لست من الذين ينادون بمعرفة على أساس ديني وعرقي؛ فهذه إحدى طرق الاعتزال عن المجتمع ومخاصمة العلوم، والانزواء بعيدًا عن العالم، لكن الواقع يشهد بأن المعارف البشرية في جزء منها كبير يخص انتماءات البشر الدينية، وبالطبع فالمسلمون يملكون معرفة خاصة وعقلاً خاصًا بهم، تشكل عبر قرون من الصراعات والتجارب والصدمات والخبرات، شكّلت في وعي المسلمين نوعًا من المعرفة لا يمكن تجاوزه؛ بل البحث فيه لإدراك ماهية المسلمين في العصر الحديث وما يترتب على ذلك من مشاريع إصلاحية مختلفة.
بداية؛ فالمعرفة تتضمن أربعة صنوف من خلالها يحل البشر على العالم هي:
- أولاً: كل ما تشمله الحواس الخمس من (سمع وبصر وشم ولمس وتذوق)، وتلك هي مصادر المعرفة الأولى التي عن طريقها يفطن ذهن الإنسان لإدراكه الأول منذ الولادة؛ فما يراه الطفل من سلوكيات الوالدين والأسرة يمثل المعرفة الأولى التي ترسخ في الذهن ولا تغادره لفترة طويلة من الزمن.
- ثانيًا: العواطف والمشاعر، وهي التي عن طريقها يعرف الإنسان بالذوق والتأمل والميول، وعن طريق هذا الصنف يصل أهل العرفان أنفسهم بالله والدين، وعن طريقها يتعبد الزاهدون والصوفيون في محاربهم؛ فهم قوم ينظرون للحياة بمنظار العاطفة والمشاعر التي على الأرجح تكون هي التعبير الصادق عن تجاربهم وقفزاتهم الشخصية في الحياة، ومن خلال هذا المنظار يرى أهل الحكمة والتفلسف كثيرًا من مشكلات العالم التي يرون الحل فيها لا يخرج من النظر في بواطن وجواهر الأمور، والنظر فيما دون المحسوس من شفرات وغوامض وتأويلات غابت عن الحس الظاهري في الصنف الأول.
- ثالثًا: الأخبار الصادقة، وهي التي يتفق فيها الذهن مع الواقع والتجارب؛ فكل تجربة مادية وحسية تشكل وعيًا في الضمير وإدراكًا في العقل؛ هو صدقيتها والإيمان بها واليقين بمحتواها وما يترتب عليها من أحكام وقيم، لذا فهذا الصنف يمثل أحد أهم مناظير البشر في رؤية العالم، وحديثًا بعد تطور الصناعة والتكنولوجيا وما نتج عنه من تطور العلوم والتجارب، صار كثير من الناس لا يؤمنون سوى بشيء واحد؛ هو العلم، والذي يتمثل في أذهانهم بالخبر الصادق، وإذا تعارض ذلك الخبر مع أي اعتقاد ديني أو سياسي أو قومي أو عرقي يقدمون العلم فورًا، فتشرع طائفة منهم بتأويل معتقداتهم لتتناسب مع العلم، وطائفة أخرى تفصل بين الاثنين، وثالثة تقدم العلم وتنكر معتقداتها بالكلية.
- رابعًا: العقل؛ وهو الأداة الكبرى والوسيلة العليا في اكتساب المعارف، وهو مرتبط بكل الصنوف الثلاثة السابقة؛ حيث يقوم بمنطقتها وتبسيطها وتقديمها على طبق جاهز يسمى (اليقين)، وعن طريقه يجري الحُكم على جبال وتلال من الأخبار الوهمية والمشكوك فيها لصالح الأخبار الصادقة والمؤكدة، ويحكم أيضًا على صدقية ما تلقته حواس البشر من معلومات عن طريق الشك فيها وفي أدواتها وما يرتبط بها من خيال، مثلما كان عليه الفيلسوف “رينيه ديكارت” حين طالب بأن يكون الإيمان متعلقًا بالعقل فقط وبعيدًا عن الخيال، الذي هو أحد منتجات الحس المادي في صنع المعارف.
