انتشر في الأسابيع الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يظهر شابًا وفتاة في وضع رومانسي بأحد شوارع عاصمة عربية، مشهد لا يشكل أي أذى للمارة، مجرد عناق عفوي لا يُثير غريزة جنسية، ولا يزعج الناس في شيء، لكن الموقف لم يمر بسهولة بعد أن قامت إحدى السيدات بتصويرهما دون علمهما ونشر الفيديو عبر الفضاء الإلكتروني، بهدف فضحهما وردع الآخرين. تباينت ردود الأفعال في مواقع التواصل الاجتماعي حول واقعة التصوير، بين مستهجن ومؤيد لفعلة السيدة.
بعدها، نشر واحد من أهم مطربي الوطن العربي في الستين من عمره، صورة له يقبل فيها صديقة تصغره بقرابة الثلاثين عامًا، الصورة التي أثارت ضجة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فاستهجن البعض فارق السن بينهما، بينما أعجب البعض الآخر بذوق المطرب، ولم يجرؤ أحد على المطالبة بعقابه أو ردعه، ولم يُعدّ الأمر فضيحة تستوجب الاستهجان.
فما الدافع وراء قيام السيدة تصوير شاب وفتاة في وضع رومانسي؟ ونشره على السوشيال ميديا بهدف “فضحهما”، والسكوت عن نفس السلوك الرومانسي لنجم كبير ومشهور؟
يتحدث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “سيكولوجية الإنسان المقهور“، عن عقدة النقص عند الإنسان المقهور، تقترن هذه العقدة بعقدة أخرى؛ هي تتمة طبيعية لعقدة النقص؛ فالأنسان المقهور يخجل من ذاته ويعيش كعار وجودي يصعب احتماله؛ فالستر أهم هواجسه، وهاجس الفضيحة يسيطر عليه، والفضيحة من نقص الشرف بالذات، لهذا نجده حساسًا جدًا لمظهره الخارجي، ويعيش صراع بين حياته الحميمة ومظاهره الخارجية، كما يعاني من جدلية دائمة بين ما يخفى وما يُعلن، لهذا نجده يعيش في تهديد دائم بفقدان توازنه وتعري حياته الحميمية؛ فيجتر مأساتها بصمت وألم كما يوضح الدكتور حجازي، ولهذا نجد أن همه الأول الاحتفاظ بالستر في نظر الآخرين وتعليقاتهم.
لكن لماذا يميل المقهور لفضح أمثاله من المقهورين؟ ولماذا صورت السيدة فيديو لجلسة لا علاقة لها بها ونشرتها لفضح صاحبيها؟ يوضح الدكتور حجازي أن تراكم الحقد الداخلي عند الإنسان المقهور لا بد له من تصريف، هذا الحقد وسيلة لإعادة شيء من الاعتبار للذات، بالنسبة للرجل فهو يجد في المرأة والطفل متنفسًا يعوضه عن ذاته المكسورة، ولهذا ترتفع نسب العنف ضد المرأة والطفل في المجتمعات المقهورة، أما المرأة فغالبًا ما يرتد هذا الحقد لداخلها بما يعرف بمازوشية المرأة؛ كراهية تنتشر من داخلها إلى المحيط على شكل حسد وحقد، وهذا تمامًا ما رأيناه عند السيدة التي قامت بتصوير الشاب والفتاة ونشرت الفيديو.
هناك أيضًا حالة من الاستشراف (ادعاء الشرف) تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، يبالغ صاحبها في ادعاء الفضيلة وجلد المخالف، غالبًا كنوع من الحقد، وقد تكون أسبابه الرغبة في الهجوم قبل الدفاع؛ فعندما تظهر التزمت في أمر ما تبعد عنك الشبهات، وتسور حولك جدارًا من العفة تحميك من الشكوك مستقبليًا، كل ذلك من آثار الحياة في مجتمعات مقهورة، تنشغل بجلد ذاتها على كل كبيرة وصغيرة، وتنسى أن الشرف الحقيقي يدنس كل يوم في معركة الحصول على الخبز.
