منذ زمن يعانى قطاع غزة من كوارث بيئية كثيرة كما وأنها بازدياد مستمر لأسباب مختلفة؛ أبرزها العدوان والهجمات العسكرية المتكررة التي شنتها “إسرائيل” على القطاع في فترات زمنية متقاربة جدًا، ولا يتردد الاحتلال في هجماته عن استخدام أنواع من الأسلحة والقنابل “المحرمة دوليًا”، لاحتوائها على المعادن والغازات السامة والمسرطنة، ما يؤثر سلبًا على الكثير من القطاعات، بما فيها “البيئي والزراعي”.
ويمثل قطاع الزراعة نسبة 4.6% من إجمالي الناتج المحلي في غزة، كما يساهم بنسبة 15% من إجمالي الصادرات، وتبلغ نسبة العمالة الزراعية 13% من إجمالي العمالة الفلسطينية، طبقًا لهيئة تشجيع الاستثمار الفلسطيني التابعة لوزارة الاقتصاد الوطني. وترى هيئة الاستثمار أن للزراعة في قطاع غزة دورًا في حماية الأراضي الفلسطينية من المصادرة والاستيطان، إلى جانب الأدوار الغذائية والاقتصادية للقطاع.
ويقول لمواطن، المهندس محمد أبو عودة الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة: “يعتبر القطاع الزراعي هو عمود الاقتصاد بالنسبة لغزة، ويعد القطاع الزراعي والمزارعون هم المسؤولين عن تأمين الأمن الغذائي في غزة”. ويستطرد “فنحن لدينا حوالي 180 ألف دونم مساحات زراعية، حوالى 90 ألف دونم مساحة زراعية للفاكهة، وحوالى 60 ألف دونم مساحة خضروات، وحوالى 30 ألف دونم محاصيل حقلية، بالإضافة إلى ذلك عدد من مزارع البقر والدواجن وما إلى ذلك”.
ويضيف: “لدينا اكتفاء ذاتى يصل إلى نسبة 97% من محاصيل الخضروات؛ فالعجز يكمن فى الجزر والتومة، كما يتم تصدير كميات كبيرة من الخضروات إلى الخارج، وهناك محاصيل أخرى فى بعض المواسم يكون فيها اكتفاء، ومواسم أخرى يكون فيها عجز؛ حيث يتم تعويض ذلك من خلال التبادل التجارى مع الضفة الغربية”.
خسائر بيئية واقتصادية
تحكي لمواطن، المزارعة رغدة أبو سمرة، وهي أم لثلاثة أطفال: “خلال العدوان الإسرائيلي الأخير خسرنا بشكل كبير المحاصيل المزروعة، بسبب قلة الري بالمياه والمتابعة اليومية لها؛ فلم نكن قادرين على الوصول لأرضنا على الحدود الشمالية الشرقية لقطاع غزة، بالإضافة إلى أن المحاصيل الزراعية كانت بحاجة لرش المبيدات الحشرية حتى لا تموت”.
وتضيف: “تعتبر المزروعات الناتجة عن الأرض مصدر دخل أساسي لي ولعائلتي؛ حيث كنت أستعد لسداد الديون المتراكمة علينا بعد بيع المحصول، ولكن خسارتنا للمحاصيل الزراعية زادت علينا الديون”.
وتوضح “ماتت المحاصيل الزراعية في الأراضي بسبب قلة الري، وتكبدنا خسائر فادحة لعدم قدرتنا للاعتناء بأرضنا خلال العدوان الإسرائيلي؛ فأنا لا أملك وظيفة رسمية، وتعتبر الأرض مصدر دخلي الأساسي للمعيشة الحياتية، أحلامنا التي رسمناها من الإنتاج الوفير لسداد ديون التجار وأجور العمال ودفع الأقساط الجامعية لأبنائي، انهارت بلحظات بسيطة”.
ويذكر أن خسائر العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة بلغت 3.1 مليون دولار أمريكي، أعلنت عنها وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية لعام 2023، وتضررت الأراضي الزراعية وشبكات الري وقوارب الصيد، بالإضافة إلى أضرار في مساحات واسعة من الرقعة الزراعية ومزارع الخضروات والدواجن، التي تعرّضت للقصف.