نلاحظ أن تلك الصنوف الأربعة رغم أهميتها في تشكيل المعارف، لكنها غائبة عن الفكر الإسلامي بشكل كبير لصالح ترسانة هائلة من الفتاوى والأخبار التي لم يتحقق الفقهاء أنفسهم من صدقيتها، ويقولون بأن مئات الآلاف من تلك الأخبار هي (خبر واحد) ظني الثبوت، لكنهم يختلفون في اعتمادها كدليل شرعي؛ حيث تذهب الأغلبية لاعتبارها كدليل ديني مؤكد مثلما هو عليه الحال في جمهور السنة والجماعة -مالكية وحنابلة وشافعية- وتيار (الإخباريين الشيعة)، إضافة لما طرأ على بعض الأحناف في اعتماد هذا الدليل ولو بطريقة مختلفة عن جمهور السنة.
ومن خلال ذلك تبدى لنا إشكالاً عظيمًا في الفكر الإسلامي؛ أن أحد أهم أدلته الكبرى ليس مؤكدًا؛ بل يتعارض ويتشاكس، بل ويتصارع أحيانًا مع الصنوف الأربعة السابقة للمعرفة الإنسانية؛ فلا يمكن اعتماد هذه الأخبار في ظل وجود الصنف الرابع الذي يحكم على عقلانية النصوص فيردها ويقبلها بناء على معقوليتها ومنطقيتها؛ بل يؤمن فقهاء المسلمين بذلك ويُصرحون بضرورة تقديم النقل على العقل، وهو تقديم أحدث إشكالاً وصراعًا بين المعرفة العقلية التي تعتمد (البداهة والحدس والضرورة والمنطق) كمعيار حاكم ومهيمن على شتى صنوف المعارف، مثلما تقدم وأشرنا بهيمنة هذا الصنف العقلي على صنوف المعارف الثلاثة المتبقية، وكذلك لا يمكن اعتماد هذه الأخبار في ظل الصنف الثالث الذي يحكم عليها بمصادقة تجاربها وحقائقها في الواقع، والمتفق عليه أن سائر ما ورثه المسلمون من أخبار وروايات وتفاسير وفتاوى قديمة تعاني من فجوة علمية كبيرة تضعها على المحك.
فهي من جهة لا يمكن اختبارها والتأكد من صلاحيتها، ومن جهة أخرى تحوي هذه النصوص تحذيرات من مجرد محاولة الشك فيها أو اختبارها، مما أدى لحدوث عزلة نفسية وتربص كبير من المسلم الذي يؤمن بها، لكل من يحاول إثناءه أو إقناعه بما يخالف محتواها، ولا يترك المسلم فسحة لنفسه أن يفكر بظروف صناعة وتكوين تلك الأخبار، وأنها خرجت في ظل صراع فكري وأيديولوجي كبير بين (أهل النقل والعقل)؛ فكان من الضروري لأصحاب وناقلي تلك الروايات أن تتضمن منتجاتهم تحذيرات وحوائط صد دفاعية تأمرهم وتوجه أتباعهم ضد كل محاولات التأمل فيها أو عقلنتها بأي شكل، ويحشدون من جهة أخرى أتباعهم على كراهية المخالف نظرًا لما قلته كثيرًا في محاضراتي، أن الغالب على هذا الموروث الروائي وتلك التلال الهائلة من الفتاوى والأخبار هو (الكراهية والعنف اللفظي)، فلم نجد بين جنباتها ما يدعو للتسامح المطلق أو الحرية الدينية المطلقة مثلما وجدنا في القرآن الكريم.
في ظل معاناة تلك الأخبار من موقف عدائي ضد الآخر كلما اشتعلت صراعات السياسة والدين؛ فتدخل فيها عناصر جديدة تزيد الأمر اشتعالا ككرة الثلج.
