كانت مشكلة التدوين هي أعقد مشكلة تقريبًا في الفكر الإسلامي؛ ليس فقط تدوين القرآن إنما تدوين الحديث وما تبعه من عدم وجود تفاسير وشروح للدين ورثها الصحابة وآل البيت عن الرسول، وعدم وجود تفاسير وشروح أيضًا عن خلفاء الرسول وآل بيته مكتوبة ليستقر العقل الإسلامي على مفهوم واضح عن الدين كي تجتمع إليه ضالتهم.
أدت هذه المشكلة إلى ظهور صراع فكري مبكر بعد موت الرسول مباشرة، صار يتنامى وينشط بمعزل عن الصراع السياسي؛ فتلك الحرب بين الأمويين والهاشميين على السلطة لم تكن مؤثرة في هذه الحقبة في الصراع الفكري الذي اشتعلت نيرانه حول القرآن وتفسير النص الإسلامي الأول، وهل الدين يقول بكفر مرتكب الكبيرة أم لا؟ وما هي الكبيرة أصلا؟ والذي أشعل هذا السؤال – الذي يبدو أنه لم يكن مطروحًا بشكل كافٍ في عهد الرسول – هو انشغال القبائل العربية المسلمة آنذاك في تعريف (الكافر والمؤمن)، لأن الحرب التي أعقبت موت الرسول والصراعات بين الصحابة وبعضهم إضافة لإحياء الخلاف الأموي الهاشمي أثار حفيظة من يبحثون عن تعريف معين لكليهما كي يكون بديلاً عن التفسير والشرح (المفقود).
ومن تلك الزاوية انشق المسلمون لثلاثة فرق شهيرة، اثنان منها لهما موقف متناقض من المسألة، الأولى: تقول إن الكافر ليس فقط هو الذي لم يسلم أو لم يؤمن بنبوة محمد؛ ولكن حسب القرآن هو الذي يفعل الكبيرة بمفهومها الواسع، وهذه الفرقة هي الخوارج.
أما الثانية: فقد قالت إن الكافر هو الذي حارب الدعوة الإسلامية ولا يجوز الحكم على إيمان أحد بالكفر مهما ارتكب من معصية، لأن القول بكفر الناس هو حكم نهائي على مصيرهم الأخروي، بينما الواجب أن (نُرجئ) هذا المصير لله يوم القيامة، وهذه الفرقة هي المرجئة.
أما الثالثة: فهي التي قالت بأن الكافر هو الذي حارب الدين من الذين لم يؤمنوا بنبوة الرسول لكن مرتكب الكبيرة لا يسمى مؤمنًا ولا كافرًا؛ فهو في منزلة بين المنزلتين إلى أن يتوب عن ذنبه، وهذه هي القدرية التي سميت لاحقًا بالمعتزلة. فتبين لنا أن أول انشقاق عقائدي بين المسلمين كان حول سؤال من هو الكافر والمؤمن، فظهرت أول ثلاث فرق عقائدية بالتاريخ الإسلامي هي (الخوارج والمرجئة والقدرية/ المعتزلة)
شرحنا من قبل على مواطن فرقتي (المعتزلة والمرجئة)، واليوم مع الخوارج، علمًا بأن تلك الشروحات تناقش أبعادًا جديدة لم تُذكر في كتب الأولين والآخرين، منها أن مسمى الفرقة لا ينطبق على جيش أو جماعة منظمة لها زعيم وجنود وأتباع معروفون، لكنه يطلق أحيانًا على (فكر) بغرض التصنيف والازدراء، كما في حالة القدرية والمرجئة، فالأصل أن هؤلاء كانوا مفكرين وفقهاء لهم وجهات نظر حول الدين ويملكون من الأدلة والحجاج ما يشفع لهم منطقيًا، ويطلق مسمى فرقة أيضًا على معارضي السلطة أو الداعين إلى التمرد والثورة على الخليفة، والتراث الإسلامي يحكي أن مسمى الخوارج أطلق على معارضي الخليفة في العصر الراشدي، ولا زال يطلق على المعارضين والثوار إلى اليوم في القرن 21 من طرف فقهاء السلطة.
