يظنُّ صديقي المتطرّف أن الفضيلة تسكن بيتَه وحده، وتأبى زيارة ما عدا بيته من بيوت، وأن كل مَن يسكن خارج بيته الصغير ذاك، فاجرٌ وداعرٌ وكافرٌ وجاهل. “البيتُ” هنا هو “العقل”، و”سكّانُ” هذا البيت هي “الأفكار” التي تجولُ في أرجائه وترفضُ استقبال ضيوف جدد، ولو كانوا أفضل وأرقى وأطيب وأكثر تحضّرًا منه سكان البيت الأصليين.
والتطرف هنا لا يخصُّ عقيدة دون أخرى؛ إنما هو مرضٌ عضالٌ مميتٌ قد يضرب أيَّ عضو من أعضاء الجسد الإنساني الكبير، فنجده في كل دين وملّة ومذهب وطائفة ونظرية اجتماعية وسياسية وأدبية وفنية؛ ففي كل نِحلة ومِلّة وطائفة وعقيدة، تجدُ أن كثيرًا من أعضائها يؤمنون الإيمان كلّه بأن الجنّة قد فُصِّلت على مقاسهم دون غيرهم، ولهذا فالجنة صغيرة منذورة لعدد قليل من البشر، بينما الجحيمُ شاسعٌ مترامي الأطراف، لأنه منذور لبلايين البشر الذين هم خارج فرقته “الناجية من النار”!
صديقي المتطرف مأسورٌ بـ “المظهر”، وبعيدٌ كلَّ البعد عن “الجوهر”، مُقولبٌ مُعلّبٌ دوجمائيٌّ صلبٌ صلدٌ، وجاهزُ التحضير، صديقي المتطرفُ كريمٌ في توزيع النعوت القاسية والأوصاف السابّة اللاعنة على مَن حوله؛ فبكل سهولة ويسر يرمي الناس باللعنات ثم يرفعُ عينيه إلى السماء باسمًا وهو موقن أنه قد أرضى اللهَ تعالى برمي الناس بما يظنّه فيهم؛ فهذا ملحدٌ وهذا مرتدٌ وهذا كافرٌ وهذا داعر وتلك عاهرة.
إن كان صديقي المتطرفُ مسلمًا، تراه يسبُّ ويهين أبناء العقائد الأخرى. ولكي يفعل هذا؛ يشطب من ذاكرته قواعدَ إسلامية وآياتٍ بيّنات مثل: “لكم دينكم ولي دين”، “ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك”، “لا يكون المؤمن لعّانًا”، “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ثم يبدأ في اللعن والسباب والخوض في الأعراض.
وإن كان صديقي المتطرفُ مسيحيًا، سوف يُحرّم الملكوت على غير المسيحيين، وحتى على المسيحيين من غير طائفته، ناسيًا أن السيد المسيح عليه السلام قد قال: “لي خِرافٌ في حظائرَ أخرى”؛ فالمتطرفُ من كلّ عقيدة “سطحيٌّ” لا يعرفُ من عقيدته إلا “القشور”، يكره التعمّق والتثقف والنظرة الشمولية للأمور.
صديقي المتطرف يكره القراءة ويبغضُ المعرفة، لا يُميز بين السماوي والوضعي. أحاول أن أقنعه أن كل الرسالات والفلسفات هي سعيٌ نبيل من الإنسان لمعرفة الخالق العظيم، ولهذا علينا احترام جميع المعتقدات، لكنه يرفضُ أن يسمع. أحاول أن أقنعه أن جميع الرسالات الروحية تحثُّ على العدل ومكارم الأخلاق، لكنه “مُبرمجٌ” على أن الفضيلة لا تسكن إلا بيته وحده! فتعالوا نتأمل معًا إلامَ تدعو الفلسفاتُ الأخرى.
تدعو الزرادشتية إلى الإيمان بإله واحد متعالٍ، هو “الخالق” الذي لا يُعزَى إليه شكلٌ أو لون أو مظهر، أحدٌ صمدٌ، لا تحيط به العقول، ولا يحدُّه مكان، العادلُ، الغفورُ، الرحيمُ، الواحدُ، الأحد. ويقول زرادشت في تعاليمه إن الاعتقاد بالخالق لا يتمُّ إلا بـ”العقل الصالح”، والخلاصَ يأتي بتطوير أنبل منازع الإنسان، ويحذّرُ أتباعَه من “روح الشر”، وأكبر الشرور في زمانه تتمثل في مَيل العامة إلى عبادة المظهر دون الجوهر.