المسلم إنسان مأمور بما يحسه لا بما أحسه الآخرون وتناولوه في الزمن الغابر، ومن تلك الجزئية خرج فريق مستنير يرى الموروث الروائي مختصًا بالسابقين ولا يصلح لأن يكون دليلاً في الدين على الإطلاق
كذلك فهذه الأخبار تتصادم مع الصنف المعرفي الثالث المختص بجانب المشاعر والميول؛ فبرغم أن حب وكراهية الناس قد يحدث بالميول لا بالعقل والتجارب والحس، لكن هذا الصنف المعرفي سلاح ذو حدين، لأنه يتضمن حبًا وميولاً حتى لمن يخالفون الدين لاعتبارات شكلية ونفعية وروحية مختلفة؛ فقد يحب المسلم مسيحية والعكس، وقد يحب المؤمن غير مؤمن والعكس، السائد على تلك الأخبار هو كراهية ونبذ هذا الاتصال النفسي والروحاني وتقبيحه قدر الإمكان باعتباره علامة من علامات الولاء والبراء المحرم شرعا مثلما استقر عليه جمهور الفقه الإسلامي، وبذلك صار هذا الصنف المعرفي غير مأمون العواقب، ويمثل تحديًا للفقهاء، وقد يفلت الزمام من بين أيديهم ويرتكب المسلم جُرمًا فظيعًا بالانفتاح والتسامح مع الأقوام والشعوب وذوي الأديان المختلفة والمنافِسة.
وأخيرًا، من الطبيعي أن تتعارض تلك الأخبار مع الصنف المعرفي الأول الخاص بالحواس؛ فالمسلم إنسان مأمور بما يحسه لا بما أحسه الآخرون وتناولوه في الزمن الغابر، ومن تلك الجزئية خرج فريق مستنير يرى الموروث الروائي مختصًا بالسابقين ولا يصلح لأن يكون دليلاً في الدين على الإطلاق، وأتذكر جيدًا مقولة شيخ الأزهر السابق “محمد سيد طنطاوي ” (1928- 2010م) أن هذا التراث كتبه أصحابه لزمانهم، ولا يُلزم أهل زماننا بشيء إلا بالدليل الشرعي المتفق عليه في الأصول، ومن هذه الخلفية آمن شيخ الأزهر بالاجتهاد، وأن ذلك البحث ضروري لاستقراء كل حالة على حدة للخروج بنظرية معرفية إسلامية تلائم كل عصر، وهي المرجعية التي دفعت الإمام “جلال الدين السيوطي” (849 – 911 هـ) لكتابة كتابه “الرد على من أخلد في الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض”.
بالنسبة للصنف الثاني من المعرفة وهو العاطفة والمشاعر، فهو مقرر إسلاميًا بلفظ آخر؛ وهو (القلب)، كتعبير عن الإدراك الروحي واعتباره عضوًا مستقلاً عن العقل في الظاهر، لكن النص القرآني يكشف أنه ليس مستقلاً؛ بل هو مرتبط بالعقل بطرق وأشكال مختلفة، مثل قوله تعالى: “ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم” [البقرة : 7]؛ فالعضو المُدرِك للمشاعر اقترن هنا بالعطف على السمع والبصر التي هي أدوات الحواس، وبالتالي فالختم المقصود يعني أن أبواب المعرفة صارت مقفلة على كل هذه الصنوف المعرفية؛ فالقلب صار مقفلاً مثلما صارت الحواس مقفلة، ولو علمت الحواس وأدركت ما يجب إدراكه في السياق لعلم القلب فورًا، ويصدق ذلك قوله تعالى “ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ” [الأنعام : 25] فالقلب عندما صار مقفلا واستحالت رؤية العين للآيات.
التحدي الآن صار موجهًا لقلب الإسلام نفسه وهو (القرآن الكريم)، عبر إلصاق التهم الإرهابية به، وأنه داعٍ للعنف والخرافة
وكأن المعرفة الإسلامية تقول بمركزية القلب والميول والعواطف وأسبقيتها (عمليًا) على العقل؛ ليس تحقيرًا من دور العقل نفسه؛ فالقرآن بأحد الإحصائيات يأمر بالتعقل والتفكر والتدبر في أكثر من 120 آية وردت فيها عبارات العقل ومرادفاته؛ (كيعقلون ويتفقهون ويتدبرون ويعلمون.. إلخ)، إنما ذكرت أسبقية القلب والعاطفة على أنها خيار بشري يؤدي للأحكام المسبقة والانحياز التأكيدي، وفي ذلك يقول الله تعالى: “فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به ” [المائدة : 13] وقال أيضًا: “فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون” [الأنعام : 43]؛ فلولا قسوة القلب ما حرّفوا كلام الله وزيّفوه لمصالحهم الخاصة، ولا اتبعوا خطوات الشيطان في فعل الشرور، ولا ينفعهم في ذلك تبرير ما فعلوه بشكل ديني، لأن ظهور الشر والأذى كان أسبق على تبرير ما فعلوه ، فأدرك الناس أن هذا العمل لا يمكن أن يكون من الله؛ بل من هؤلاء في المقام الأول.