علما بأن للخوارج صفة ذكرت في كتب التاريخ انطبقت على جماعات الإسلام السياسي في العصر الحديث، وهي أنهم يُسقطون آيات نزلت في الكفار والمشركين على مسلمين ومؤمنين، وفقًا لحديث عبدالله ابن عمر في صحيح البخاري: (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين) وبسببها كفروا الناس على الرأي. وباستطلاع التاريخ نجد أن تلك الصفة أحياها الوهابيون قبل 200 عام، فوصفهم علماء عصرهم بالخروج، ولأن المألوف عن زعيمهم وتلاميذه في نجد هذه الآفة التي توسعوا عن طريقها في تكفير شعوب كاملة كانت ترضخ للحكم العثماني آنذاك، كوصفهم للمصريين بالمشركين وعبدة الأوثان بسبب تصوفهم وانتشار الأضرحة والموالد بينهم، وقد ورث السلفيون وكافة تيارات الإسلام السياسي الآن نفس الفعل، لذا فيمكن وصف الجماعات الجهادية بالخوارج من هذه الجهة فقط، وإلا فأكثر صفات الخوارج بكتب التراث لا تنطبق عليهم كتكفير الصحابة وعائشة ومرتكب الكبيرة وغيرهم.
وبرأيي أن هذه الصفة وهي إسقاط آيات نزلت في المشركين على مؤمنين مصدرها (رفضهم النفسي لسلطات زمانهم) التي اعتمدت عروبة وقرشية وهاشمية السلطة؛ فالخوارج في بداياتهم لم يُلحظ لديهم أي توجه قومي عشائري، لكن قوميتهم كانت دينية شبيهة بما عليه الإخوان اليوم في شعاراتهم بتولية الحاكم بصرف النظر عن نسبه ولونه، على اختلاف بأن الإخوان انطلقوا من هذا الشعار فعلاً، لكن عند التطبيق نجدهم في مناطقهم لا ينكرون مبدأ (قرشية وعروبة الحاكم) ويؤجلون تطبيقه لعصر التمكين، وهو الذي أحدث فجوة بين تيارات الإسلام السياسي المعاصر في تفريق البعض منهم بين السلطة الزمنية وبين الخليفة، فنراهم قد اجتمعوا إلى ضرورة قرشية وعروبة وهاشمية الإمام، لكن اختلفوا في توقيت ذلك؛ فذهب البعض إلى أن السلطة الزمنية الإسلامية هي الوسيط الذي سوف يحقق هذا المبدأ أو بمعنى آخر (تأجيل إعلان الخلافة) حتى يتفقوا على شخص معين.
لذا كان سلوكهم بتكفير الحكام في صدر التاريخ الإسلامي مصدره رؤيتهم بأن هذه السلطات خرجت عن قواعد الدين الحنيف بعدم التفرقة على أساس النسب واللون، وهو مبدأ أخلاقي أعطاهم دفعة نفسية بالبداية كانت سببًا في الصمود وحشد الأنصار والقبائل المتضررة من الحكم الراشدي والأموي والعباسي، ويظهر ذلك في رفضهم الشهير لموقعة التحكيم في صفين عام 37 هـ، فالقصة ليست لديهم في تحكيم البشر في دين الله كما هو شائع فقط؛ بل في أن السلطات لجأت للتحكيم برفع المصاحف، وبالتالي حصر مبادئ القرآن في تصرفات وسلوكيات أنصار علي ومعاوية، بينما القرآن لديهم راسخ بأنه فوق العشائر والأنصار، وإذا كان ولابد من تحكيم للفصل بين المتحاربين – على أساس القرآن – فلابد وأن يجتمع المسلمون مرة أخرى للحكم في ذلك مثلما فعلوا في السقيفة.
ظهر الخوارج على مسرح الأحداث لأول مرة في الثورة على عثمان بن عفان، كان لديهم حضور قبل ذلك حتمًا، لكنه ظل جزءً من دولة وليدة مترامية الأطراف لديها طموحات بالتوسع والانتشار والغنائم، وظهورهم في الثورة على عثمان له دلالته العقائدية، مثلما ذكرنا أن في تلك الثورة كان الظهور الأول للصراع بين الهاشميين والأمويين على السلطة، وهو الظهور الذي لم يكتب له القوة والانتشار بعد السقيفة، فهم معارضون بالأساس لهذا الصراع كونهم يرون الإمامة من فروع الدين وليست من أصوله؛ فالإمامة والحكم لديهم من الشرع والقرآن، لكن الإمام والحاكم يكون بالبيعة عن طريق الرأي مثلما حدث في السقيفة، وبالتالي يظهر جليًا أن رأي الخوارج هذا لم يكن يختلف عن رأي الصحابة الذين تنازعوا في سقيفة بني ساعدة قبل تطوره ليصبح قرشيًا أو هاشميًا في عصر لاحق.
