عندما تصل إلى مكة المكرمة، ستواجهك مشكلة صعبة في رؤية الكعبة بشكل مباشر، ربما لن تتمكن من رؤيتها طوال مدة زيارتك للمدينة سوى مرة واحدة، وهي تلك التي تقضي فيها مناسك العمرة بالطواف حولها. زحام المكان مع تعدد قاعات المسجد الداخلية وزياداته التي لا يمكنك من خلالها رؤية الكعبة بشكل مباشر أمر في غاية التعقيد؛ فضلًا عن أن الكعبة منعزلة تمامًا في فضاء داخلي صغير عن الفضاء الخارجي المحيط للمسجد المليء بالمطاعم والكافيهات والأبراج الفندقية التي يترأسها برج الساعة؛ أبرز معلم ظاهر في المدينة المقدسة، والذي يمكن رؤيته عبر أي نطاق جغرافي في المدينة. هل يشير هذا الأمر لخلل ما؟
منذ مدة تداول رواد منصات التواصل الاجتماعي صورة للمسجد الحرام يوم 26 رمضان سنة 1444 هجريًا أي قبل إحياء ليلة القدر بساعات قليلة، اليوم المشهود في مكة المكرمة وسط زحام مهول بأعداد ضخمة من المصلين والمعتمرين في المسجد الحرام، ظهرت الصورة التي اتخذت بشكل علوي للمسجد بعناصر معمارية كثيفة متكتلة بشكل صلب، كان أقل عنصر لافت للانتباه فيها “الكعبة المشرفة”، ولولا لونها الأسود لما كادت العين تلمح وجودها من الأساس. تلك هي الصورة بالتحديد التي أريد من خلال ما كتبت إيصالها.
هل يعني هذا أن الكعبة أصبحت هامشًا بالنسبة لتلك الكتل المعمارية الضخمة التي بنيت من حولها؟ وهو ما يوصلنا إلى نقطة هامة ونقاش واجب حول طبيعة تلك العلاقة المتشابكة بين الكعبة كعنصر معماري، والنسيج المعماري الجديد والمستحدث خارج إطار المسجد الحرام.
كيف وصلت مكة إلى هذا التعقيد؟
لم يكن التعامل مع مكة تعاملًا عاديًا كأي مدينة أخرى في الحجاز؛ حيث امتلكت تاريخًا عمرانيًا ثريًا على مدار عمرها، منذ تأسيس المسجد الحرام فيها، والذي يعني تاريخ تأسيسها وصولًا إلى مرحلة ما قبل اكتشاف النفط. لكن المعضلة الرئيسة حدثت عندما أصبح التعامل معها منذ تلك اللحظة التاريخية التي تدفقت فيها أموال النفط بغزارة تعاملًا عاديًا لا يختلف عن أي مدينة حديثة أخرى في الخليج العربي أو في العالم، بدأ التعامل معها كمدينة عالمية بناطحات سحاب وفنادق عالمية، فضلًا عن مستوى معيشي رأسمالي يجعل من الحياة فيها حياة سياحية من الدرجة الأولى.
تختلف تلك الحياة بطبيعة الحال عن الغرض الرئيس لزيارة تلك البقعة المقدسة؛ حيث يتجه الحجاج المسلمون كل عام بالملايين لقضاء فريضة الحج بطقوس محددة وشكل معيشي معين، في تلك الفترة التي يقضون فيها مناسك الحج أو العمرة في أوقات مختلفة غير شهر ذي الحجة.
وضع قصي بن كلاب، جدّ النبي محمد، نظامًا عمرانيًا لمكة المكرمة، جعل من الكعبة فيه العنصر المعماري الأهم والرئيس والمشكل لهذا العمران
في كتابه من مكة إلى لاس فيجاس لعلي عبد الرؤوف، الذي تناول فيه تحول مكة المكرمة من مدينة مقدسة إلى مدينة عالمية لم تراع هويتها البصرية أو نسيجها العمراني الذي نشأت عليه، يتحدث عن معيارية المدن العالمية؛ حيث تمت بلورة بعدين رئيسيين يعكسان فكرة المدن العالمية، البعد الأول هو الشكل العمراني والتركيبة البصرية التي جعلت من الصورة العمرانية لمدن مثل نيويورك وشيكاجو مرجعية بصرية وذهنية لمفهوم عالمية المدينة؛ حيث تحولت هذه الصورة تدريجيًا إلى إطار مرجعي تهتدي به المدن حول العالم لإعطاء انطباعات جيدة عن قوة اقتصادها وقدراتها.