لا ينظر المقهور للثري كندّ له، ولا يُسقط عليه أحكامه، والكثير من العادات الاجتماعية يستثنى منها الأغنياء وأصحاب النفوذ
الاستشراف نوع من أنواع النفاق الذي ينتشر في المجتمعات المقهورة؛ فالكثير ممن يحملون راية الحفاظ على الأخلاق قد يرسبون في أول امتحان، ويبرر د. مصطفى حجازي شيوع الكذب والنفاق والأقنعة عند الإنسان المقهور بأنه نوع من الانتقام من المتسلط، والكذب والنفاق يتصل اتصالا وثيقًا بالخوف، عندما يشيع الخوف ينتشر الكذب، وفي مجتمعات الخوف من السلطة والفضيحة يعيش النفاق مجده، وهذا طبيعي بالنسبة لمجتمع يخاف فيه الفرد من الإفصاح عن مكنوناته ورغباته، وخصوصًا المرأة التي يضعها المجتمع في قالب من المثالية، ويفرض عليها إخفاء مشاعرها ورغباتها؛ فتظهر أحرص الناس على الأخلاق، وتُنصب نفسها شرطيةً على المجتمع تجلد كل من تسول له نفسه الابتعاد عن العرف السائد.
أما الأغنياء فهم لا يخضعون لنفس المعادلة، وليس لديهم هاجس الفضيحة، ولا تنطبق عليهم شروط المجتمع نفسه؛ فالمقهور لا ينظر للثري كندّ له، ولا يُسقط عليه أحكامه، والكثير من العادات الاجتماعية يستثنى منها الأغنياء وأصحاب النفوذ، وقد عبرت سيمون دي بوفوار عن طبقية المجتمعات في حديثها عن الإجهاض الذي يدفع ثمن منعه الفقراء فقط؛ ففي الوقت الذي تسافر فيه الثرية بكل سهولة إلى الدول التي تسمح بالإجهاض؛ تخضع الفقيرة لوسائل خطيرة غير مشروعة، وتجد نفسها ميتة في الحالتين؛ إذا أجهضت قد تموت وإذا لم تفعل تُقتل بعارها.
يعاني الفقراء من هاجس الفضيحة، وفي الوقت الذي يعتبر الفقير الصورة كارثة قد تجلب له العار، يتفاخر الأغنياء بصورهم شبه العارية على الشواطئ والحفلات، حتى المعلق الذي يجلد صورة الفقير قد يعلق بإيجابية أو مدح لذوق الغني وصاحب النفوذ بينما الفعل واحد.
تحدث الكثير من الفلاسفة عما يعرف بمنظومة الأخلاق ومصادرها، يقول “ماركس” إن الأخلاق صنيعة الأقوياء للسيطرة على الفقراء. وعبر نيتشة عن فلسفة جدلية غريبة صنف فيها الأخلاق إلى نوعين تبعًا لمصادرها، وأن المعايير الأخلاقية تختلف باختلاف الناس وطبقاتهم؛ فهناك ما يسمى بـ “أخلاق السادة” و”أخلاق العبيد”، حسب نيتشة فإن أخلاق السادة هي أخلاق الأقوياء، الشجاعة والإقدام والجرأة والاعتماد على النفس، أما أخلاق العبيد فهي أخلاق الغالبية العاجزة التي تخدع نفسها بتمسكها بأمور لتبرير وجودها.
وبغض النظر عن رأي الفلاسفة الذي قد نختلف معهم في الطرح؛ فإن السوء لم يكن يومًا في الأخلاق؛ بينما في تعريف الأخلاق، العيب فيمن يعتقد أن التلصص على الناس وفضحهم من الأخلاق، بينما الأخلاق الحقيقية المتعارف عليها تدعو إلى حب المساعدة ونشر أسس التعامل والحوار، والاهتمام بكبار السن والأطفال والدعوة للمشاركة والمسؤولية الاجتماعية، والابتعاد عن التدخل في شؤون الناس الخاصة .
ظهرت لنا اليوم هذه الحقائق بشكل جلي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبحت توعية الإنسان المقهور بحقوقه أسهل من أي وقت مضى، توعية تتطلب حكمة وموضوعية يدرك بعدها المقهور أنه بجلد مقهورٍ غيره؛ إنما يجلد نفسه ويحط من قيمته، وأن السبيل له إلى الخلاص هو التركيز على عاره الحقيقي الذي يسلب منه إنسانيته في معاركه لأكل العيش والحصول على الكرامة.