يعود للسطح مجددًا فيديو أعتقد أنه قديم بعض الشيئ، لسيدة كويتية تحكي من خلاله تجربتها مع بائع مصري؛ حيث إنها ردًا على البائع الذي أخبرها -حسب روايتها-، أن الحساب هو “ستة جنيه وأربعين قرشًا”، قالت له بصوت حازم ولكن متهدج “لو تكرمت، 640 فلسًا، أنت في الكويت.” تحول هذا التسجيل إلى مقطع تيك توك، وتعلقت الجملة في أفواه من يرون المفارقة والسذاجة والسخافة والخطورة كلها متجمعة في الموقف، وهو الموقف الذي، رغم ذلك، يتبناه الكثيرون في أحداث حيواتهم اليومية تعبيرًا عن سخطهم للوجود الأجنبي في الكويت، وتأكيدًا على وطنيتهم التي بها يصدون هذا الوجود المزاحم لهم في موطنهم.
ولقد ارتفعت نسبة العنف مؤخرًا في الكويت تجاه الأجانب، وهو عنف مضمر مكبوت؛ في تصوري؛ في أنحاء أخرى من منطقة الخليج العربي، إلا أن القليل من الحرية والديموقراطية والأريحية الشعبية في الكويت، جعلت الصوت فيها أعلى والظواهر، السلبية كما الإيجابية؛ فيها أوضح؛ حيث يستطيع الشعب التعبير عن مكنونات لا يستطيعها الشعوب المجاورة وبأساليب لا ينتهجها جيرانهم، ليس فقط لشمولية الأنظمة السياسية في هذه الدول، ولكن كذلك لقوة تطبيق القوانين فيها، والتي منها قوانين تحمي الزائرين والمقيمين وتحفظ لهم وجودهم من غضبات وعنصريات أهل البلد، والتي هي لابد أن تكون موجودة بين كل شعب وفي كل مجتمع.
إلا أن المشكلة قائمة في منطقة الخليج ككل، وهي تحتاج إلى معالجة فورية؛ ليس فقط من خلال تطبيقات قانونية صارمة، ولكن من خلال برامج مجتمعية تأهيلية تعيد بناء العلاقة السلوكية والنفسية بين أهل البلد ومقيميها في الكويت، كمثال أوضح لا حصرًا، ارتفعت نسبة البغض بين الكويتيين وضيوفهم بشكل ملحوظ؛ مما رفع، تباعًا نسبة العنف والتعدي اللفظي وأحيانًا الجسدي على الأخيرين، ومن ثم كرد فعل على الكويتيين أنفسهم من قبل مقيميهم الذين يستشعرون وبالتالي يتفاعلون سلوكيًا مع مشاعر اللفظ والعزل الآخذة في التفشي.
لمشاعر البغض والنفور المتفشية؛ هذه أسباب عدة؛ منها مثلًا ضعف الخدمات الحكومية التي لم تواكب الارتفاع الكبير في عدد سكان الكويت إبان الأربعين سنة الماضية، انتقالًا بها من اثنين ونصف مليون إلى خمسة مليون نسمة، وذلك دون أن يتزامن هذا الارتفاع مع تطوير وتكثيف الخدمات المقدمة؛ مما أشعر المواطنين بالمُزاحَمَة والتضييق عليهم في بلدهم، ضعف المستوى الاجتماعي والتعليمي للعدد الأكبر المستجلب من العمالة، وذلك إما بسبب إهمال الرقابة الحكومية، أو توفيرًا منها للتكاليف المفترضة للعمالة الأعلى خبرة وحرفية وتعليمًا؛ حيث يأتي معظم العاملين من القرى النائية أو المناطق الفقيرة، مما يخلق فجوة كبيرة بين المواطنين وضيوفهم من حيث الطبائع والممارسات، ويؤثر سلبًا على جودة الخدمات المقدمة، وتأخير أو قطع الأجور عن العمالة، مما يدفع بها لمحاولة جمع المال بالأساليب غير المستحبة وغير المشروعة ومنع الالتحاق بعائل لهذه العمالة مما يرفع نسب الضغوط النفسية والمعاناة والحرمان، مؤديًا للمزيد من الإشكاليات السلوكية التي تظهر على سطح التعامل اليومي.
"لو كان حبي للوطن عنصرية؛ فأنا أفتخر أنني عنصري"، هكذا يكررها الساذجون معتقدين أنهم صاغوا جملة فلسفية عميقة؛ في حين أنهم في الحقيقة إنما يعبرون عن الغباء الكامن في كل فكرة عنصرية، وفي كل طريقة للتعبير عنها.
وأخيرًا، وليس آخرًا؛ فالسبب الأكثر أهمية وتأثيرًا في رأيي هو ارتفاع نسب العنصرية عالميًا؛ خصوصًا على إثر السلوكيات السياسية والحوارية الفجة لإدارة ترامب، والتي أثرت على العالم كله مستثيرة أسوأ ما فيه، ومشجعة لأسوء أنماط سياسية ليبدأوا أسلوبًا جديدًا من التصريح “المفاخر” بالعنصرية والكراهية ونبذ الآخر دون حرج أو حتى خوف على مستقبلهم السياسي. هذا المؤثر الأخير تحديدًا انعكس واضحًا على المجتمع الكويتي، وعلى أداء بعض نائبات ونواب مجلس الأمة فيه، حتى باتت جملة “الوافدين كلونا” التي أطلقت سهمها السام إحدى النائبات، شعارًا للغاضبين ومتنفسًا لفظيًا “لذيذًا” بالنسبة لهم.
