تعاني كافة دول العالم، على اختلاف واقعها الجغرافي، تأثيرات متفاوتة وخطيرة نتيجة تداعي التغيرات المناخية، بشكل سريع وملحوظ خلال السنوات الماضية، وفي شبه الجزيرة العربية، التي تسخن بصورة أكبر من باقي مناطق الكرة الأرضية، ربما سيكون لتلك التغيرات تأثيرًا، ملحوظاً على ارتفاع درجات الحرارة بشكل سريع، الأمر الذي يدفع الحكومات في الوقت الراهن إلى إقرار منظومة إجراءات للتعاطي مع الظروف البيئية الطارئة.
على أثر تلك التحولات البيئية الحادة تواجه السعودية، -التي تستقبل ملايين الزوار سنويًا بقصد تأدية مناسك الحج والعمرة- تحديات متضاعفة، بهدف توفير مناخ آمن للحجاج والمعتمرين؛ خاصة خلال فصل الصيف لتقليل المخاطر الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة، خاصة أن السنوات الماضية قد شهدت عدة وقائع منذرة، بسبب التغيرات المناخية؛ أبرزها تعرض بعض الحجاج لمضاعفات مرضية نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، تزامنت مع تكثيف الجهود من جانب المملكة لتوفير بيئة آمنة.
وتعرف الأمم المتحدة تغير المناخ بأنه "التحولات طويلة الأجل في درجات الحرارة وأنماط الطقس؛ قد تكون هذه التحولات طبيعية فتحدث -على سبيل المثال- من خلال التغيرات في الدورة الشمسية".
وفي شهر رمضان هذا العام، استقبلت المملكة ما يزيد عن مليون معتمر من كافة أنحاء العالم بمعدل (40 ألف معتمر يوميًا)، وسط إجراءات واحتياطات مكثفة لتوفير معدلات عالية من الأمن والسلامة، وتذليل كافة العقبات، فيما يجري الترتيب في الوقت الراهن لموسم الحج الذي من المفترض أن يستقبل (2.5) مليون حاج ستصل إلى (6) ملايين عام 2030.
تحذيرات متوالية
لم تتوان التحذيرات، على مدار السنوات الماضية، بشأن التأثيرات السلبية المحتملة للتغيرات المناخية على إضفاء أجواء أكثر صعوبة، وربما مخاطر جدية على صحة الحجيج والمعتمرين.
جاءت التحذيرات مدفوعة بارتفاع نسب الوفيات بين الحجاج، الناجمة عن الاحترار المناخي الشديد خلال السنوات الماضية، فيما تشير التقديرات البحثية إلى ارتفاع درجات الحرارة سريعًا في السعودية، ومن الممكن أن تتجاوز درجات حرارة “المصباح الرطب” ( وحدة قياس بيئية حرارية)، يمكن أن تتجاوز 29 درجة مئوية في 15 % من أيام الحج بين 2045 و 2053، و 19 % بين 2079 و 2086، وقد يزداد الأمر سوءً.
وترتفع درجات الحرارة في منطقة الخليج بشكل كبير إذا ما قورنت بالمعدلات العالمية، الأمر الذي يتطلب فرض سياسات عاجلة للتخلص من المسببات ومعالجة التداعيات بشكل تدريجي.
ووجدت دراسة لباحثين بمعهد (ماساتشوستس) للتكنولوجيا، نشرت في المجلة الجيوفيزيائية، (Review Letters)، أن رحلات الحج خلال 2019 و2020 كانت عالية الخطورة، لأنها تتم في أشد أشهر السنة حرارة، محذرة من استمرار درجات الحرارة العالمية في الارتفاع بلا هوادة؛ فقد يشكل الطقس خطرًا كبيرًا على صحة المسلمين أثناء الحج.
وحول طبيعة التحديات المناخية التي تواجه موسم الحج في المملكة، تقول الخبيرة في شؤون البيئة والمناخ الدكتورة سوسن العوضي لمواطن: “إن النظام البيئي في المملكة من الأساس يغلب عليه المناخ الجاف مع ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة”.