أما البعد الثاني فهو ما أشارت إليه الباحثة ساسكيا ساسن أستاذة علم النفس بجامعة كولومبيا في كتابها المدينة المعولمة: نيويورك، لندن وطوكيو: “أن تعريف مدينة ما بأنها مدينة عالمية لا يرتبط بشكل المدينة فقط، بقدر ما يرتبط بقدراتها على خلق مركز جذب عالمي محفز ومستقطب للاستثمارات والبشر والمعلومات والأموال والأعمال”.
ينطبق هذا الآن على مكة، وهو ما بدا غريبًا على تاريخها العمراني القديم، حين كان المعيار الرئيس الذي ميز مكة عن دونها من المدن التاريخية في منطقة الحجاز، هي الكعبة المشرفة، التي اتخذت موضعًا مركزيًا في المدينة ببعدها الروحاني والقدسي، تفرعت منه كل بطون مكة وشوارعها ووديانها، وهو ما كان متجانسًا مع النطاق الجغرافي الذي نشأت فيه من جبال وتكتلات صخرية حول المسجد الحرام. حتى انخرطت الحياة والعمران في مكة وسط تلك الوديان والجبال حتى أصبحت جزءً لا يتجزأ منها، وهو ما عززه التأقلم عبر سنوات تاريخها المتتالي.
كيف فقدت مكة نسيجها القدسي؟
أكثر من 300 مبنى ضخم التف حول المسجد الحرام في الألفية الجديدة، كان ذلك كفيلًا بإنهاء تلك الصورة النمطية والتقليدية التي سار عليها المسجد طوال تلك السنين السالفة؛ خاصة مع ضخامة وارتفاع تلك البنايات بمنسوب يتجاوز بمئات المرات منسوب المسجد الحرام ككتلة معمارية متحدة، والكعبة المشرفة ككتلة معمارية منفصلة. أدى ذلك إلى تغييرات جذرية في البنية المعمارية للمدينة المقدسة، هدمت في تلك الحركة المعمارية مبانٍ تراثية كثيفة كان محلها قائمًا حول المسجد وبالقرب منه، نزح فيها سكان أقاموا في تلك المناطق على مدار سنوات تاريخ مكة، كان العنصر الرئيسي والمحرك لبناء تلك المساحة الضخمة من المباني التجارية هو عنصر المال.
تحولت مكة في تلك الفترة السريعة من مدينة مقدسة لها نمط معماري مميز ومعبر عن طبيعة تاريخها، إلى مدينة عالمية لا تختلف عن أي مدينة عالمية أخرى في العالم، لم يعد للكعبة السيطرة على هذا النسيج وتشكيله وفقًا لرؤيتها هي وقوتها الروحية والمعمارية، بل كان النموذج المعماري الضخم المتمثل في الأبراج والبنايات الضخمة هو الصورة النمطية والرئيسية للمدينة.
يقول عبد الله السدحان في كتابه الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني للمدينة الخليجية: “لقد بدأت المدينة الخليجية تفقد حيويتها وملامحها وقسمتها إلى حد بعيد، فإذا نظرت إلى طراز البناء، أو نظرت إلى سحن الوجوه في الشوارع والدوائر، أو نظرت إلى طرز اللباء والمأكل والمشرب فيصعب عليك تحديد الجغرافيا التي تعيش فيها”.
