تتبع المملكة العربية السعودية منذ بداية عام 2023 سياسة جديدة تتمحور حول “تصفير المشكلات”، وتهدئة أجواء التوتر في المنطقة من خلال تقريب وجهات النظر في عدد من الملفات الشائكة، كان على رأسها التقارب مع إيران برعاية صينية بعد سنوات من القطيعة، عقب اقتحام القنصلية السعودية في مدينة مشهد الإيرانية عام 2016.
وفي الملف السوداني تتولى المملكة الوساطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وعقدت عدة جلسات تفاوض بين وفدي الجيش والدعم السريع أدت إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار.
فما الذي دفع الرياض إلى التوجه نحو تصفية المشاكل في هذا التوقيت، وما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها؟
يرى المحلل السياسي محمد اليمني، أن “سياسة المملكة تغيرت تمامًا في الفترة الأخيرة، وتشهد حالة لتصفير المشاكل، وكانت بدايتها التطبيع الذي حصل مع إيران، وعودة العلاقات مرة أخرى بعد سنوات من القطيعة”.
وأضاف اليمني، لـ”مواطن“، أن عودة سوريا للجامعة العربية أتت بعد جهد كبير بذلته الدبلوماسية السعودية لإقناع الدول العربية التي اعترضت على عودتها مرة أخرى، وقبلها تجاوز الخلاف الذي استمر عدة سنوات مع قطر بعد قمة العلا التي شهدت الصلح بين قطر ودول الخليج.
التقارب السعودي الإيراني
في مارس الماضي، اتفقت السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، كما اتفق البلدان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني، وإجراء محادثات بشأن تعزيز العلاقات الثنائية.
ويعمل البلدان على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة في عام 2001، التي تم توقيعها بين الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، ونايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي الأسبق، وتنص على التعاون في مجال التدريب الأمني وتبادل الخبرات والمعلومات، وتسهيل تنقل المواطنين في البلدين، ومنع الهجرة غير الشرعية، وفرض ضوابط الحدود والمياه الإقليمية، والتعاون في مجال الإنقاذ البحري والتسلل غير المشروع، والتنسيق والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب والمخدرات وغسيل الأموال، والتعاون في مراقبة الحدود والمياه الإقليمية بين البلدين لمنع التهريب والإخلال الأمني.
تجربة السعودية وإيران نحو تصفير مشكلاتهما وتغيير الاتجاه نحو خدمة مصالحهم القومية والاقتصادية، سوف ينعكس بلا شك على كل دول المنطقة
علي الخشيبان Tweet
وقد صرّح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: “إن إعادة تفعيل العلاقات الدبلوماسية ليس موجهًا ضد أي دولة، والاتفاق بين إيران والسعودية يخدم مصالح البلدين، ويصب في صالح دول المنطقة”.
وفي شهر أبريل الماضي، قامت السعودية بإعادة فتح سفارتها مرة أخرى، بعد 7 سنوات من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، وكانت العلاقات قد انقطعت عام 2016 بعد أن تعرضت المقار الدبلوماسية السعودية في إيران لعمليات تخريب، احتجاجًا على إعدام رجل الدين السعودي الشيعي نمر النمر.
يرى الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد، أن “الكثيرين -وعن حق-، يشكّكون في جدية الجانب الإيراني الذي سبقَ وتصالح مع السعودية نفسها 2001، وسرعانَ ما انتكست المصالحة، لأنَّها قامت على «حسن النية». أمَّا هذا الاتفاق فإن ما يميّزه عما سبقه هو الوسيط؛ الصين؛ حين دعا الرئيس الصيني بنفسه السعوديةَ وإيران إلى بكين”.
وأضاف الراشد، في مقال بصحيفة “الشرق الأوسط”، أن “الحقيقة بخلاف ما كتبه البعض متسائلًا: “من أقنعَ طهران بالقبول، كانت المهمة الصعبة هي إقناع الرياض؛ فقد سبق وكرَّرت إيران علانيةً منذ نوفمبر الماضي دعوةَ السعودية للتصالح، وإعادة العلاقات، وأن يزور مسؤولوها السعودية، جرت خمس جولات من التباحث بوساطة عراقية وعمانية، ولم تفلح في تحقيق التقدم”.