والدليل على ذلك أن قادة الخوارج جميعهم ليسوا من قريش؛ بل من قبائل لها خصومة معهم كقبيلة بني حنيفة التي خرج منها “نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي” المتوفى 65 هـ وهو مؤسس فرقة الأزارقة، و”نجدة بن عامر الحنفي” المتوفي عام 72هـ الذي أسس فرقة النجدات، وتحتهم قادة كثيرون من بني حنيفة لا يسع المقام لذكرهم، إضافة لقبيلة بني تميم التي خرج منها قادة كثيرون أيضًا منهم “عمرو بن بكر- والزبير بن علي السليطي – وعروة بن حدير- ومرداس بن حدير – وصالح بن مسرح – وابن الماحوز – والحجاج التميمي الملقب بالبرك وغيرهم”.
ومن قبيلة أزد خرج “عبدالله بن وهب الراسبي – وقريب بن مرة. وغيرهم”، ويمكن تلخيص موقف الخوارج السياسي والذي يعارض فلسفة الحكم عند الأمويين والهاشميين في خطبة طويلة “لأبي حمزة الشاري” التي اشتهرت في كتب التاريخ تحت عنوان “خطبة أبي حمزة الشاري في أهل المدينة”، ومصدرها ” كتب: تاريخ الطبري (٩: ١٠٧) والأغاني للأصفهاني (٢٠: ١٠٣) وشرح ابن أبي الحديد (١: ص٤٥٨) والعقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي (٢: ١٦٢)
علمًا بأن أبا حمزة الشاري المتوفى عام 130 هـ من أعلام فرقة الإباضية العُمانية، ولذا قال كثير من علماء السنة والشيعة إن الإباضية هي إحدى فرق الخوارج، لكن ثمة اعتراضًا كبيرًا على ذلك ساقه د. محمد سليم العوا في شرحه المفصل للإباضية؛ حيث نفى فيه هذا الادعاء بالوثائق والأدلة من التاريخ، ولعل مصدر هذا الاتهام أن أهل عُمان في جزء كبير منهم كانوا من قبيلة الأزد التي خرجت على السلطة الأموية فتم رميهم بالخروج، لكن التحقيقات الحديثة التي تنفي ذلك حملت الخروج لقبائل كثيرة كانت خصومًا لقريش، ولم يكن الأمر خصيصة للأزديين، ويحكم في ذلك معتقد الإباضية أنفسهم الذين لا يقولون بكفر مرتكب الكبيرة أو كفر الصحابة مثلما هو شائع عن فرق النجدات والأزارقة والحروريين وغيرهم، كما أن محتوى خطبة أبي حمزة الشاري لم يتضمن تكفيرًا للصحابة؛ بل ضمن عدة عبارات وألفاظ كقوله بالسنة النبوية، وهنا الإباضية مؤمنة بحجية السنة، وتراها بشكل مختلف عن الذي اجتمع عليه السنة أو الشيعة.
ظهر الخوارج على مسرح الأحداث لأول مرة في الثورة على عثمان بن عفان، كان لديهم حضور قبل ذلك حتمًا، لكنه ظل جزءً من دولة وليدة مترامية الأطراف لديها طموحات بالتوسع والانتشار والغنائم
والواضح من خطبة أبي حمزة الشاري – المعروف بالمختار بن عوف الأزدي – أنه يرى بني أمية مغتصبين للسلطة، وأن الخروج عليهم بالسيف واجب، لكنه مع ذلك يهاجم الشيعة هجومًا ضاريًا لأنها تخلت عن مقاومة السلطة الأموية في زمنه – مطلع القرن الثاني الهجري – وتدينت وفقًا لسيرة آل البيت، وهو ما يرفضه الخوارج والإباضية معًا كون الإسلام أوسع وأرحب بكثير من التعصب لقبيلة أو نسب أو لون.