لا تخلو مكة من محلات تجارية على أعلى مستوى من الحداثة، أبراج عالية ومرتفعة جعلت من المدينة التاريخية مدينة على مستوى آخر من الحداثة والعولمة، لذا لم يكن للكعبة ذات المفهوم التراثي أن تنسجم وسط هذا العدد الهائل من التركيبات المعمارية والعمرانية الحداثية والجديدة، مما جعلها تقف موقف المهمش وسط تلك الأجواء العالمية، وهو ما يتضح تمامًا في الصور الفوتوغرافية التي تلتقط للكعبة، التي تقف موقفًا متناقضًا بشكل كامل مع الصور القديمة للكعبة؛ حيث لم تعد الكعبة هي العنصر الرئيسي في الصور، أصبحت جزءً هامشيًا فيها، مع صعوبة في إيجاد فراغ يبرز كتلة الكعبة المعمارية.
في خطابه الموجه إلى الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة يقول عبد السلام اليمني كما يورده عبد الرؤوف في كتابه: “إنني يا سمو الأمير أشعر بالضيق والمرارة عندما أسمع وأشاهد لغتنا العربية عنوان هويتنا وشخصيتنا تحترق في لغة جرمانية غربية، وأسماء “فيرمونت، إنتركونتننتال، موفنبيك، جراند كورال، ميريديان، رافلز، هارموني، وغيرها من الأسماء تحيط بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، وبعضها يطل عليهما، ما انطباع الحاج والمعتمر والزائر بعد أن يعود إلى بلاده وهو يحمل ذكريات السكن في فندق “الفيرمونت” والغداء في “الإنتركونتننتال” والعشاء في “ماكدونالز” وترسخت في ذهنه أنماط معمارية شاهدها في واشنطن وماليزيا ودبي ولندن؟ أين قداسة أم القرى ومدينة النور وروحهما وتاريخهما والإحساس العميق والشعور بهويتها العظيمة؟”.
إن ماهية تلك العمارة الجديدة ونمط الحياة الغريب يتناقض تمام التناقض مع قدسية مكة المكرمة ورمزية الكعبة.
حين تذهب إلى مكة تشعر بالضآلة، بسبب المباني الضخمة والبنايات المرتفعة.
التقت مواطن مع الدكتور علي عبد الرؤوف المهندس والمصمم المعماري صاحب كتاب من مكة إلى لاس فيجاس، والذي اهتم بشكل خاص في نقد التطور العمراني في مكة المكرمة إبان الفترة الأخيرة. كان سؤالنا الرئيسي الموجه له، هل ترى بالفعل أن الكعبة أصبحت هامشًا بالنسبة للنسيج العمراني الجديد في مكة؟
كل علاقتنا بالمكان علاقة بصرية، حاليًا تذهب إلى مكة تشعر بالضآلة، بسبب المباني الضخمة والبنايات المرتفعة. في آخر مرة زرت فيها مكة، عندما نظرت إلى الكعبة لم أجدها مع أنها موجودة، إلا أني لم أجدها، بسبب تعملق البنايات حول الكعبة، التي حولتها إلى مكون هامشي في المشهدية البصرية للمحيط المقدس كله.
يعلق عبد الرؤوف على وجهة النظر القائلة بأن تلك المنشآت المعمارية أقيمت لخدمة الحجاج والمعتمرين، بقوله :”تبدو النظرة المناقضة لنظرتنا النقدية لما يحدث في مكة، هو إراحة الحجاج، في الحقيقة أنا مهتم جدًا بتلك القضية لأنها لها علاقة بفلسفة الحج، حيث إن المعنى العميق للحج هو مشقة الحج ومعاناة الحج، إذًا يجب أن تتحقق تلك الفلسفة ليست بمعناها الصعب والقديم، وإنما بمعناها الطبيعي غير المرفه، جزء من فلسفة الحج هي أننا يجب أن نشعر في ساحة الكعبة أننا واحد دون أي تفرقة بين أي شخص، لكن الآن نحن نرى أن هناك من يسكن في فندق فخم داخل نطاق المسجد ويصلي كأنه داخل المسجد بنفس الأجر كما يصرح المفتي نفسه”.
يستكمل حديثه عن طبيعة النمط المعماري والعمراني الذي يجب مراعاته في مدن ذات طبيعة دينية مميزة بقوله: “حالة مثل حالة الفاتيكان هي نموذج يحترم ويقدر النسيج العمراني المقدس فيها، لم تبن الحكومة الإيطالية أي مباني ضخمة هناك في هذا النسيج أو أبراج أو فنادق حيث يوجد سياق مقدس؛ حيث من أول ما تبدأ في الشارع المؤدي إلى الفاتيكان أنت منغمس في تجربة روحانية؛ حيث قبة كنيسة سان بيتر هي المسيطرة على خط السماء”.