أما الدكتور علي الخشيبان، المستشار والباحث بمركز البحوث والتواصل المعرفي، فيرى أن “السعودية هي فعليًا قائد في الشرق الأوسط ولديها القدرة على توجيه سياسات المنطقة بحكم مكانتها العربية والإسلامية والاقتصادية، ولذلك فإن تجربة السعودية وإيران نحو تصفير مشكلاتهما وتغيير الاتجاه نحو خدمة مصالحهم القومية والاقتصادية، سوف ينعكس بلا شك على كل دول المنطقة، ومن الطبيعي أن تنخرط دول أخرى في المنطقة نحو مسار تصفير مشكلاتها السياسية والدخول في علاقات تقارب مع الدول التي تختلف معها”.
وأضاف الخشيبان، لـ “مواطن“: أن “نموذج التقارب السعودي الإيراني يمكن تقييمه كأهم نموذج للتقارب السياسي حدث في منطقة الشرق الأوسط خلال القرن الحادي والعشرين، ومن الطبيعي أن يساهم هذا النموذج في بناء توجه تقوده السعودية من أجل منطقة شرق أوسطية خالية من الأزمات، وتتجه نحو بناء اقتصادات حديثة تنعكس على المنطقة وشعوبها”.
اختراقات سعودية كبرى
التقارب مع إيران حرك المياه الراكدة في الملف اليمني؛ فلأول مرة منذ نشوب الحرب في اليمن، ذهب وفد سعودي إلى صنعاء التي تخضع لسيطرة الحوثيين، للتفاوض على الوصول إلى اتفاق شامل يؤدي إلى وقف إطلاق النار بشكل دائم.
ونتج عن هذا التقارب تبادل 887 أسيرًا ومحتجزًا، بينهم 706 أسرى من الحوثيين، و181 أسيرًا من التحالف الحكومي، بموجب اتفاق رعته الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر بين الطرفين.
وفي سوريا كان ثاني اختراق مرتبط بتقارب السعودية مع إيران؛ حيث لعبت الدبلوماسية السعودية دورًا كبيرًا في عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ثم توجيه الدعوة إلى الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية في جدة.
منذ اندلاع الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقفت السعودية محايدة بين الطرفين، وقد مكنها موقفها الوسطي من استضافة مفاوضات السلام في مدينة جدة بشراكة مع الولايات المتحدة
بدأت الخطة السعودية لإعادة سوريا بزيارة هامة أجراها وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق، في منتصف أبريل الماضي، وهي أول زيارة رسمية لمسؤول سعودي كبير إلى سوريا منذ 2011، التقى فيها الرئيس بشار الأسد، وسبق هذه الزيارة بأسبوع استقبال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في الرياض.
تلاها إعلان وزارة الخارجية السعودية في مايو، استئناف عمل بعثتها الدبلوماسية في سوريا، آخذة في الاعتبار القرار الصادر عن اجتماع وزراء خارجية الدول العربية بعودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية. ثم توجيه الدعوة للرئيس السوري بشار الأسد رسميًا للمشاركة في القمة العربية القادمة في جدة.
الوساطة السعودية في السودان
ومنذ اندلاع الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقفت السعودية محايدة بين الطرفين، وقد مكنها موقفها الوسطي من استضافة مفاوضات السلام في مدينة جدة الساحلية بشراكة مع الولايات المتحدة، وقد نتج عن هذه المفاوضات الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يتم خرقه بشكل متكرر، ولكنه أسهم في تخفيف حدة القتال بشكل كبير.
كما وجّه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، بتقديم مساعدات إنسانية متنوعة بقيمة 100 مليون دولار، وتنظيم حملة شعبية عبر منصة “ساهم” لتخفيف آثار الأوضاع التي يمر بها الشعب السوداني حاليا.
دوافع سياسة "صفر مشاكل"
تعمل الرياض على تعزيز علاقات المملكة بالمجتمع الدولي وفق رؤية 2030، لتقوية المصالح المشتركة، وتحقيق التوازن المرجو في العلاقات الخارجية وبنائها على قاعدة من الشراكات الاقتصادية الوثيقة المعززة للعلاقات، والمحققة للتكامل والاستدامة.
المحلل السياسي محمد اليمني، يقول إن “التوجهات السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان أصبح لديها تطلعات جديدة، تتركز حول أن التنمية والتعاون بين دول المنطقة والاستقرار هما حجر الزاوية في هذه التوجهات.
