مرة أخرى تبدع السيناريست مريم نعوم في تصوير المجتمع الذكوري العربي؛ في مسلسلها الجديد (ليه لأ؟). هذه المرة تلقي الضوء على “الأم الذكورية”. شيري امرأة أربعينية مطلقة تربي ابنها على أنه مركز حياتها ومحورها، وتميّز بين الذكر والأنثى؛ فلا تعطي لابنتها نفس الاهتمام الذي تعطيه لابنها؛ بل يصل الأمر بها لتحفر اسمه بالوشم على كتفها غير آبهة بمشاعر الفتاة التي ترى نفسها غريبة عن والدتها وعن أخيها، بينما هي تسعى جاهدة لتشق حياتها بنفسها معتمدة على جهدها ومساعدة أصدقائها.
يكبر الابن “ياسين” بالأنا المتضخمة الناتجة عن دلال والدته التي، وللمفارقة، تظن بأن نتاج تربيتها شابًا قويًا واثقًا من نفسه يصلح لأن يكون السند لها في الحياة، لكن عاملاً آخر يؤثر في سير حياتها ويوجهها في اتجاه لم يكن في حسبانها؛ إذ تلتقي برجل في عمرها وتقرر أن تكمل حياتها معه؛ فيفقد ابنها عقله ويحاربها بالأسلحة التي أمدته بها بتربيها الخاطئة له، والمبنية على تضخيم الذكر وتحجيم نفسها وابنتها.
لا يستوعب الشاب رغبة والدته بأن يكون لها شريك حياة، ولا يعترف بحقها في الاختيار؛ فيتهمها في شرفها ويشهر في وجهها كل القيم الخاطئة التي ربته عليها، يحاول الانتقام منها بهجرها والسفر إلى والده في مدينة أخرى، ثم يبدأ بمقارنة حياة والده الذي تزوج بأخرى منذ سنوات وأسس عائلة ثانية بلا قيود ولا عواقب، بينما تحملت والدته وحدها مسؤوليته ومسؤولية أخته، تضحيات لم يرها في يوم من الأيام سوى واجبات عادية مفروضة على الأم التي يفترض منها أن تضع حياتها ورغباتها جانبًا وتربي أولادها؛ بينما الأب يبدأ صفحة جديدة بعد الطلاق بكل سهولة؛ بل إنه قد يفتح صفحة جديدة دون أن يقفل سابقتها، والمجتمع يشجعه ويدعم خياراته.
تربي المرأة الرجل على أن يكون عصاها القوية التي ترتكز عليها في كبرها، وتحاول إضعاف الفتاة حتى تكون مقبولة في مجتمع يكره المرأة القوية؛ بل وتذوب المرأة أحيانا وتهمش نفسها لمصلحة ابنها؛ فتربط اسمها به، لتصبح أم فلان حتى يُنسى اسمها تماما، لكنها لا تدرك أن الفتاة قد تكون سندها الحقيقي، وأن بإضعافها قد تضعف نفسها، وأن عصا الذكورية التي ظنت أنها ترتكز عليها قد تهشمها وتصبح أول ضحاياها، وأن عليها أن تربي الذكر والأنثى على المساواة والعدالة والثقة بالنفس، حتى لا ترى نفسها يومًا ما في مواجهة وحش ينهشها ساهمت هي في تكوينه.
العلاقة القوية بين الأم والابن الذكر لا تقتصر على الدول العربية؛ بل كانت دائمًا مصدر بحث لعلماء النفس الذين مال بعضهم للاقتناع بأن العلاقة بين الابن وأبيه تأخذ طابع التنافسية، وقد تصل إلى الكراهية كما ذهب سيجموند فرويد في نظريته حول عقدة أوديب؛ فالذكر يميل لأمه لأنها من جنس آخر مغاير لجنسه، ويشعر باتجاهها بأحاسيس ومشاعر بعيدة عن التنافسية والرغبة بالتفوق.