وبحسب العوضي أظهر التقرير الصادر من الفريق الحكومي الدولي عام 2007، أن التغير المناخي أدى إلى تغير مستويات هطول الأمطار حول العالم، وظهر ذلك جليًا في المملكة العربية السعودية في زيادة نسبة هطول الأمطار على المملكة.
وبخصوص التأثيرات السلبية للمناخ على مواسم الحج والعمرة، تضيف العوضي: “هناك تأثير متزايد عامًا تلو الآخر”، نظرًا للارتفاع القياسي لدرجات الحرارة في منطقة شبه الجزيرة العربية، إضافة إلى أن الزحام والتدافع الشديد أثناء تأدية فريضة الحج قد يزيد من خطورة الأمر.”
وكان تقرير صادر عن مركز الدراسات الإسلامية بالجامعة الوطنية في إندونيسيا، يوليو الماضي، قال إن التغيرات المناخية الناجمة عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري البشرية، يعرض مستقبل الحج في مكة المكرمة للخطر مع التهديد المتزايد من الإجهاد الحراري الخطير للحجاج.
إلى ذلك، تؤكد العوضي على أهمية أن تتولى الدول المسؤولة عن الانبعاثات العالية المتسببة في ارتفاع درجات الحرارة مسؤوليتها في تخفيف تلك التداعيات، خاصة أن مناطق مثل شبه الجزيرة العربية باتت مهددة بخطر ارتفاع الحرارة والرطوبة، لمعدلات خطيرة على الصحة العامة.
وبحسب الخبيرة في شؤون البيئة؛ يتقدم كبار السن قائمة الأشخاص المعرضين لمضاعفات خطيرة بسبب الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة، لكن يبقى الشباب أيضًا في مرمى الخطر إذا ما وصلت الحرارة والرطوبة لدرجات لا يمكن للأصحاء تحملها.”
ملامح حادة للتغير البيئي.. كيف تنعكس على الحجاج؟
شهدت السعودية خلال السنوات الماضية، إلى جانب الارتفاعات القياسية في درجات الحرارة خلال فصل الصيف، زيادة كبيرة بنسبة الأمطار والسيول، وقد رصدت بعض اللقطات المتداولة اكتساء الجبال والمناطق الصحراوية باللون الأخضر للمرة الأولى في تاريخها.
“ستسجل موجات الحر خلال السنوات المقبلة، فترات أطول من المعتاد، لذلك سيكون من الضروري البحث عن آليات جديدة لتخفيف وتيرة التداعيات الناجمة عن التغير المناخي، والعمل على خفض معدلات الاحترار وتعظيم الاستفادة من الموارد”. حسبما صرح لمواطن المهندس السعودي صباح ماجد، ناشط في مجال الطاقة والتغير المناخي.
بخصوص رحلة الحج؛ تتعلق غالبية المخاطر بالارتفاع الشديد في درجات الحرارة، التي تسجل بين 30-45 درجة مئوية في فصل الصيف داخل المملكة، بحسب بيانات رسمية، ومن المفترض أن تزيد خلال الأعوام المقبلة بسبب تغير المناخ.
"كان الشعور أحيانًا أن الشمس تتعامد فوق رؤوسنا أثناء الطواف"
في المجمل تعمل السعودية وفق استراتيجية شاملة، لمواجهة التغيرات المناخية، والحد من تأثيراتها على الدولة بشكل عام، وعلى مكة المكرمة تحديدًا.
ويؤكد ماجد أن المملكة تسعى للحد من مخاطر التغيرات المناخية من خلال وضع السياسات لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وزيادة إنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة، كما هو منصوص عليه بتقرير المساهمة الوطنية المحددة (NDC) المنشور عام 2021، مما سيسهم في تقليل المخاطر البيئية.