بدأت معارك الخوارج ضد الإمام علي بن أبي طالب في النهروان سنة 38 هـ، أي بعد موقعة التحكيم بعام واحد، وهي الموقعة التي دفعت “عبدالله بن وهب الراسبي الأزدي” للخروج على علي بن أبي طالب، وهو أول ظهور عسكري للخوارج بالفرقة المعروفة “بالحرورية”، الذين انتسبوا لبلدة حروراء بجوار الكوفة العراقية، وقد سُمّوا بالمُحكّمة للإشارة إلى دوافع الراسبي لقتال عليّ، وهي رفضه للتحكيم، وبعد هزيمة الراسبي وجنوده في النهروان، تجدد القتال بين شيعة عليّ وبين جيوش الخوارج، فحدثت في نفس العام؛ 38 هـ عدة معارك، أشهرها الدسكرة بقيادة أشرس بن عوف الشيباني، وماسبذان بقيادة هلال بن علفة وأخيه مجالد، علمًا بأن هلال بن علفة كان صحابيًا ومن قادة معركة القادسية ضد الفرس، وكذلك موقعة جرجرايا بقيادة الأشهب بن بشر البجلي، وتبين من هذا أن ثورة الخوارج على جيش الإمام علي كانت كبيرة ومنتشرة في عموم العراق وما جاورها من الأهواز شرقًا، وظل اسم الحروريين ملتصقًا بالخوارج حتى مقتل الإمام عليّ بن أبي طالب عام 40 هـ.
وبعد استشهاد الإمام عليّ تغيرت خارطة الصراع، فانشق الحروريون إلى أحزاب وفرق؛ منها النجدات والأزارقة في زمن ابن الزبير، وأنا هنا لست بوارد استطلاع أو سرد تاريخ الخوارج؛ فكتب التاريخ غنية بهذا، ومن يرد تاريخ هذه الفرقة فليعد للكتب، لكني هنا أشرح ماهية هذا التيار في صدر التاريخ ومكانته ورسوخه من وجهة نظر مختلفة، لا أعتمد فيها مبدأ التكرار أو النسخ واللصق.
الشيء الأهم في مسيرة الخوارج أنهم أول فرقة أو تيار سياسي في الإسلام يطالب علنًا (بتحكيم الشريعة أو تطبيق حكم الله بشكل شمولي)، بيد أن التاريخ يشهد أن هذه المطالبات كانت جزئية قبل الخوارج، فنرى أحداث السقيفة وما بعدها نداءات بالعدل وتحري حكم الله؛ فكأن أحكام الله قبل الخوارج كانت مرتبطة بحدث ما تنفك عنه فور زوال ذلك الحدث، لكن مع فرق وأحزاب الخوارج كانت القصة مختلفة. هذا تيار شامل ولديه أيدلوجيًا واضحة بتطبيق نص ديني وإنكار ما عداه؛ فالتراث الإسلامي يحكي أن الخوارج كانوا يرفضون السنة التي عرفت عند الأغلبية بأحاديث الأئمة في السنة والشيعة، مما يعني أن فكرة الحديث لم تكن مقنعة للخوارج أو لم تكن ظهرت في عهدهم ولم يشهدوها في طور تشكلهم.
ومن هذا المشهد رأينا فقهاء معاصرين يتهمون جماعات الإسلام السياسي بالخارجية، وأنهم خوارج لهذا السبب، أنهم رفعوا نفس شعار الخوارج بشكل معمم؛ فالقصة عند الفقهاء تبدو أنها أكثر خصوصية ودقة مما تراه الجماعات؛ فالخوارج قديمًا رفعوا شعار حكم الله دون تصور تطبيقه على الأرض، أو رفعوه دون تأمل وتدبر في كتاب الله ليكشفوا الظاهر منه والباطن أو المطلق والمقيد أو بحسب المتأخرين الناسخ والمنسوخ أو الوسيلة والمقصد، وهو نفس الانطباع الذي تصور به الشارع الإسلامي جماعات العنف الديني بالعقود الستة الأخيرة، فهي جماعات جاهلة بشرع الله الحقيقي ولا تتأمل في كتاب الله ولا تلتزم السنة النبوية الصحيحة، التي هي لديهم حاصل جمع اجتهاد الأئمة منذ العصر العباسي الأول، ومن تلك الزاوية حدث فراغ معرفي بصدقية وصم هذه الجماعات بالخوارج، بدعوى أن العصر الذهبي للخوارج كان في حربهم ضد عليّ بن أبي طالب وسائر الخلفاء الأمويين، وهي الفترة التي سبقت ظهور الأئمة الأربعة .