وكشف أن هذه الرؤية الجديدة تأتي في إطار تهيئة الأوضاع لتنفيذ المشاريع الخاصة برؤية السعودية 2030 في “نيوم” وغيرها، والتي تم إنفاق عشرات المليارات عليها، من أجل الوصول إلى شرق أوسط جديد يرتكز على التنمية وليس الصراع.
تسعى إيران لإسقاط النظام السعودي، ولن تتوقف عن محاولات اختراق السعودية
محمود الطاهر Tweet
ويتفق معه الخشيبان، الذي يرى أن “التقارب السعودي الإيراني مهم جدًصا للبلدين؛ خاصة أنهما كانتا في خلاف طويل لمدة تجاوزت أربعة عقود، ومن المؤكد أن عودة العلاقات بينهما الآن ستساهم في مسح كل النتائج السلبية التي خلفتها تلك القطيعة، كما أن التقارب بينهما سوف يساهم في جعل البلدين يركزان على التنمية والاستفادة من بعضهما فيما يخص التطور والتنمية.
ويضيف أن: “السعودية لديها مشروعات اقتصادية محلية وإقليمية، ويهمها أن تساهم المنطقة مع السعودية في تعزيز مكانة المنطقة اقتصاديًا عبر التطوير والنمو الاقتصادي، وإيران في كل الأحوال هي جار ملاصق للسعودية، وبينهما فرص كبرى للتطور الاقتصادي والتنمية بعيدًا عن الصراع والتنافس الجيوستراتيجي وحتى الأيديولوجي.
ويتابع “لهذه الأسباب وغيرها كثير، يمكن القول إن أهم قرار استراتيجي اتخذه البلدان، هو قطع الطريق على كل الأهداف التي كانت تسعى إلى شيطنة المنطقة من خلال تنافس الجيران، بينما يمكنهما التعاون وتحقيق الأهداف التنموية الكبرى”.
هل تصدق نوايا إيران في التهدئة؟
لكن المحلل السياسي اليمني، محمود الطاهر، يعتقد أن التوجهات الجديدة للدبلوماسية السعودية ربما تأتي بآثار عكسية على المملكة، وعلى ما يبدو أنها تحاول النأي بنفسها بعيدًا عن مشاكل المنطقة.
وأضاف الطاهر، لـ”مواطن“، أن إيران لن تتوقف عن إثارة الأزمات في المنطقة؛ فلديها هدف معلن حول تصدير ما تسميه الثورة الإسلامية للبلاد العربية -مصطلح ظهر بعد نجاح الثورة الخمينية في إيران عام 1979، ويعني حدوث ثورات في البلاد العربية تجعلها موالية لولاية الفقيه في طهران. – وتابع: “السعودية ربما تفتح على نفسها مشاكل كبيرة بهذه الخطوة، لأن تطبيع العلاقات مع إيران يساعدها في التغلغل مجتمعيًا، ونشر أفكارها الهدامة للمساعدة في إسقاط الدول، كما حدث في اليمن ولبنان وسوريا اللاتي تسيطر عليها، وكان يجب على المملكة الاستمرار في سياسة الخطوط الحمراء التي وضعتها أمام إيران لوقف تغلغلها في البلاد العربية من جهة، والداخل السعودي من جهة أخرى”.
ويرى الطاهر أن توجه السعودية نحو تهدئة الأوضاع في الإقليم هو أمر جيد، لكن عليها إدراك مخاطر هذه الخطوة، لأن إيران تسعى لإسقاط النظام السعودي، ولن تتوقف عن محاولات اختراق السعودية، وكذلك مهادنة الحوثيين هو خطر على المملكة على المدى الطويل.
خلاصة
تسعى السعودية إلى تهدئة الأجواء في المنطقة من أجل تحقيق رؤية 2030 بكل تطلعاتها الاقتصادية التي تسعى إليها لتغيير وجه المملكة، لكن هذا التحول المنشود لا يمكن تحقيقه في ظل أوضاع إقليمية متوترة، أو صراع بين القوى الإقليمية، وقوبلت المساعي السعودية بترحيب عربي وعالمي كبير؛ خاصة التقارب مع إيران ثم مع الحوثيين في اليمن، كذلك عودة سوريا للجامعة العربية ومحاولات التهدئة في السودان، لكن هناك مخاوف من تعرض هذه المحاولات لانتكاسة جديدة كما حدث في المرات السابقة، وأن تظل إيران على مواقفها السابقة بمواصلة التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.