منذ أن وطئ محمود القاسم، مهندس مدني سوري، المملكة العربية السعودية في 2019، وعمل بشركة مقاولات، وهو لا يترك شيئًا من راتبه؛ إذ يقوم كل أول شهر بتحويله كاملًا إلى وطنه سوريا بعد انتقاص مصروفاته الشخصية فقط.
“الخليج ليس بيئة مناسبة للاستثمار بالنسبة للعمالة الوافدة؛ فهناك ضعف للرواتب، ولدينا شعور بالتهميش نتيجة عمليات السعودة المستمرة”. يقول القاسم لمواطن
عملية السعودة، هي عملية إحلال المواطنين السعوديين، مكان العمالة الوافدة في وظائف في القطاع الخاص.
القاسم هو عامل وافد ضمن 12 مليون عامل وافد آخر في الخليج، يحولون 113 مليار دولار سنويًا إلى الخارج بدلًا من استثمارها في السوق المحلي الخليجي؛ ما يؤثر على اقتصاد تلك الدول، وينعش اقتصاديات الدول المحول إليها.
يتضح ارتفاع التحويلات المالية العمالة الوافدة في الخليج للخارج، في بيانات مركز الإحصاء الخليجي؛ فكانت خلال العام 2020 نحو 116.5 مليار دولار، وزادت في العام 2021 إلى 127.2 مليار دولار، بنمو بلغ 9.2%.
وتعتبر الإمارات هي الأعلى في التحويلات بموجب 42.7 مليار دولار، تليها السعودية بـ34.3 مليار دولار، والكويت ثالثًا بـ17.4 مليار دولار، وقطر رابعًا بـ10.6 مليارات دولار، ثم عُمان بـ8.8 مليارات دولار، وأخيرًا البحرين بـ2.7 مليار دولار.
تحويلات مرتفعة، ما السبب؟
الأوضاع غير المستقرة دفعت محمود القاسم إلى تحويل أمواله كاملة وعدم الاستثمار في السوق الخليجي: “تحدث عمليات تصفية في الشركات للعمالة، وتكون العمالة الوافدة في المرتبة الأولى، لذلك في أي وقت يمكنهم فصلي”.
وعن المغريات التي قد تدفعه لإبقاء أمواله في السوق الخليجي يقول: “لا بد من زيادة الرواتب بالحد الذي يُمكن العامل الوافد من إرسال جزء منها، وإبقاء جزء آخر تستفيد به السوق المحلية من عمليات الشراء للعمالة الوافدة”، متخوفًا من وضع قيود على التحويلات المالية من قبل السعودية للاستفادة بأموال العمالة الوافدة بسبب الأزمة الاقتصادية.
يرى المحلل الاقتصادي الكويتي، علي حسين العنزي، أن التضخم وجائحة كورونا لعبا أدوارًا مختلفة ساهمت في ارتفاع الأجور، وبالتالي ارتفاع نسب التحويلات، خاصة مع خروج عدد كبير من العمالة أيام الجائحة، رفع الأجور بسبب النقص الذي حدث، ويضيف لمواطن، أن فرض قيود على التحويلات المالية للعمالة الوافدة في ظل التضخم الحالي، أمر غير متوقع.
"إذا تم اصطحاب أسر العمالة الوافدة بحد أقل من المتطلبات الشديدة الآن، سيوفر الأمر عملة صعبة ولن ترتفع التحويلات، ولكن عمليات التكويت والسعودة الحالية تجعل الوافدين يشعرون بأنهم غير مرحب بهم في الخليج". حسبما عقب الباحث السياسي د. عايد مناع
بينما يؤكد لمواطن أبو غزالة، مصري يعمل في الكويت مبيض محارة، “دخل العمالة الوافدة غير مناسب لأي استثمار في الخليج؛ بل إن الأمر زاد سوءً بسبب أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية”.
إذ أصبح المدخول المادي ضعيفًا، في ظل الركود الاقتصادي بأغلب القطاعات؛ لاسيما قطاع العقارات بسبب رفع البنوك للفائدة؛ خاصة مع ارتفاع أسعار المعيشة؛ فالراتب بالكاد يكفي مصروف العامل الشخصي، وإرسال ما يتبقى إلى أهله في خارج الخليج.