لا شك أن المعرفة الإسلامية في التاريخ مرّت بتحديات مختلفة، لكن أقساها ما يحدث اليوم؛ حيث تعاني معرفة المسلمين من عدة عوامل؛ إذا تجاوزتها أزعم أنه يمكن للمسلم أن يجد نفسه في المستقبل؛ فتحديات الماضي لم تكن بهذه القسوة والشدة التي عليها مسلمو اليوم، بيد أن معارف الماضي كانت تمر بتحديات ثقافية لشعوب عملت على فرض تصورها الخاص ونشر تقاليدها وأدبياتها على أنها دين؛ فالمسلم عانى من فرض النمط العربي والثقافة العربية مثلما عانى من فرض النمط الفارسي والثقافة الفارسية، وكذلك ثقافات الهنود والتُرك واليونان وكل من جاور مسلمي السلف الأوائل، وتصارعوا معهم أو سالموهم، وكذلك عانى المسلم من جدليات الأديان والمعتقدات المختلفة من مسيحية ويهودية وزرادشتية.. إلخ، فأدى ذلك كله لانطلاق حركة معرفية إسلامية تحوي كل ما سبق، وتصهره في خطاب واحد دخل كتب الروايات والتفاسير باجتهادات العلماء والمحققين، ولم يتسن لمسلمي ذلك العهد أن يفصلوا بين تلك المؤثرات وحقيقة الدين نظرًا لضعف العلوم والتجارب ووسائل السفر آنذاك.
لكن الوضع الآن صار مختلفًا؛ فلم تعد التحديات محصورة فقط بمؤثرات عرقية ولغوية وقومية ودينية خارج النص القرآني، ولكن التحدي الآن صار موجهًا لقلب الإسلام نفسه وهو (القرآن الكريم)، عبر إلصاق التهم الإرهابية به، وأنه داعٍ للعنف والخرافة، وقد ساهمت وسائل التواصل وتقدم التكنولوجيا في تسريع وتيرة نشر هذه التهم وإقناع الملايين من المسلمين بأن كتابهم الأول لم يعد صالحًا، وبالطبع ساهمت فرق الإرهاب وجماعات الإسلام السياسي في إثبات وتأكيد تلك الاتهامات عبر تنفيذ وتصديق كل دعاوى العنف الموجهة للقرآن، وبالطبع هذا الوضع لم يكن يعاني منه السلف الأول الذي مر بتحدٍ آخر للنص القرآني وهو (العلم) فقط، أي بلغة ذلك الزمان مقاربة ذلك النص للعقل السليم والمنطق مما أدى لشيوع حركة نخبوية كانت تروّج لعدم صلاحية القرآن من الناحية العقلية والمنطقية، لكنها ظلت حركة نخبوية لم تتسع شعبيا حينها أجملها “د عبد الرحمن بدوي” (1917- 2002م) في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”.
التحدي الآن صار مختلفًا وصعبًا؛ فلو تسنى لفقهاء المسلمين قديمًا أن يجمعوا بين الدين والعقل؛ فالتحدي الآن لا يختص في معظمه بتلك العلاقة، ولكن بجوانب أخرى مثل (العلم التجريبي والنفسي والعصبي) إضافة (لمشكلة الإرهاب) ونشاط الجماعات المتوغل في القرى والمدن في إقناع المسلمين بالعنف
فكان من نتائج ذلك أن ظهرت حركة علمية قادها الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة في إثبات العلاقة بين القرآن والعقل فيما اصطلح عليه “بعلم الكلام”، أو ما يصفه البعض باللاهوت الإسلامي الذي يوازي فكرة “اللاهوت الدفاعي” في المسيحية، الذي عمل فيه “سانت أوغسطين” (354- 430 م) و”توما الإكويني” (1225- 1274 م) إضافة لسائر المدرسة الفلسفية المدرسية والعقلية التي أسسها فلاسفة الوجود مثل كيركيجارد.. وغيرهم.
