بعد عقود من اشتباك الخطاب الديني مع الفن بوصفه مُحرّمًا، انتقلت الرقابة من المشهد الاجتماعي، والحياة الفنية إلى اللغة والعقل الجمعي؛ حيث صار مفهوم الفن يستحضِر في الذهن التوبة كشبح، مُنهيًا بذلك مسيرة العديد من الفنانين.
في جوٍ من التتويج الديني، يُمنح الفنان «التائب» رتب دينية متقدمة مع أول أيامه خارج الوسط الفني؛ فبعد الاعتزال المؤقت للمطرب فضل شاكر، صار أنصاره ينادونه «بالشيخ»، على حين شوهد الفنان أدهم نابلسي في اليوم التالي لإعلانه التوبة وهو يؤمّ صلاة الجماعة في أحد المساجد. إلا أن “شاكر” نفسه سيعود بعد مدة غير طويلة إلى الغناء. وهكذا نرى أن كل شيء قابلٌ للتفاوض. وبقدر ما يظهر الصراع على المستوى الشخصي، كذلك يكون ظهوره على المستوى الاجتماعي برفض القيم السائدة في المجتمع والعودة إلى الفن.
لا يختفي صراع الشيخ والفنان حتى في مسيرة الشاب خالد، وهو الأكثر إخلاصًا للفن؛ فقدْ ردّدَ في أغنية وهران «وصيت أهلي على الناس، تركوا دينهم وتبعوا الكاس»، وفي الألبوم نفسه يغني «داتني السكرة» (لعبت الخمر برأسي)، وعاد لإحياء مقاطع منها في أغنية مشتركة مع الرابر الجزائري سولكينغ بعنوان “أميرة”، ولم يتوانَ سولكينج عن التوكيد في حوار له على يوتيوب بضرورة التوبة بالقول: «لا فن بعد الستين، نحن مسلمون».
يكشف هاجس التوبة مأزق العديد من الفنانين؛ إذ ينظر الفنان في العالم العربي، إلى فنه كفعل آثم، خطيئة، حالة مؤقتة؛ ما يستدعي أن يبرره بين الوقت والآخر؛ بأن يعزو اشتغاله في المجال الفني إلى الظروف المعيشية، أو يصمه بالضلال في حالِ اعتزالِه، والمفارقة أن أحدًا منهم لم يتخل عن الأموال التي جناها من الفن باعتبارها أموالاً «حرامًا».
التوبة في اليمن
في كتاب «طب النفوس»، يورد الباحث جان لا مبير، أن الأربعين هي سن التوبة في اليمن، لأن البعض يعيش أزمة حقيقية، وهذا ليس مقصورًا على الموسيقيين وحدهم؛ بل هي أزمة جوهرية لديهم، لأنها تتجسد في التخلي نهائيًا عن ممارسة الموسيقى. «وهكذا لعل المغني الكبير محمد خميسي توقف عن الغناء وعن الشراب في الوقت نفسه، وبالمثل بالنسبة لصالح العنتري قبل موته (سنة ١٩٦٥)؛ مكتفيا بأداء الأذان للصلاة؛ في المدينة التي ولد فيها، وحين دعي إلى صنعاء للاحتفال بذكرى الثورة اليمنية عاد للعزف على العود، وأقام حفلة عامة، وعاد للشراب ومات بُعيد ذلك بقليل».
أما في حالة الفنانات واعتزالهن فالإشكال أوسع، ولا يسع المقال تناوله؛ فهن يخضعن للرقابة الذاتية بسبب الموروث السائد، ومن جهة أخرى للموروث المفروض والمستمر برمزيه الاجتماعي والأسري، ويكفي أن نتذكر الحملة التي دفعت الفنانة اليمنية مايسة الكتف في ذروة صعود المد الديني وحركة الصحوة الإسلامية، إلى الاعتزال والتوبة.