التضييق على اصطحاب الأسر، له أثر
يرى الأكاديمي والباحث السياسي الدكتور عايد مناع، أن الخليج أصبح بعد الثورة النفطية يعج بالعمالة الوافدة من كل أنحاء العالم وليست القادمة من العربية فقط؛ ويضيف لمواطن: “هذه العمالة لا غنى عنها حتى لا تتوقف عجلة القطاع الخاص؛ فالخليج يعول على العمالة الوافدة في القطاع الخاص وأرباحه تأتي منها”.
ويؤكد: “من المفيد أن يبقي الوافدون ما يستطعون من تحويلاتهم المالية في البلد التي يعملون فيها في دول الخليج، لتحقيق استفادة استثمارية في السوق المحلي”.
وبحسب الخبير السياسي: “إذا تم اصطحاب أسر العمالة الوافدة بحد أقل من المتطلبات الشديدة الآن، سيوفر الأمر عملة صعبة ولن ترتفع التحويلات، ولكن عمليات التكويت والسعودة الحالية تجعل الوافدين يشعرون بأنهم غير مرحب بهم في الخليج”.
"إن التحويلات المالية للعمالة الوافدة في الخليج ،ارتفعت بسبب عدم وجود فرص استثمارية في الدول المضيفة"
وهي نفس الأزمة التي واجهت أحمد الحسني، مهندس حاسبات مصري يعمل في الكويت؛ إذ كان يرسل الجزء الأكبر من راتبه إلى أسرته في مصر المكونة من زوجة وابن وابنه، من أجل الإيفاء باحتياجاتهم المالية.
وبعد عامين من الاستقرار في الكويت رغب في جلب أسرته معه، إلا أنه اصطدم بقوانين تعيق جلب الأسر: “الأمر يحتاج إلى إجراءات كثيرة لم أستطع الإيفاء بها، باتت الكويت مؤخرًا تمارس نوعًا من التضييق على العمالة الوافدة”.
ويؤكد مثل زملائه من أن فكرة الاستثمار في دول الخليج غير آمنة، لأن الوظائف غير مضمونة، وكل فترة يتم ترحيل جزء كبير من العمالة الوافدة: “سيصبح العامل في بلد واستثماره في بلد آخر؛ وجزء من عدم الأمان أننا غير مرغوب في وجودنا”.
يناقش ذلك الطرح مقال للخبير الاقتصادي المصري عبد الحافظ الصاوي، نشر في مركز البيت الخليجي للدراسات والنشر خلال مارس الماضي بعنوان: “العمالة الأجنبية في الخليج: خسائر مُضاعفة وحقوق غير مضمونة”، قال فيه إن العمالة الوافدة تشهد تأثيرات سلبية من حيث قرارات تقليص عددها، أو تخفيض رواتبهم، أو الإجراءات التقشفية التي اتخذتها دول الخليج، بسبب وضعها المالي المتراجع.
ويضيف لمواطن الدكتور كامل الحرمي، الخبير الاقتصادي الكويتي، أن التحويلات المالية للعمالة الوافدة في الخليج ارتفعت بسبب عدم وجود فرص استثمارية في الدول المضيفة: “إذا كانت تلك الدول لديها منافذ وإيجابيات متاحة للاستثمار المحلي أمام العمالة الوافدة، بالتأكيد كانوا سيبقون جزءًا من أموالهم في السوق المحلي الخليجي”.
تعتبر مصر من أعلى الدولة التي تتلقى تحويلات من مواطنيها في الخليج، فوصلت في السنة المالية (2021 – 2022) إلى 27.6 مليار دولار. وفق النشرة الاقتصادية للبنك المركزي المصري.
وهناك حلان للأزمة وفقًا للحرمي، إما أن يكون هناك حد معين للتحويل المالي للخارج، لأن ذلك لا يحدث في الدول المتقدمة مثل أوروبا وألبانيا وهولندا، فالعمال الوافدة هناك تستثمر جزءًا من رواتبها في السوق المحلي، أو يُسمح لبعض العمالة الوافدة جلب أسرها معها.