لكن التحدي الآن صار مختلفًا وصعبًا؛ فلو تسنى لفقهاء المسلمين قديمًا أن يجمعوا بين الدين والعقل؛ فالتحدي الآن لا يختص في معظمه بتلك العلاقة، ولكن بجوانب أخرى مثل (العلم التجريبي والنفسي والعصبي) إضافة (لمشكلة الإرهاب) ونشاط الجماعات المتوغل في القرى والمدن في إقناع المسلمين بالعنف، وإثبات كل التهم الموجهة إليهم، إضافة لما استجد في تعريف العقل نفسه؛ فالعقل بالماضي كانت له تعريفات أقرب للمنطق اليوناني، وجوانب الفلسفة الملتزمة به كانت أضيق مما عليها الآن من اتساع هائل في بحور الفلسفة، وظهور عدة فلسفات جديدة وثورية تناقش جوانب عقلية كثيرة جدًا لم يُدركها السابقون، وقد شرحت هنا في “مواطن” بعضًا من هذه الجوانب في سلسلة تقريب لفلسفات عصر ما بعد الحداثة لعقول المسلمين (كالبنيوية والتفكيكية والتحليلية والوضعية المنطقية) ..وغيرها ، إضافة لفلسفات الحداثة كالديكارتية والاستشراق، كهدف عام من نشر وتقديم نظرية المعرفة الإسلامية في ثوبها الجديد التي تتسق فيه مع الثقافة المعاصرة وطرق التفكير المتطورة التي يتفاعل معها المسلمون في العالم الخارجي دون وعي بجوهرها وتفاصيلها.
إن النظر لمشكلة المعرفة الإسلامية الآن يستدعي النظر إلى مشكلات تفسير المسلمين لقرآنهم، والتي أجملها على النحو التالي:
- اهتموا بإثبات بلاغة القرآن وعلوّه وإبداعه ليُعجِر مشركي العرب، وأن مقابلتهم لتلك البلاغة بالسيف دون البرهان يكفي لإثبات صدقيته.
- اهتموا أيضًا بنحوه وصرفه والتوسع في إعرابه وبيان وجوهه اللغوية، وكثير من تفاسير المسلمين على هذا النحو كالكشاف للزمخشري والبسيط للواحدي النيسابوري والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ومعاني القرآن للزجّاج. وغيرهم.
- اهتموا بنشر القصص والحكايات عن السابقين بما فيها الإسرائيليات والأكاذيب التي راجت في كتب التاريخ عن قصاصين العرب والفرس والهنود.
- اهتموا بالأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات برؤية ضيقة جدًا ومنظار أضيق في رؤية النص الديني وتقييده عن شموله الواضح في عدم التفريق في المعاملات بين مسلم وغيره.
- اهتموا بنشر أصول العقائد والانشغال في الألفاظ النسبية والعبارات الملغزة ومحاولات تفسيرها وإضفائها بعدًا علميًا، وبرغم أن هذا اتجاه علمي أصيل؛ لكن محاولاتهم في الغالب طاشت لهجرة هؤلاء علوم الفلسفة، وتأخر العلم التجريبي في زمانهم.
- اهتموا بالتصوف والرقائق والوعظ اهتمامًا كان ممزوجًا بحكايات العباد والزهاد غير المنطقية والمبالغ فيها، والتي خرج كثير منها عن روح الإسلام في الصدق والواقعية.
- وأخيرًا اهتموا بالتفاسير غير المباشرة والعبارات المشفرة والألغاز مع الادعاء بامتلاك فريق من المسلمين مفاتيح تلك الأسرار، وسميت هذه الطريقة في التفسير بالباطنية.