وتقول البوذيةُ إن السعادةَ لا تتمُّ إلا بالتخلص من الأنانية حتى نصلَ إلى حالة “نيرڤانا”؛ أي الصفاء الروحيّ، ومن أجل ذلك يتحتمُ على الإنسان إتّباعُ السُّبل النبيلة الأربع: ’التفكيرُ السليم‘ الخالي من كل نزعة هوى، ’الفعلُ السليم‘ يسلكه الإنسانُ لأجل حياة مستقيمة تتكئُ على العلم والحق، ’الكلامُ السليم‘ بقول الصدق دون زور أو كذب، ’العيشُ السليم‘ القائمُ على هجر الملذّات الرخيصة.
قضيتنا هي المواطَنة، لا العقيدة؛ فالعقيدةُ شأنُ الله وحده، أما المواطَنة فشأني وشأنك وشأنُ كل مواطن.
والنيرڤانا هي حالة التيقظ أو الاستنارة التي تُخمد نيرانَ الدوافع المسببة للآلام: الشهوةُ، الحقدُ، الجهلُ. وهي بدايةُ طريق الخلاص. وتتلخص قواعدُ البوذية في الكفّ عن آثام خمسة: القتلُ، أخذُ ما ليس لك، الكلامُ السيء، السلوكاتُ الحِسيّة المُشينة، تعاطي المخدّرات. وباتباع تلك التعاليم يمكن القضاءُ على شرور الإنسان الثلاثة: الشهوانية، الحقد، الوهم.
وفي الحضارة الفرعونية الجميلة، التي صنعها أجدادُنا المصريون المثقفون، ورد في كتاب “العبور إلى النهار”، الشهير بـ”كتاب الموتى”، أن شرط الانتقال إلى أبدية العالم الآخر، هو إقرار المتوفى بعدة اعترافات سلبية تؤكد أنه: لم يكذب، لم يسرق، لم يقتل، لم يتسبب في دموع إنسان، لم يلوِّث النهرَ المقدس. ويشهد على صدق اعترافه ميزانٌ يوضع في إحدى كفتيه قلبُ الميت، الذي يمثّل ضميرَه، وفي الأخرى توضع ريشةُ “ماعت” التي تمثل الحقَّ والعدلَ والجمال.
ويقول المسيحيُّ في صلاته: “اغفرْ لنا ذنوبنا كما نغفرُ نحن أيضًا للمذنبين إلينا، ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجِّنا من الشرير.” ويقول كتابُه: “أحبّوا أعداءكم، بارِكوا مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم.” وفي القداسات يدعون لكل البشر قائلين: “نُصلّي من أجل إخواننا أصحاب الديانات الأخرى، ليحيوا عمقَ إيمانهم، حسبَ قصد الله، نصلّي من أجل كل مَن يمارس العنف باسم الدين، ليكتشفَ غِنى وعظمة حب الله”.
الأديان والفلسفات كافةً تتوجه نحو هدف واحد؛ الجمال. وتنادي بمبدأ واحد؛ هو "الجوهر"، أما "المظهر/الصورة"، فشأن المتطرفين.
وفي ثقافتنا الإسلامية يقول الإمام علي بن أبي طالب: “احصدِ الشرَّ من صدر غيرك، باقتلاعه من صدرك”. ولما سُئل دالاي لاما، زعيم التِبِت الروحي، عن أفضل العقائد قال: “هي تلك التي تجعلك: أكثرَ رحمةً، أكثرَ حساسيةً، أكثرَ محبةً، أكثر إنسانيةً، أكثر مسؤوليةً، أكثرَ جمالًا، العقيدةُ التي تفعل معك كل هذا تكون هي الأفضل”.
وهكذا يا صديقي المتطرف العزيز، ها أنت ترى أن الأديان والفلسفات كافةً تتوجه نحو هدف واحد؛ الجمال. وتنادي بمبدأ واحد؛ هو “الجوهر”، أما “المظهر/الصورة”، فشأن المتطرفين السطحيين، ولكلّ إنسان أن يختار، بملء إرادته، الطريق التي يسلكها للوصول إلى هذا الجمال، الذي هو الله.
قضيتنا يا صديقي المتطرف هي المواطَنة، لا العقيدة؛ فالعقيدةُ شأنُ الله وحده، أما المواطَنة فشأني وشأنك وشأنُ كل مواطن. وأذكّرك بجَد الرسول عليه الصلاة والسلام، “عبد المطلب بن عبد مناف”، حين ذهب لاسترداد إبله من أبرهة الأشرم هادم الكعبة، الذي قال له: “حسبتُك أتيتَ تتشفع للكعبة”. فردّ “عبد المطلب”: “أنا ربُّ الإبل، أما البيتُ فله ربٌّ يحميه”؛ فاللهُ قادرٌ على حماية دينه، ليس هذا شأني أو شأنك؛ شأننا هو الوطن.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.