“كما أن المملكة لديها هدف واضح بالوصول لنسبة 50% من إنتاج الكهرباء عبر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030 وكل من مشروع سكاكا للطاقة الشمسية، ومشروع دومة الجندل للرياح لبداية ناجحة شاهدة على ذلك بتكلفةِ كهرباء غير مسبوقة”. حسبما عقب ماجد لمواطن.
الشمس فوق رؤوسنا
في مكة، ستجد نفسك غارقًا في بحر من المشاعر، مبعثه الطقوس الدينية شديدة التميز، غالبًا لا يكترث الحجاج بشيء غير الانهماك الروحي في اللحظات المتفردة، خاصة أن زيارة البيت الحرام ليست أمرًا سهلًا؛ فهي بالنسبة لغالب المسلمين أمنية قد تتحقق مرة واحدة في العمر، وربما لا تتحقق. لكن مع كل هذا الاستغراق في الطقس الديني، لا يمكن تجاهل الشعور بالضيق الشديد وربما المرض نتيجة ارتفاع درجات الحرارة لحد لا يمكن تحمله.
حول هذه التجربة، يتحدث أحمد على لمواطن ، وهو أحد الحجاج الذين زاروا مكة بموسم الحج الفائت، وهو بعمر الخامسة والأربعين، وعلى الرغم من أنه لا يعاني أي ظروف مرضية، لكنه لم يقو على تحمل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، وتعرض لحالة إغماء أثناء تأدية مناسك الطواف، وتم إسعافه سريعًا ليواصل بعد ذلك أداء الفريضة، لكنه ظل بحالة إعياء شديدة حتى بعد نهاية رحلته وعودته إلى القاهرة استدعت مراجعة الطبيب لعدة مرات.
أما أحمد طلعت الذي يملك شركة لتسفير الحجاج والمعتمرين من مصر، يحكي لمواطن، “كان الشعور أحيانًا أن الشمس تتعامد فوق رؤوسنا”.
ويضيف: “المعروف أن أجواء درجات الحرارة داخل المملكة مرتفعة خلال فصل الصيف، لكن الملاحظ مؤخرًا هو وصول درجات الحرارة لمستويات غير مسبوقة، الأمر الذي يستدعي إجراء فحوصات طبية مضاعفة للمسافرين، وإلزامهم بعدد من الإرشادات التي عممتها وزارة الحج والعمرة داخل البلاد، ولدى كافة شركات السياحة في العالم نسخ منها، يتوجب عليهم الالتزام بها، تستهدف تلك التعليمات والإرشادات تقليل الخطر الناتج عن الارتفاع القياسي في درجات الحرارة وحماية الزوار من مخاطرها قدر الإمكان.”
أما الحاجة سعاد (65 عامًا) فتقول لمواطن إنها لم تنتبه لتحذيرات الأطباء الجدية، بعدم السفر لتأدية مناسك الحج خلال العام الماضي، نظرًا لرغبتها الشديدة وتعلقها بهذه الأمنية، لكنها عملت على تنفيذ كافة الاحتياطات والإرشادات التي قدمها لها الأطباء، ومرشدو الرعاية الصحية داخل الحرم المكي.
وتشير سعاد، التي تعاني من مرض ارتفاع ضغط الدم، إلى أنها عانت بشكل كبير جراء ارتفاع درجة الحرارة خلال تأدية المناسك، ولكنها تلقت بعض الإسعافات سريعًا وتجاوزت الإعياء، كما حرصت على شرب المياه وتناول الوجبات الغذائية بانتظام، ولم تصم سوى يوم عرفة، رغم أنها كانت تنوي الصيام خلال الــ 10 الأوائل من ذي الحجة كاملة.
دليل أخضر للحجاج
تثير التأثيرات المحتملة للتغير المناخي على الحجاج مخاوف جدية لدى المنظمات والهيئات المعنية في العالم، فضلًا عن كون موسم الحج، يمثل أيضًا تحديًا يمكن أن يضاف إلى جملة العوامل المحفزة على تغير المناخ، بسبب زيادة الانبعاثات الحرارية الناجمة عن التكدس والتلوث في بعض الأحيان.