في ندوة شاركت فيها مع الأستاذ علوي مشهور، وهو باحث مميز ومتحدث مفوه في العلوم السياسية من سلطنة عمان، قال كلمة مهمة جدًا حول الموضوع مشيرًا إلى الخطورة الكبيرة لما أسماه “الوجود المؤقت للمقيمين في دول الخليج”، ومدى ضرر هذه المؤقتية ليس فقط على منظومة حقوق الإنسان فيها، ولكن كذلك على المواطن الإنسان بحد ذاته. أكد الأستاذ مشهور أن غياب الشعور بالأمان والاستقرار لدى المقيم سيخلق لديه هوية فاقدة لمكون من الدولة المضيفة ومن مجتمعها، أي أنه سيستشعر الانعزال عن هذا المجتمع، وبالتالي سيقاوم الانتماء إليه، ليسود النفور وعدم الاستقرار، واللذان بدورهما سيحدان من التنوع الهوياتي المهم جدًا للصحة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لأي مجتمع.
أشار “مشهور” لضرورة تغيير المفاهيم، وبالتالي قوانين الجنسية والإقامة السائدة في دول الخليج، وذلك من أجل خلق مجتمعات أكثر ترحيبًا واشتمالية، من خلال ترسيخ مشاعر الاستقرار والأمان لدى مقيمي الخليج، ومن أجل ضمان حقوقهم، وزرع جزء مهم وأصيل من هوية المجتمع المضيف في قلوبهم.
“لقد أصبحت الجنسية محددًا للهوية وللثقافة وللأصالة”. يقول الأستاذ مشهور استشكالًا؛ في إشارة إلى حقيقة أن الهوية والثقافة والأصالة كلها لها أبعاد وأعماق وجذور ومنابت أبعد وأقدم بمراحل من مفهوم الجنسية، وما تفرضه قوانينها. وعليه؛ فإن الهوية تتعدى -بكل تأكيد- الجنسية بمراحل، وهي تجبها وتتغلب عليها، ذلك أن الجنسية هي إجراء مدني، في حين أن الهوية هي حفر روحاني، ينقشه الزمن والعشرة والمشاركة في الأرض والمصير والتعايش لأيام وشهور وسنوات وإيمانيات ومبادئ ومُثل، تصنعها كل الأطراف الإنسانية الآخذة في صنع هذه الهوية.
العنصرية والكراهية والنفور من الآخر فقط لأنه "آخر"، هي كلها أمراض نفسية، يحسن بنا أن نتخلص منها قبل أن تتجذر في تركيباتنا النفسية والبيولوجية، متسربة لأجيال سيكون خراب نفسياتهم وحيواتهم وتعايشهم مع المجتمعات الأخرى على أيادينا.
نادرًا ما تطابق الهوية الجنسية؛ فهي غالبًا ما تتعداها وتزيد عليها فتأنسنها، وتجمع -رغمًا عنها وعن قوانينها- في ظلها أعدادًا هائلة من البشر، أكثر بكثير ممن تجمعهم جنسية أو بطاقة تعريفية. الجنسية لا تعرِّف الهوية، إنما الهوية هي التي تأخذ الجنسية كعامل رسمي من عوامل تعريف مساحتها الشاسعة التاريخية الممتدة.
“لو كان حبي للوطن عنصرية؛ فأنا أفتخر أنني عنصري”، هكذا يكررها الساذجون معتقدين أنهم صاغوا جملة فلسفية عميقة؛ في حين أنهم في الحقيقة إنما يعبرون عن الغباء الكامن في كل فكرة عنصرية، وفي كل طريقة للتعبير عنها. لو كان حب الوطن عنصرية لما كان الشعور حبًا ولما كانت الأرض وطنًا، وأي شعور يوصف بالعنصرية هو شعور خبيث كامن قابل لأن يتسرطن عند أول عقبة أو مشكلة.
نحن بحاجة جادة وسريعة لمعالجة أوضاع المقيمين في منطقة الخليج وفي الكويت تحديدًا؛ ذلك أن النفور والبغض والغضب إذا وصلوا جميعًا حد إهانة بائع مسكين أخطأ في ذكر عملة البلد بعد أن أضناه البُعد، فاختلطت عليه الأماكن والأسماء، وذلك ضمن عدد كبير من الحوادث الآخذة في التكرار مؤخرًا في الكويت تحديدًا، وفي منطقة الخليج عمومًا؛ فهذا مؤشر على خطورة الوضع الاجتماعي المحلي، وضعف الحالة النفسية، وإشكالية المنظومة السلوكية الناتجة عنهما.
إذا كنا كأقليات مواطنية غير قادرين على التعايش مع الأغلبيات المقيمة في بلداننا، غير قابلين بهم وغير مرحبين بوجودهم، وغير محسنين العشرة والجوار؛ فالكارثة محققة، والأثر سيمتد عبر أزمنة وأجيال، منطلقًا من تلك الأزمة النفسية والأخلاقية التي نعايشها ونعيش بها.
العنصرية والكراهية والنفور من الآخر فقط لأنه “آخر”، هي كلها أمراض نفسية، يحسن بنا أن نتخلص منها قبل أن تتجذر في تركيباتنا النفسية والبيولوجية، متسربة لأجيال سيكون خراب نفسياتهم وحيواتهم وتعايشهم مع المجتمعات الأخرى على أيادينا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.