على جانب آخر، يؤكد الدكتور عبد الله بن جنيدب المصمم الرئيسي للتوسعة الثالثة بالمسجد الحرام، وأستاذ التخطيط العمراني في حديثه مع مواطن أن المعيار الرئيسي لعمران مكة المكرمة كمدينة كبيرة هو الكعبة المشرفة التي تقع في منتصف المدينة كعنصر رئيسي فيها، وأن انتشار هذا التراكم المعماري والعمراني كثف فكرة بصرية مشوشة لتلك الفكرة. لا تحتاج مكة المكرمة سوى نسيجها العمراني الطبيعي التي نشأت عليه دون تعديل؛ فهو أفضل نسيج للحجاج والمعتمرين. يرى كذلك أن هناك توجهًا الآن لإعادة تأهيل هذا التخطيط العمراني مرة أخرى.
يتحدث عبد الله بن جنيدب عن إمكانية فعل هذا من خلال تحديد مسارات وتهيئة الشوارع للمشي، حتى يتمكن الإنسان أو الزائر لمكة السير في المدينة والانسجام فيها دون أي يواجه تلك التكتلات المعمارية الضخمة؛ حيث يواجه مثلًا المتوجه من العزيزية أحد أهم أحياء مكة إلى الجهة الأخرى صعوبة في الوصول، أو المرور عبر المسجد الحرام. يتنافى هذا مع الفكرة الرئيسية التي قام عليها النسيج العمراني في مكة بشكل طبيعي.
الحاج عبد البر، مصري الجنسية، منظم رحلات حج وعمرة منذ أربعين سنة، في حديثه مع مواطن عن التغيرات التي يشهدها في مكة عامًا بعد عام يقول: “تختلف زيارتي لمكة والمدينة كل عام، الأمور تتغير كل سنة عن الأخرى، أذكر في إحدى السنوات التي انتشرت فيها الهواتف ذات الكاميرات أن أحد رجال الأمن أخذ هاتفي حيث كنت أصور داخل المسجد النبوي وألقاه على الأرض، لأن تلك المناسك المقدسة لا يجب أن تنتهك بكاميرا هاتف، اختلف الأمر الآن؛ فالكاميرات الرسمية للتلفزيون السعودي متواجدة في كل مكان، هذا النموذج البسيط أكبر دليل على تغيير العقلية التي تتعامل مع المسجد النبوي والمسجد الحرام”.
يعلق الحاج عبد البر بقوله: “في الحقيقة لا أشعر بارتياح مع تواجد كل تلك المباني الضخمة حولي في مكة، أشعر أنها تكسر على المشاعر النفسية التي تتعلق بالمسجد والكعبة، أجد صعوبة كذلك في التنقل أحيانا بسبب عمليات الإنشاء المستمرة والضخمة في مكة”.
نسيج طبيعي!
راعت القبائل التي سكنت مكة منذ القدم هذا المفهوم وطبقته بأريحية؛ حيث إن السائر إلى مكة منذ أول وادٍ فيها ينجذب نحو مركز المدينة بقوة، بدأ العمران في مكة المكرمة انطلاقًا من نقطة “الكعبة”؛ فهي أساس ونواة التطور العمراني للمدينة ونموها، ارتباطها بالبيت العتيق والجامع والعبادة والطواف واجتماع الناس في الشعر والحج، ثم انطلقت الشوارع والحارات من منطلق تلك النقطة الرئيسية في قلب المدينة. هذا المفهوم خلق للناس جميعًا كمسلمين مفهوم مركزية مكة المكرمة في العالم الإسلامي كله، كدلالة روحية ودلالة مادية كذلك أيضًا.