من أسباب غياب العقل كعنصر تفسيري هو غياب مركزية الروح والمشاعر والعواطف في التفسير
نلاحظ مما سبق غياب عنصر أساسي في التفسير وهو (العقل)؛ خصوصًا المشبع حاليًا بفلسفات ما بعد الحداثة، والتطور الهائل على الحضارة؛ فمسلمو اليوم مستسلمون تمامًا لتفاسير القدماء، ويصنعون حواجز ودروعًا حول هذه الأعمال لحمايتها وصيانتها بدعوى الدفاع عن الإسلام، برغم أن الاتجاهات السابقة المذكورة لم تناقش أهم وسيلة إدراك معرفي على الإطلاق وهي (العقل)، فضلاً عن بقية صنوف المعرفة الثلاثة المتبقية التي هجرتها كتب المفسرين والمؤرخين، ومالوا في معظمهم عن طريق المعرفة الإنسانية العامة لمعرفة إسلامية خاصة تدور حول بعض النصوص، ومرتبطة بها ارتباطًا شرطيًا لا يغادرها، مما أدى لسجن عقول المسلمين في أقفاص من الجهل والعنصرية والطائفية أنتجت مشكلة الإرهاب الأخيرة التي أراها من أكثر التحديات الراهنة على الإطلاق، والتي تهدد ثقافة المسلمين ودينهم، فلم أجد من فقهاء المسلمين نشاطًا يوازي حجم الخطر الذي يتهدد دينهم في الراهن؛ بل لا زالوا منشغلين بطريقة المعرفة القديمة التي أسميها (بالسجون السبعة) في رؤيتهم الضيقة للنص الإسلامي.
وبرأيي أن من أسباب غياب العقل كعنصر تفسيري هو غياب مركزية الروح والمشاعر والعواطف في التفسير أيضًا؛ فالصنف الثاني للمعرفة الإنسانية يعمل وفق آليات عمل الصنف الرابع للذهن؛ فعندما قمع المفسرون دور العقل وتجاهلوا دوره المركزي في التشريع والتفسير قهروا الروح والعواطف أيضًا، ويظهر ذلك بجلاء في مصنفات المتشددين وأتباع ابن تيمية والوهابية والإسلام السياسي، حيث يميلون لعقلنة نصوص السياسة القمعية في التراث – حد الردة كنموذج – دون النظر للجانب العاطفي والأخلاقي الذي يفرض عليهم النظر ومراجعة تلك النصوص القمعية والتفاسير المُجحفة عملا بالحكم والمواعظ والإرشادات التي يطلقونها لأتباعهم بغرض إقناعهم بجدوى ما يقولون أخلاقيًا، ومن تلك المواعظ “عامل الناس كما تحب أن يعاملك الله” أو “عامل الناس كما تحب أن يعاملوك”.
فالعدالة كانت تقتضي أنهم مثلمًا يرفضون معاقبتهم على دينهم والإسهاب في مشروعية خروج الرسول عن سلطة قريش، أن يرفضوا عقاب الآخرين أيضًا على ترك الإسلام، وأن نصوص الدين الأولى في القرآن حفظت هذا الحق بوضوح، وأن حرية الاختيار الديني أساس وثابت من الثوابت جرى إهمالها بفعل نصوص السياسة القمعية التي تشكلت عبر بحور ومحيطات واسعة من المرويات التاريخية المقدسة بفعل فاعل.
الأنبياء جميعهم كانوا حدسيين يملكون عقلاً فعّالاً في التمرد على قوانين المجتمع والدعوة لأفكار ومبادئ جديدة مختلفة عن السائد
وفي تقديري أن غياب كلا الصنفين كان مؤثرًا في مسيرة العقل الإسلامي؛ فمنع كثير من المعارف البديهية التي يتمتع بها سائر البشر وفقًا لحقيقة أن المعارف الإنسانية منها ما هو بديهي ومنها ما هو مُكتسب؛ فهناك نوع من المعارف يفرض نفسه دون أي جهود ذهنية واستنتاجات، مثلما يرى البعض أن سلوك المؤمنين لا يفعل الخير دائمًا، وأن غير المؤمنين يفعلون الخير أحيانًا، وأن الذكاء متحقق في المؤمنين وغيرهم. ومعنى هذا أن فعل الخيرات والذكاء لا يلزمه اعتناق دين مُعيّن للانضباط، مما يضرب صنمًا من أصنام التراث الإسلامي بشدة وهو (الشريعة)؛ فالواقع يقول إن الانضباط السلوكي والصلاح والذكاء لا تلزمه قوانين محددة ومطلقة في الزمكان؛ بل يمكن الحصول على هذا الانضباط والصلاح والذكاء بأي دين وأي شريعة حتى لو وضعية، والعكس صحيح، أي أنه وفي ظل سيادة الشريعة لا يتحقق الانضباط والصلاح والذكاء المقصود، ولعل ما يحدث في دول طبقت الشريعة كأفغانستان والسودان وإيران وتجارب الإسلاميين في الخليج ومصر وسوريا والعراق وغيرها تدل بوضوح على أن الغرض الأساسي من دولة الشريعة لا يتحقق بمجرد الاستدلال النصوصي؛ بل يلزمه طريق آخر في الفكر غائب عن العقل الإسلامي ونظرياته المعرفية منذ زمن.
