في مجلس الأمة الكويتي؛ تلك المؤسسة العريقة والأولى من نوعها في العالم العربي، توجد لجنة قيم يحتلها نواب إسلاميون، يرون أن القيم تتمثل في محاربة “التشبه بالجنس الآخر”، وفي فصل الدراسة المشتركة في الجامعة، وبالتأكيد لاحقًا في كل المراحل الدراسية وفي كل أنواع مؤسساتها؛ خاصة أو حكومية، عليا أو مرحلية، طبقًا للمقترح المقدم من خمسة نواب أغلبهم أعضاء في هذه اللجنة، ولجنة القيم لا تتناول كثيرًا قضايا الفساد المالي، جريمة الواسطة (التي ربما يتورط بعض أعضاء اللجنة بحد ذاتهم بارتكابها)، ظواهر العنصرية والعنف والتعدي على حقوق العمالة المحرومين من رواتبهم على مدى أشهر، كقضايا مفصلية على الساحة الكويتية على سبيل المثال لا الحصر.
هم مأخوذون بموضوع التشبه، ومكلومون بالطلبة الجالسين جنبًا إلى جنب على المقاعد الدراسية في حضرة أساتذتهم. هذا هو الفساد المطلوب محاربته: فساد “شعبي” المفهوم، محاربته “كول”، والاختلاف معه فضيحة وجريمة؛ فمن يمكن أن يبرر “التشبه” رغم عدم وجود أي تعريف له أو رسم لظواهره؟ ومن يمكن أن يقاوم عملية إنهاء اختلاط الأولاد بالبنات، والتي تستثير غرائزهم وتحرضهم على ما لا يرضاه الدين والعادات والتقاليد بحسب فحوى بيانات العديد من النواب المعنيين؟ هذا هو الفساد المفيد، فساد عز الطلب: ترويجي للنواب، غير قابل للنقد أو النقض، سريع النتائج الإيجابية.
متى أصبحت قضايانا في الكويت في قبضة يد وهابية وسلفية وتطرفات شيعية، كذلك كلها باتت تهديدًا ووعيدًا وتخويفًا، تبت كأيديولوجيات عقائدية في القضايا الطبية والمفاهيم النفسية والمبادئ الحقوقية، والدراسات الجندرية والتوجهات التعليمية والأكاديمية؟
ولقد اجتمعت لجنة القيم في مجلس الأمة بالسادة مدير جامعة الكويت ووزير التربية وعميد كلية الحقوق دفعًا بالجميع لفصل الدراسة المشتركة في الجامعة، عن طريق فصل الشُعب المشتركة، لأن هذه الشُعَب “مخالفة لقانون منع الاختلاط” حسب قول النائب السلفي محمد هايف، والذي أكد أن السيدين وزير التربية ومدير الجامعة وعميد كلية الحقوق قد تعاونا لأبعد حد “وأخذا بالتوصية”، وأنهما وعدا بإلغاء الشُعب المختلطة وإعادة تسجيل الطلبة تنظيمًا لفصل الشُعب وإنهاء الاختلاط.
ولقد نشر مدير الجامعة الدكتور فايز الظفيري بيانًا يؤكد فيه أن الجامعة ملتزمة بفصل الدراسة في شُعبها الدراسية “إلا عند وجود حالات استثنائية فعلية تقتضي ذلك”، وهو التصريح الواقعي تمامًا، ذلك أن معظم الشُعب الدراسية منفصلة؛ حيث إن الفصل في الشُعب الدراسية هو الأصل والجمع هو الاستثناء. “تجويد” هؤلاء النواب على الواقع، ومحاولتهم خلق بطولة حيث لا داعيَ لها، أيقظ مارد الحرية والكرامة الذي اعتقدوا أنهم بمقترحهم واجتماعاتهم قد كتموا أنفاسه وهو نائم؛ فقد نظم طلبة كلية الحقوق وقفة احتجاجية أتبعتها جمعية طلبة كلية الحقوق برفع دعوى قضائية لوقف قرار إلغاء الشعب المشتركة الذي أصابهم هم تحديدًا بسهامه.
انقلب السحر على الساحر، وأتت المحاولة البطولية المفتعلة والاستعراض الزائف بنتائج سلبية للرجعيين، إيجابية للتقدميين حتى يوم كتابة هذا المقال؛ إذ إن الموقف حفز الطلبة للاعتصام والمقاضاة لإنهاء جدل فصل الدراسة، ولحل معضلة الشعب المنفصلة برمتها الآن والذيْن -أي الدراسة والشعب المنفصلتين- كانتا قائمتين ومفعلتين أصلًا، ولم تكونا بحاجة لمشهد درامي تمثيلي لتحقيقهما، واللتين كانتا لتستمرا فترة من الزمن لولا “الفذلكة” و”التجويد”، والبدء المبكر جدًا بالترويج الانتخابي.
قضية مثل "التشبه بالجنس الآخر"؛ هل يفترض أن يبت فيها شيخ دين؟ أم أن يقيمها ويحللها ويدرسها أطباء واختصاصيون نفسيون، وحقوقيون قادرون جميعًا على فهم الموضوع بحقيقته وعمقه، لا بمنظار القراءة الدينية والعاداتية التقليدية المحافظة؟
إلى يوم كتابة هذا المقال، وهو يوم يسبق بدء الدراسة بأربع وعشرين ساعة، لا يبدو أن أي تغيير قد وقع في الشعب الدراسية؛ إذ إنها تبدو على حالها المنفصلة وبقيت كذلك، والمشتركة بقيت كما هي، سوى في حالة كلية الحقوق التي تعاني حاليًا من فوضى وتأخير شديدين بسبب محاولتها تفعيل الفصل التام، كما أن نتائج التقاضي غير قابلة للتكهن.