مما يعني أن دوافع وصم هذه الجماعات بالخوارج كانت سياسية كيدية ساعد في نجاحها انتصار السلطة على المتمردين الخارجين، فلو فرضنا حدوث العكس؛ أي انتصار الخوارج سنرى خطابًا دينيًا وسياسيًا مختلفًا يقول بأن خصوم الخوارج كفار عبدة أوثان يريدون تغيير شرع الله وتحكيم كلام البشر، ثم إعدام زعمائهم بتهمة الكفر والحرب على الإسلام، وقد رأينا بعضًا من تلك المشاهد في حرب سوريا والعراق الأخيرة ضمن مناطق نفوذ داعش؛ إذ شرعوا في إعدام الآلاف بهذه التهمة ولم يفرقوا بين فقيه أو باحث أو مواطن عادي، أما وصم هذه الجماعات بالخوارج ففيه نظر شرحته في مقالي على موقع الحوار المتمدن بعنوان “داعش ليست خوارج؛ بل انعكاس للسلفية المعاصرة”.
ففي هذا المقال طرحت 7 فوارق بين مذهب الخوارج وكافة جماعات الإسلام السياسي، مستعينًا بكتب التراث كمقالات الإسلاميين للأشعري، وتاريخ المذاهب الإسلامي للشيخ محمد أبو زهرة، إضافة لمجلة المنار، بينما طرحت 19 نقطة تشابه بين داعش والسلفية المعاصرة على سبيل المثال لا الحصر، أي توجد تشابهات أكثر من المذكورة.
الشيء الأهم في مسيرة الخوارج أنهم أول فرقة أو تيار سياسي في الإسلام يطالب علنًا بتحكيم الشريعة أو تطبيق حكم الله بشكل شمولي
إن ما سبق يعني أن صراع الخوارج مع غيرهم لم نرثه ولا نعرفه على وجه الصدق والتفصيل، فهناك ثغرات هامة لم تُحلّ؛ منها أن تكفير مرتكب الكبيرة تفعله بقية المذاهب في السنة والشيعة ، مثلما نرى الآن تكفيرهم للعلمانيين والمثقفين والباحثين ومن ينكر فرضية الحجاب أو يترك الصلاة والصيام وغيره، وكتب ابن تيمية الحراني تطفح بشكل حاد بتكفير وقتل؛ ليس فقط مرتكب الكبيرة ولكن مرتكب الصغيرة وعلى التفاهات، علاوة على اختلاف الفقهاء حول مفهوم الكبيرة، فعن ابن عباس أن كل ما ذكر في القرآن من نواهٍ هي كبائر وليس الأمر محصور في سبع أو ثمانٍ كما هو مشهور في حديث السبع الموبقات؛ ففي الصحيحين أن النبي عليه السلام قال: “اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا، يا رسول الله؛ وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”، ووضعوا هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: “الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم” [النجم : 32] “والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش” [الشورى : 37]
لكن الفقهاء لم يلزموا هذا الحصر؛ فقالوا بأن كل ذنب يقصد به الاستهانة في الدين هو كبيرة، مثلما اشتهر عند الشافعية قولهم في تعريف الكبيرة نقلاً عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني: “هي كل فِعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة”، أو كما نقل الشيخ محمد علي السايس الخلاف في تعريف الكبيرة بقوله: “الذين ضبطوا الكبيرة بالحد ذكروا لها عدّة تعاريف؛ فمنهم من قال: هي كل معصية أوجبت الحد، وقيل: هي كل ذنب قرن بالوعيد الشديد في الكتاب أو السنة وقيل: هي كل معصية أوجبت الحد أو قرنت بالوعيد الشديد، وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة” (تفسير آيات الأحكام صـ 276). وكما نرى أنها تعريفات مطاطية للغاية وتفتح الباب لاتهام كل مخالف أو مرتكب ذنب بالكفر أو البدعة والمعصية، فتارك الصلاة مثلا يُفهم منه قلة اكتراث صاحبه بالدين، وكذلك المرتشي والكاذب وقاطع الرحم، ومن ثم يكون مرتكب هذه الأمور هو يفعل كبيرة وفقًا لاصطلاحات الفقهاء.