في البلدان العربية تأخذ علاقة الأم بابنها منحى آخر؛ فالأم تقوى بالذكر وتضعف بالأنثى، والأم التي لا تنجب ذكرًا تعيش في دوامة من انعدام الأمان، سببها القوانين التمييزية والنظرة المجتمعية، وتخطط الأم للاستفادة من قوة العلاقة بابنها مستقبليًا، علاقة تبدأ بتدليله وتفضيله على الإناث في الطفولة، وتنتهي برغبة الأم في استغلال هذه العلاقة عندما يكبر ابنها؛ فهي تظن أنها بعلاقتها القوية معه تستطيع أن تمارس سلطة حرمت منها في شبابها، مدعومة بالشرع الذي يوصي بالأم ويقدرها؛ فالمرأة لا تصبح قوية إلا عندما يكبر أبناؤها الذكور؛ فهي الأم الواجب عليهم طاعتها، وبعض الأمهات تحاول استغلال هذه السلطة وتحاول السيطرة على حياة أبنائها والتدخل فيها؛ فتتحول إلى أم سامة متسلطة، ولسان حالها يقول “أعطيتك حياتي ويجب أن تعطيني حياتك”. وهذه معضلة تسبب الكثير من المشاكل للمتزوجين، وتثقل حياتهم بالكثير من التدخلات التي قد تؤدي لهدم البيوت وتشتيت الأطفال.
الكثير من الأمهات المتسلطات كن طفلات وزوجات مقموعات، تظن الواحدة منهن أن الفرصة أتتها لتمارس دورها في التسلط بعد عمر من القمع؛ إلا أن الحال اليوم قد تغير، والأم لم تعد تملك الكلمة على زوجة ابنها التي تعلمت وعملت وأصبحت تساهم في مصروف البيت وتمتلك خيارات شتى، تحجيم سلطة الأم على بيت ابنها لا تتلقفه كل الأمهات بسهولة؛ فنجد الكثيرات وقد أصبن بخيبة أمل وندم بسبب رفع سقف التوقعات من أبنائهن الذكور، وبعض الأمهات تصاب بالاكتئاب بسبب ما يصفنه بإهمال أبنائهن لهن بعد عمر من التضحيات.
الكثير من الأمهات المتسلطات كن طفلات وزوجات مقموعات، تظن الواحدة منهن أن الفرصة أتتها لتمارس دورها في التسلط بعد عمر من القمع
المرأة الناضجة الحكيمة اليوم تدرك اختلاف الحياة والظروف، وتساهم في وقف دائرة قمع المرأة من بيتها؛ فلا تميز بين الذكر والأنثى، وإن كانت القوانين تمييزية لم تتغير بعد؛ بل وتربي أبناءها وبناتها على المساواة، وتسعى لتقوية البنت والولد؛ فالحياة لا تُعرف مآلاتها، وبالتوازي مع اهتمامها بأبنائها تهتم بنفسها وتعيش حياتها ما استطاعت إليها سبيلاً؛ فعلى قدر التضحيات تكون التوقعات، ومن الظلم أن تحمل الأم أبناءها مستقبليًا ما لا يستطيعون حمله من واجبات في زمن صعب مليء بالتحديات.
لا يمكن أن نغفل دور التعليم والمناهج التعليمية في تغيير الصورة النمطية للبنت والولد في المنزل، لم يعد بالإمكان السكوت على خطاب “باسم يلعب” و “رباب تكنس”، الذي يسيطر على مناهجنا التعليمية ويؤسس لعلاقة غير متكافئة بين الذكر والأنثى، ربط الأعمال المنزلية بالإناث كان له أثر سيء في تشويه العلاقة؛ فهو من جهة يعفي الذكر من خدمة نفسه، ويقلل من قيمة الأنثى ويربط وجودها بخدمة الذكر، ثم وبعد كل هذا نفاجأ من الأنا المتضخمة التي يحملها الذكر من الطفولة، والعلاقة الفوقية مع الأنثى التي تستمر وتتطور إلى العنف في حال رفضت الأنثى الانصياع التام .
أما دور الإعلام فلا يقل أهمية عن دور التعليم؛ فتسليط الضوء على علاقات متكافئة ناجحة وعلى التربية السليمة في المسلسلات والأفلام والبرامج يؤسس لمستقبل أكثر عدالة، وتبيان سوء التمييز في التربية على أساس الجنس يوقظ الأمهات على حقائق قاسية، كما فعل مسلسل “ليه لا؟ “، الذي طرح تساؤلات مهمة في زمن تغيرت فيه الظروف واختلفت الأدوار، أدوار تحتاج لنساء قويات لمواجهة الحياة، قوة لا تأتي إلا بتربية سليمة وقراءة في أسس التربية الحديثة التي تنتج رجالاً ونساء أسوياء.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
تحليل رائع لموضوع نعيش فيه منذ سنين.
اتفق مع ما جاء طالما لا يمس الدين والعقيده.
وأنا كاب ولي إبنه أطبق المساواه اليوميه الطبيعيه بين البنت واخواتها البنين وقد أميزها عنهم في كثير من الأحيان..
تحياتي وتقديري لكم والتحليل الراقي..
🌷🌷🌷🌷