حقيقة لا ندري أي اتجاه ستأخذ القضايا التي رفعها الطلبة، ولكن من يدري؟ فقد يحدث التغيير بين يوم وليلة؛ ففي الكويت تقفز القرارات في وجوهنا أحيانًا مثل حبات الذرة المحمصة؛ بلا سابق إنذار وبلا كثير من التمحيص. نواب القيم جادون في مسعاهم؛ بل إنهم بدؤوا بتوجيه تهديدات للدكتور مدير الجامعة ولبقية المسؤولين حول التراجع عن أي من قرارات فصل الدراسة المشتركة، وأن ذلك سيمثل “بداية عمل لك غير موفقة”، حسب تعبير النائب فايز الجمهور الموجه للدكتور عادل المانع وزير التربية والتعليم العالي؛ فعلى أي درب ستأخذنا الأقدار التي تبقى تمتحننا بنواب يجروننا من مصائبنا الكبيرة إلى مشاكلنا غير الموجودة أصلا؟ لسنا ندري.
المستغرب أن قضايانا في الكويت، منارة العلم والمعرفة والانفتاح، ما عادت تُحل بالدراسات والفهم والتحليل، إنما بتكسير العظم وبالصراعات السياسية المدمرة، وبالاتفاقات المشبوهة الخفية. قضية مثل التعليم، بفصله أو اشتراكه، هل يفترض أن يبت فيها نائب “بعلومه” السلفية؟ أم يفترض أن يتدارسها متخصصون أكاديميون منهجيون قادرون على إجراء دراسة علمية نفسية اجتماعية أكاديمية، هي وحدها التي يفترض أن يكون لها كلمة الفصل في الموضوع؟
قضية مثل “التشبه بالجنس الآخر”؛ هل يفترض أن يبت فيها شيخ دين؟ أم أن يقيمها ويحللها ويدرسها أطباء واختصاصيون نفسيون، وحقوقيون قادرون جميعًا على فهم الموضوع بحقيقته وعمقه، لا بمنظار القراءة الدينية والعاداتية التقليدية المحافظة؟ وبالتالي متمكنون من وضع حلول وإجراءات سليمة تحمي الجميع، وعلى رأسهم المعنيون “بالتهمة”؟
متى أصبحت قضايانا في الكويت في قبضة يد وهابية وسلفية وتطرفات شيعية، كذلك كلها باتت تهديدًا ووعيدًا وتخويفًا، تبت كأيديولوجيات عقائدية في القضايا الطبية والمفاهيم النفسية والمبادئ الحقوقية، والدراسات الجندرية والتوجهات التعليمية والأكاديمية؟ أي “علماء شاملون” بزغوا لنا بمعية لحية ومِسْبحة؟
لا، لن نختار بين سيئ وأسوأ، لن نختار بين ديموقراطية تعود بنا للخلف، أو تقدم لا يتحقق سوى بالديكتاتورية، نريد الاثنين: ديمقراطيةً وتقدمًا.
ينظر الكويتيون حولهم اليوم فيتشككون في ديمقراطيتهم لشدة ما أرتهم من ويلات، ثم يتذكرون أنهم استجلبوا الويلات على أنفسهم حين استخدموا الديمقراطية تصويتًا قبليًا أو عائليًا أو دينيًا متشددًا “درءً للذرائع”، ليصل بنا الحال إلى “هنا،” فيما بقية دول الخليج تقف بعيدة “هناك”، ثم يتذكر الكويتيون أن ديمقراطيتهم أنقذتهم مرات لا تعد ولا تحصى، وأنها أصوب لنظامهم السياسي وأحفظ لكرامتهم المدنية وأنسب لسلوكهم المتشارك في الحكم شعبًا ونظامًا، وهو الأسلوب الذي لا يستطيع الكويتيون التنفس خارج جوه.
تذكر الكويتيون أن الديمقراطية مثلما أنتجت محمد هايف؛ فقد أتت بالدكتورة جنان بوشهري والتي أعلنت تقدمها “بتعديل تشريعي يلغي قانون منع التعليم المشترك”، والتي أكدت كذلك أن “قانون المنع لا قيمة تشريعية له؛ فأحكام المحكمة الدستورية تسمو على القوانين”؛ في إشارة إلى حكم المحكمة الدستورية الذي صدر قبل سنوات، والذي أفرغ قانون منع الدراسة المشتركة من محتواه.
وهكذا، يحمد الكويتيون حظهم في الديموقراطية، ويذكرون أنفسهم أن نار الديموقراطية ولا جنة الشمولية، ويستمرون في المعركة. لربما هي معركة طالت وتكررت وساءت نتائجها، إلا أن هذه المشاكل تتطلب تعديل سلوكيات وتحسين ممارسة الديمقراطيات لا اليأس منها والتخلي عنها، وهذا ما سنستمر فيه.
لا، لن نختار بين سيئ وأسوأ، لن نختار بين ديموقراطية تعود بنا للخلف، أو تقدم لا يتحقق سوى بالديكتاتورية، نريد الاثنين: ديمقراطيةً وتقدمًا، وسبق أن حققنا ذلك، وليس ذلك على إرادتنا بكثير، والله المستعان.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.