وأذكر أن جمهور المالكية قال بأن الغيبة والنميمة من الكبائر، وبعض الشافعية قالوا إن الظهار من الكبائر مثلما نقل السبكي في كتابه “جمع الجوامع”، وابن عباس يقول إن الكبائر سبعون، والشيخ الذهبي في كتابه الزواجر قال إن الكبائر أربعمائة وستون، وعن ابن جبير أن الكبائر سبعمائة.. وهكذا وصلنا أن الكبائر مفهوم مطاط للغاية وصل تعداده في كتب التراث إلى المئات، فلذلك نفهم كيف أنها تحولت إلى سلاح في أيدي الفقهاء لرمي الغير به ممن يختلفون معهم؛ ليس فقط بالمذهب ولكن في الرأي داخل المذهب أو من يخالفهم سلوكيات معتادة لا تضر سوى صاحبها؛ كشُرب الدخان مثلاً وجدنا في زماننا من يرمي هؤلاء باستحلال الحرام وبالتالي فتح الباب لتكفير من يدخن السجائر، فلو كان هذا الأمر على التدخين فكيف بشارب الخمر؟ وهو قياس يكشف عقلية تكفيريين زماننا الذين توسعوا في رمي الناس بالكفر وفقًا لسعة ومطاطية مفهوم الكبيرة وانطباقه على أغلب أحوال الناس المعيشية.
وختامًا؛ فما ورثناه عن الخوارج كتب وآراء وفتاوى تذمهم؛ فلم نعثر على أي كتب لأئمتهم وزعمائهم أو مخطوطات تكشف بوضوح مذهبهم، مما يعني أن ما لدينا عن هذه الفرقة لا يجب أن نسلم به يقينا، بل نعرضه على كشّاف العقل والتأمل كي نتلمس صورتهم بدقة؛ فالمعتاد آنذاك أن كتب المعارضين السياسية والعقائدية تُحرَق ولا يسمح بتداول أي منسوخ منها، فضلاً عن الإرهاب النفسي والقمع الذي لاقاه معارضو السلطة ليضطروا إلى الانزواء بعيدًا عن حقل التأليف والتصنيف، خلافًا لكتب العلم التجريبي مثلاً أو الفلسفة التي نشأت في كنف دول وسلطات ليست عباسية أو سنية، مثلما وجدنا كتب الفارابي وابن رشد وابن سينا.
إن الذي حافظ عليها أنها نشأت في دول جمعت بين الطابعين (غير عباسي أو غير سني) باستثناء بعض الحالات التي أثبتت نفسها في حقل العلم التجريبي، ولم تُعرف آراؤهم الدينية سوى بعد موتهم، كحالة الطبيب الشهير أبي بكر الرازي فيه كتابيه (الحاوي والطب المنصوري) الذي أبدع فيهما كطبيب في كنف الدولة العباسية، لكنه ضمّن في مؤلفاته آراء دينية ثائرة على الدين السائد فلم ينتبه إليها فقهاء عصره سوى بعد موته.
أما الخوارج فمن الواضح أنهم لم يحصلوا على أي من الميزتين؛ أي لم يبرعوا في العلم التجريبي أو ينشغلوا به كونهم طلاب سياسة بالأصل، ومنشغلين للغاية في العقائد والحُكم على الناس، لذا لم يثبت أي منهم في مجاله لكي نرث عنه بعض الكتب والمؤلفات، وكذلك لم ينشطوا سوى في كنف الدول السنية – أموية وعباسية –؛ فشهدنا قهرًا لزعمائهم وإرهابًا بسبب التأليف والتصنيف، ومن ثم الدعوة للخروج والتمرد، وتلك من بلايا القدر العاثر الذي حطّ على هذه الفرقة؛ فبرغم وضوح أسماء زعمائها وتاريخها السياسي الكبير والطويل، إلا أننا لم نعثر على أي من أعمالهم ومنتجاتهم حتى من باب التعاطف والتهريب الذي كان لصالح المعتزلة، أحيانا بتهريب كتبهم إلى اليمن، وقيام الزيود بطبع ونشر أعمالهم. إلا أننا مع الخوارج يبدو أننا إزاء فرقة حصلت على كراهية وعداء الجميع بلا استثناء؛ فلم نرث عنها سوى الشيطنة ووضع مقولاتهم المنسوبة في باب القُبح والغباء والحرب على الدين.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.