إلى ذلك يستهدف مشروع حديث صادر عن تحالف “أمة من أجل الأرض”، إلى تنفيذ دليل أخضر للحجاج والمعتمرين، يسهم من ناحية في زيادة التوعية بالمخاطر المناخية وتقديم إرشادات وافية حول التعامل معها، وأيضًا يساعد الحجيج على اتباع سلوكيات أكثر حفاظًا على البيئة وتحقق معايير الاستدامة.
بذلت السعودية جهودًا كبيرة لحماية الحجاج من نوبات الحر الشديد، شملت تلك الجهود إقامة آلاف الخيام المكيفة للاستراحة، وبناء أنفاق طويلة مكيفة على طول طريق الرحلات، إضافة لتزويد المصليات وأماكن الوضوء بمراوح لتسريب البخار، والحفاظ على التبريد الدائم
وحول المشروع ترى نهاد عواد مسؤولة الحملات في التحالف، خلال محاضرة حول التغيير المناخي والتوعية البيئية في الجامعة الهاشمية : “أطلقنا الدليل الأخضر للحج والعمرة، وتطبيقًا للهاتف المحمول يشجع الحجاج على الشروع خلال هذه الرحلة الروحية للمسلمين في التفكير في دورهم، وفي أداء مناسك الحج والعمرة بطريقة صديقة للبيئة لحماية الأرض والحياة عليها.
ويعطي الدليل عدة نصائح للحجاج والمعتمرين، تبدأ قبل الانطلاق، منها المشاركة في الورشات البيئية التي سيعقدها منظمو رحلات الحج في مناطق السكن، وتفادي الأكياس البلاستيكية في توضيب الأغراض، إضافة إلى تجنب السيارات والحافلات، واستخدام خدمة المترو أو القطار، وتجنب الأطعمة والمشروبات المغلفة قدر الإمكان، والتضحية بأضحية واحدة لكل أسرة، والتخفيف من استهلاك مياه الوضوء والاغتسال، وكذلك الطاقة الكهربائية وغير ذلك من النصائح.
كيف تحمي السعودية الحجاج من الاحترار المناخي؟
بحسب خبراء مجلة الإيكونوميست، بذلت السعودية جهودًا كبيرة لحماية الحجاج من نوبات الحر الشديد التابعة للتغيرات المناخية داخل الدولة، شملت تلك الجهود، إقامة آلاف الخيام المكيفة للاستراحة، وبناء أنفاق طويلة مكيفة على طول طريق الرحلات، إضافة لتزويد المصليات وأماكن الوضوء بمراوح لتسريب البخار والحفاظ على التبريد الدائم.
إضافة إلى توفير 4000 سرير للمرضى، و25 ألف مسعف، وبناء مزيد من المستشفيات داخل مجمع المسجد الحرام في مكة المكرمة، كما تتيح للحجيج السفر بالقطارات المكيفة التي تعمل سبعة أيام في السنة فقط، ويستطيعون السفر بالحافلات إذا لم يكن لديهم ما يكفي من المال.
كما تعمل المملكة على توفير العديد من الخدمات اللوجستية للحجيج أيضًا، من شأنها تقليل تبعات تغير المناخ، منها تشجير منطقة الحرم المكي كاملة ضمن استراتيجية “الغطاء النباتي” التي تشملها رؤية المملكة 2030.
إجمالًا يمكن القول بأن السعودية -مثل كافة دول الخليج- تواجه تحديات كبرى فيما يتعلق بالتغيرات المناخية، تنعكس بشكل سلبي على مواسم الحج والعمرة؛ خاصة التي تتزامن مع شهر الصيف، لكنها في المقابل تحاول استباق تلك المخاطر، وإن كانت بحاجة إلى تكثيف وتسريع خطواتها نحو بيئة أكثر استدامة، قبل أن تصبح المملكة أرضًا في أجزاء كثيرة منها غير صالحة للعيش، أو تُعلق مناسك الحج والعمرة بسبب شدة خطورتها على الحياة.