الجدير بالذكر أن الإشكال حول الفنانين والفنانات في اليمن مشتركٌ إلى حد بعيد؛ خصوصًا وضعهم في التراتب الاجتماعي الذي يحيل الفنان إلى أدنى مراتبه في حالة الرجال والنساء على السواء؛ إذ إن «الغناء» مهنة ووصم لغير المستوعبين في النظام القبَلي، والذين يسمح لهم وضعهم الاجتماعي بذلك.
ورّطت مقولة «الفن رسالة» الفن في منطق الإصلاح سابقًا؛ حيث صار لزامًا على الفنان أن يبرر وجوده وعمله
هل الفن «أكل عيش»؟
مع كل جدل فني، تظهر حالة فصام تعكس ثقافتين غير متعايشة؛ ثقافة أن الفن لعب ولهو، وثقافة تنتصر للفن. وتظهر الكارثة الأخرى، التي لا يمكن الجزم أنها ناتجة عن التصور الديني المسبق للفن أم سببٌ له؛ بأن صار مفهوم الفن عند بعض الفنانين عبارة عن أكل عيش، وتبعًا لهذا، نجد أن الفن عند المستمع عبارة عن تسلية وليس منظومة ثقافية؛ حيث لا يعدو أن يكون خبر اعتزال فنان ما أكثر من خبر تأجيل مباراة في الدوري الإيطالي. والمفارقة أن الجمهور نفسه الذي يستمع ويطرب لفنانٍ ما، سيدعو له بالثبات على «الهداية» عند إعلان توبته، باعتبار أن الفن إثم، وسينتقل لسماع فنان آخر.
تَظهر نتائج تلك الصورة على المشهد الاجتماعي، كما على الحياة الفنية؛ فالفنان الذي لا يؤمن بما يقدمه لا يمكن أن يخدم الفن، وبالمحصلة يعمّق من التصور الديني في ذهن الجمهور بأن الفن في النهاية، ضلال وكفر بواح، كما يؤكد الخطاب الأصولي.
الفن من أجل الفن، أم الفن كرسالة؟
ورّطت مقولة «الفن رسالة» الفن في منطق الإصلاح سابقًا؛ حيث صار لزامًا على الفنان أن يبرر وجوده وعمله. والمفارقة هنا أن مفهوم الفن كرسالة ظهر في ظروف اجتماعية وفنية تغيب عن عصرنا؛ فالفن الذي من شأنه الارتقاء بالمجتمع لم يكن وليد موهبة فردية في الستينيات مثلًا؛ بل جيل امتلأ بالمواهب والقدرات، وبالتالي حققت الأعمال الفنية نجاحها وتأثيرها (أو رسالتها) لفنيتها وليس لأيدولوجيتها.
ومع توجيه الفن، يفرض الفن كرسالة وصاية مزدوجة؛ وصاية الجمهور الذي بمقدوره أن يحط من الفنان باعتراضات مثل «احنا مع الفن الهادف»، أو «احنا نحتفل بالفن الراقي مش الهابط»، لأن معايير الفن «الهادف» أساسًا غير واضحة ومحكومة بسياقات اجتماعية أكثر مما هي فنية؛ حيث تفقد أي رؤية فنية لا تتوائم مع طبيعة الفن الذي ينشده الجمهور والمجتمع شروط نجاحها؛ ما يجعل إنتاج الفنان عرضة لرقابة ذاتية؛ خصوصًا قبل أي شيء، بما أنه ملزم بقول «رسالة»، رسالة واضحة ومفهومة للجميع.
وعلى الضد من الاحتكام لوصاية الجمهور، أو قطاع منه، الذي بات نجومه – بوصفهم فنانين شعبيين – مؤشرًا على انحطاط الفن في نظر الفنانين الأقل نجوميةً وشهرة وبقية الجمهور، يمارس الفنان بدوره هو الآخر، وصاية أسوأ على الجمهور، تصطبغ بنوع من الأبوية، باعتبار أنه حامل «رسالة» في فنه؛ إذ تكتسب الرسالة نوعًا من الجمود والقدسية التي تتسم بها الرسائل الدينية والوعظية؛ فيتحول الإبداع إلى تلقين، ويصير الفن كرسالة المعادل الكارثي للفن المشروط بالحشمة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.