامة الهادي والمرشد (لقبيلتها)، متماهيًا مع موقف سابق منذ سنوات أعلن فيه الكف عن أي “اجتهادات تثقيفية”، وتعليق كافة مشاركاته في الفعاليات الثقافية إلى أن تتخذ الدولة موقفًا من غريمه مدير مكتبة الإسكندرية الأسبق، ليحجز عن المجتمع بذلك ما “يملكه” من معرفة هي الهداية والإرشاد؛ فالمثقف المرشد “يمتلك” المعرفة، لا يثير فقط التفكير حولها؛ إذ يقوم دوره على غيابها لدى غيره، وبفعل نقصانها يتشكل جوهر هذا “المثقف”، لهذا فحضوره (كموضوع) يتحدد بنقصان يلازم شعور الفرد.
هذا النموذج لـ"المثقف" أوجدته رغبة مجتمع لا يملك أفراده قدرة على التقييم المعرفي، كما لا يتسع وقتهم ولا تتيح ضغوط حياتهم فرصة اكتساب هذه القدرة
لا يتمثل يوسف زيدان بذلك صورة “المثقف المرشد” (وإن اتفقا في الخطاب)؛ بل هو نسخة رديئة “كيتش” من هذا النموذج، نسخة رديئة من مثقف الثلاثينات الذي اتخذ الشك منهجًا في نصه الشهير، ليستثمر زيدان طاقة عاطفية حقيقية مازالت متعلقة بنموذج “المثقف المرشد أو الهادي”، فيوهم أصحابها أن قضايا من قبيل “إنكار المعراج”، أو كون صلاح الدين الأيوبي “أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني”، أو أن المسجد الأقصى ليس الموجود بمدينة القدس.. إلخ، هي قضايا “تنويرية” تماثل ما طرحه سلفه.
هذه الموضوعات العاطفية هي مضمون ما تقدمه النسخة الرديئة لـ “المثقف المرشد”؛ فهي من ناحية غير مؤهلة لتقديم محتوى جاد، ومن ناحية أخرى يميل إنتاجها إلى البساطة والمباشرة حتى يسهل إدراكه دون بذل أي جهد ذهني، من ثم يجري تسويق المنتج ليصل إلى أكبر قطاع ممكن من الناس.
أما هذا النموذج لـ”المثقف” فأوجدته رغبة مجتمع لا يملك أفراده قدرة على التقييم المعرفي، كما لا يتسع وقتهم ولا تتيح ضغوط حياتهم فرصة اكتساب هذه القدرة، وبينما يسعي المثقف الذي يستهدف إثارة التفكير إلى طرح رؤى جديدة واستحداث مفاهيم تروج للتغيير، يتقدم نسختنا الرديئة فيعيد تدوير عناوين وقضايا تم هضمها مسبقًا، لا تطمح إلى أبعد من دعم توجهات جمهوره حتى تمسي جذابة له.
لبى “المثقف المرشد أو الهادي” حاجة المجتمع القديم لدور محدود، لم يكن “أبستيم” العصر يسمح بأبعد منه، وحين داهمتنا الحداثة تمسك المجتمع بهذه الصورة، ليتمثلها المثقف الليبرالي واليساري والقومي، لا فارق في الدور بينهم وبين “المثقف الفقيه”؛ فالحداثة بأطوارها لم توطن نموذج المثقف الذي ينزع إلى إثارة التفكير؛ لا إلى هداية الناس إلى الإسلامية أو العلمانية أو الاشتراكية.. إلخ، وكان من نتاج تمسك المجتمع بهذا الدور، رغم انقضاء عصره، أن جرى نسخ “المثقف المرشد” إلى تلك النسخة الرديئة، ولعله كان محقًا للمرة الثانية حين وصف زيدان نفسهـ في اللقاء أيضًا مع عيسى بـ دون كيشوت، فهو مثل زيدان، كان نسخة رديئة من فرسان العصور الوسطى.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.