وضع قصي بن كلاب، جدّ النبي محمد، نظامًا عمرانيًا لمكة المكرمة، جعل من الكعبة فيه العنصر المعماري الأهم والرئيس والمشكل لهذا العمران، وهو أن خط للكعبة ساحة، وهي تلك المساحة الفارغة التي لا زالت قائمة حتى الآن -المطاف-، ولم يبوبها أو يسورها، ثم أتاح للناس أن يبنوا بيوتهم دون ذلك، واشترط عليهم ألا يرفعوها عن الكعبة لتظل مشرفة عليهم، وجعل بين كل دارين من دورهم مسالك يفضون منها إلى ساحة الكعبة.
في كتابه “رحلتي إلى مكة” يتحدث جول جرفيه كورتيلمون عن هذا المفهوم دون افتعال، زار كورتيلمون مكة أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث كانت لا تزال محافظة على نسيجها العمراني الذي ورثته على مدار عصورها الطويلة: ” فجأة عند مفترق طريق، دخلنا إلى المدينة المقدسة، لا شيء يجعلك تتوقع مدى قربها، فهي تختبئ بين جبلين قريبين جدًا من بعضها، وعندما تجتاز الشارع الأول تعرف أنك قد وصلت، ولا يوجد منظر شامل للمكان، تتعاقب الشوارع وكلها متشابهة، حتى تصل إلى الجامع الكبير المستقر في أخفض مكان في المدينة مختبئًا عن الأنظار، وكأنه بيضة وسط عش”.
سار عمران مكة بتطوراته الضخمة والمتعددة في كل العصور التي تلت دخول الإسلام حتى مع أكثرها تعقيدًا كالعصر العثماني على هذا النسق الملتزم جدًا بالعرف والسلطة كذلك، أن تكون الكعبة هي العنصر المعماري الرئيسي والأهم في هذا النسيج المتراكم. يمكننا أن نتبين هذا بشكل واضح ورئيسي عبر الصور الفوتوغرافية الأولى التي التقطت للكعبة المشرفة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ حيث تسيطر الكعبة على الصورة كعنصر معماري طاغٍ رئيسي، دونه كل البنايات والعمائر.
هل يمكن تدارك هذا الخلل العمراني؟
بقدرة المملكة السعودية المالية تستطيع أن تغير هذا الوضع القائم وإعادة هيكلته مرة أخرى، ليكون أكثر إنسانية من خلال تفكيك تلك التكتلات المعمارية الضخمة حول المسجد الحرام، وإتاحة الفرصة للفراغات العامة والمباني متوسطة الحجم أكثر. تعمل المملكة حاليًا على مشروع أنسنة المدينة المنورة، وهو مشروع ضخم يهدف إلى إنشاء شوارع وطرق تخدم في الأساس فكرة المشي داخل أحياء المدينة؛ حيث وضعت مسارًا من المسجد النبوي حتى مسجد قباء، وهو ما ينسجم مع تاريخ المكان ويجعل الزائر له أكثر اختلاطًا وانسجامًا به. هذا ما تحتاجه مكة تمامًا من تهيئة الشوارع والمحطات فيها لخدمة هذا الأمر.
في النهاية؛ لم يكن في تأسيس كل تلك المباني التي طرأت على مكة خلال ثلاثة عقود أخيرة فقط وعي بطبيعة المكان وظروفه، كانتا المصلحة الاقتصادية والنفع المادي الهدف في تصدير صورة معينة لمكة وحواريها. لذلك ظهرت المدينة المقدسة بهذا الشكل الغريب عن تاريخها ونمطها المعماري المعهود. كل ما تحتاجه المدينة ببساطة شديدة جدًا وبدون فلسفة معقدة، هو أن تكون مكة التي تعرف نفسها حتى لا تتيه وسط غابة كثيفة من البنايات المرتفعة والمحلات الفارهة؛ ساعتها ربما يشعر الحاج والمعتمر الذي أتى من شتى بقاع الأرض بألفة نحو المدينة التي يتخيلها في منامه، ونصب عينيه في طريق سفر طويل، وليست كحال مدن العالم الحديث بدون هوية معينة أو روح مميزة، ساعتها أيضًا سيتمكن الحاج من السير في شوارعها دون شعور بتعب من أرصفة مرتفعة أو أسوار عالية أو طريق مزعج.
التعليقات 1