أختم بمفارقة (مينو) في نظرية المعرفة التي طرحها أفلاطون في محاوراته، وسميت بذلك لشخصية “مينو” التي فرضها أفلاطون كجزء من حوار حول إمكانية المعارف، والمفارقة تقول إنه إذا كان المرء على دراية بما سيبحث عنه أو يرغب بمعرفته؛ فإن الأسئلة والاستفسارات غير ضرورية، والعكس صحيح؛ أي إذا كان المرء لا يعلم شيئًا بما يريد أن يبحث عنه فلن يملك أسئلة واستفسارات مشروعة، لأنه في تلك الحالة صار عديم الإدراك، ولن يتخيل أو يرد في ذهنه مشروعية السؤال، واستدل على المفارقة بعبارة فلسفية هي (استحالة المعرفة) كأول تحقيق فلسفي يؤصل لها ويُعطيها بُعدًا إنسانيًا، وكانت وجهة نظر أفلاطون أن الإنسان يمكنه أن يتعلم شيئًا جديدًا وفقًا لمعرفة قديمة، وبالتالي فالمعرفة الإنسانية هي سلسلة من الحلقات والعلل تشد وتعضد بعضها بعضًا فيما اصطلح عليها بالسببية أو العلّية.
لكنه في لحظة ما يكتشف الإنسان أن السببية وفقًا لهذا السياق لن تقدم شيئًا جديدًا، بينما التجارب تقول إن بعضًا من المعارف تحدث بالخروج عن المألوف، وبالتالي فالطريقة الطبيعية البشرية في التفكير ليست ضامنًا لحدوث المعرفة، والخروج عن المألوف صار ضروريًا لامتلاك الحقائق، وهذه تعد البداهة التاريخية الأكثر شيوعًا؛ حيث يصارع الإنسان نفسه وفقًا لمزاعمه بالدفاع عن الثوابت لفريق، والدفاع عن الحقائق لفريق آخر، ولعل هذا الذي دفع البعض لاعتبار (الحدس/ الفراسة) أو (التفكير الوجودي) مشروعًا لامتلاك المعارف؛ بمعنى أن حدس الإنسان وفراسته أو التفكير بطريقة وجودية تعبر عن تجاربه وتأملاته وقفزاته الشخصية هو طريقه للحصول على المعرفة دون الحاجة لطريق العقل والعلم، وهذا الذي يؤصل لمشروعية الإبداع ومركزيته في التاريخ البشري، ويقول إنه لولا تضحيات من سبقونا في إبداعهم سواء بطرق العقل والحدس ما تطورت البشرية أو صنعت الحضارة.
ومشكلة التفكير بالحدس كانت وستظل خطرًا على التقليد والجمود؛ فهي التي قادت فلاسفة المسلمين القدماء للقول بأصالتها في المعارف، وربطها ابن سينا في إِشاراته بالعقل الفعّال الذي يتلقى معارفه وعلومه من قوى الطبيعة المهيمنة، والاتساق والنظام الرائع الذي يحكم الكون؛ فالعقل الفعّال هنا هو الذي يرتكن إليه الحدس ويستند إليه العباقرة في إبصار قوى الطبيعة ونظامها في الخروج عن المألوف، وكأن التفكير بالسببية ليس ضامنًا بشكل نهائي للحصول على العلم، لأن طرق حدوث السببية ليست على شكل واحد عند أنصار الحدس؛ فهم يؤمنون بسببية أخرى علمية ومنظمة خارجة عن المألوف، وقد وصل بها فلاسفة المسلمين إلى أن الأنبياء جميعهم كانوا حدسيين يملكون عقلاً فعّالاً في التمرد على قوانين المجتمع والدعوة لأفكار ومبادئ جديدة مختلفة عن السائد.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.