عن مخاطر التحويلات
وعن خطورة زيادة التحويلات المالية يقول الدكتور عايد مناع: “تشكل استنزافًا للعملة الصعبة التي كان من الممكن أن يستفيد بها السوق المحلي الخليجي، ما يؤثر على السيولة الاقتصادية”.
تعتبر مصر من أعلى الدولة التي تتلقى تحويلات من مواطنيها في الخليج وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ فوصلت في السنة المالية 2022 – 2021 إلى 27.6 مليار دولار وفق النشرة الاقتصادية للبنك المركزي، أما الأردن بلغت 3.4 مليارات دولار، ولبنان تبلغ التحويلات المالية إليه 3 مليار دولار من نفس العام، وأخيرًا الفلبين بنحو 5.11 مليار دولار.
يعزز ذلك الطرح تقرير صدر من البنك الدولي العام 2019 قال فيه إن الأموال التي يرسلها العمال من الخارج إلى أسرهم في بلدانهم الأصلية أصبحت جزءًا مهمًا من اقتصاد العديد من الدول خاصة الفقيرة حول العالم، لكونها تعادل أو تزيد عن 25% من إجمالي الناتج المحلي في عدة دول حول العالم، وعلى الجانب الآخر تعتبرها الدول المحول منها، عملية حرمان من الاحتياطي النقدي الأجنبي واستقرار العملة المحلية.
وهو ما دفع إحدى دول مجلس التعاون الخليجي كالكويت، إلى فرض ضريبة على التحويلات المالية للوافدين بنسبة 1% على المبلغ من دينار حتى 99 دينارًا و2% من 100 حتى 299، و3% من 300 حتى 499، و5% لأي حوالة تزيد عن 500 دينار.
وتجدد الحديث في 2022 على يد البرلمان الكويتي بمناقشة مقترح يفرض بمقتضاه ضريبة جديدة على التحويلات المالية الخارجية للوافدين.
ويعقب د. علي حسين العنزي بأن: “الخليج يعاني حاليًا من انخفاض في مستويات عوائد النفط، ما جعل زيادة حوالات الوافدين، لها أثر على الميزان التجاري، وهو ما لم يكن يظهر حينما كانت عوائد النفط مرتفعة، وكانت تؤثر إيجابًا في الميزان التجاري”.
هل على دول الخليج تقديم مزيد من تصحيح الأوضاع والاستقرار، بالإضافة إلى مغريات تدفع العمالة الوافدة، من أجل استثمار أموالهم بالخليج؟
ويختم الدكتور كامل الحرمي حديثه موضحًا أن الأثر يظهر مستقبلًا: “التحويلات المالية تقلل من وفرة النقد الأجنبي في الخليج وتزيده في الدول المحول إليها، فلا بد من تصحيح أوضاع العمالة بما يحقق استفادة للاقتصاد الوطني الخليجي”.
اليوم ومع الأزمات الاقتصادية في الداخل والخارج، تخسر اقتصاديات دول الخليج بسبب زيادة التحويلات المالية للوافدين، في وقت يرى عامل وافد كمحمود ضرورة إرسال راتبه كاملًا إلى ذويه في سوريا، لعدم وجود بيئة استثمارية للعمالة الوافدة في الخليج. بينما لا يستطيع عامل وافد آخر مثل، أبو غزالة إبقاء أمواله في السوق المحلي (الخليجي) بسبب ضعف راتبه.
فهل على دول الخليج تقديم مزيد من تصحيح الأوضاع والاستقرار، بالإضافة إلى مغريات تدفع العمالة الوافدة من أجل استثمار أموالهم بالخليج؟. خاصة مع وجود تحذيرات من مضار فرض الضرائب على تلك التحويلات، ما قد يفتح بابًا لإجراء تحويلات عبر قنوات غير شرعية، تمثل مخاطر لجهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما حذر البنك الدولي من مساوئ فرض ضرائب على تحويلات العمالة الوافدة في الخليج.