وقيمة الأضرار الأولية التي لحقت في القطاع الزراعي خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بلغت 1,300275 دولار أمريكي عام 2023، وفقًا لوزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية.
ومنذ عام 2000 حتى الآن، خسر القطاع الزراعي مليار و100 ألف دولار؛ بينما التعويض لهذا القطاع لم يتجاوز 300 ألف دولار.
نجم عن هذا العدوان تلف العديد من الدونمات المزروعة بالخضار والأشجار، نتيجة الاستهداف المباشر لهذه الأراضي، أو نتيجة انقطاع مياه الري على المحاصيل الزراعية خلال فترة العدوان الإسرائيلي؛ حيث لم يتمكن المزارعون من الوصول إلى أراضيهم، حسب تصريحات إعلامية منسوبة لوزارة الزراعة في غزة.
وأوضح بيان الوزارة، أن الاستهداف المباشر للقطاع الزراعي من قبل طائرات ومدفعية الاحتلال خلّف أضرارًا بالغة في المنشآت الزراعية والآبار والخطوط الناقلة الرئيسة والفرعية والبرك الزراعية، ومخازن المعدات الزراعية والمبيدات ومزارع النحل.
وذكر أن استهداف الاحتلال للقطاع الزراعي، يؤدى الى ضعف وانعدام القدرة التسويقية في تلك الفترات للعديد من المنتجات الزراعية النباتية والحيوانية نتيجة تقييد الحركة وصعوبة الوصول للأراضي الزراعية، والمنشآت الحيوانية، وكذلك تعطل الأسواق، بالإضافة الى غياب الفرص التصديرية للعديد من المنتجات الزراعية والأسماك؛ ما يتسبب بانخفاض الأسعار بصورة حادة في العديد من المنتجات الزراعية مسببةً خسائر فادحة لدى المنتجين.
تراجع مساحة الأراضي الزراعية في غزة
وعزت الدراسة التي نُشرت في 22 أغسطس/ آب المنصرم هذا التراجع إلى إجراءات الاحتلال في المنطقة الحدودية العازلة، التي تحرم المزارعين من قرابة 17,000 دونم، وهي مساحات خصبة جدًا، إضافة إلى تسارع النمو السكاني والتمدد العمراني.
وفي السنوات الماضية، تضرر 35 ألف دونم من الأراضي الزراعية، نتيجة قصفها بالقذائف والصواريخ الإسرائيلية، حتى ارتفعت درجة حرارة الأرض بأكثر من 2000 درجة مئوية؛ ما أدى لقتل الأحياء والمواد العضوية في التربة، تبعًا لـ الدراسة المذكورة.
ومنذ عام 2000 حتى الآن، خسر القطاع الزراعي مليار و100 ألف دولار؛ بينما التعويض لهذا القطاع لم يتجاوز 300 ألف دولار.
أما فيما يخص تلوث الهواء في القطاع، أكد القائمون على الدراسة أن معدلات تلوث الهواء ارتفعت في الأعوام الماضية كثيرًا، لعدة أسباب منها، الحروب الإسرائيلية المتكررة، التي تؤدي إلى اشتعال الحرائق واندلاع ألسنة الدخان على مدار الساعة.
وزد على ذلك استخدم الاحتلال أسلحة كيميائية ومشعة، غازات سامة محرمة دوليًا ضد الغزيين، مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضب والعناصر المشعة، التي تزيد نسب تلوث الهواء. كما تقل جودة الهواء في المناطق التي تأوي مواقع إزالة الركامّ المهدم والكسارات؛ إذ يمتلئ الهواء بالجسيمات الصغيرة، وأحيانًا بمادة الرصاص.
وتعرّضت الدراسة لانعكاسات الحروب على واقع المياه في غزة، الذي يُواجه أساسًا عجزًا، ومعاناة هائلة تتمثل في تلوث 96.1% من إمدادات المياه في القطاع وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري.
وذكرت أن الاحتلال يقصف ويُدمر تدميرًا ممنهجًا العديد من المنشآت والمشاريع المائية الكبرى في القطاع؛ على سبيل المثال أدى عدوان 2014 لتعطيل حوالي 70% من مرافق المياه بغزة بعد قصف 36 منشأة صحية، منها محطات معالجة وآبار مياه، وشبكات صرف صحي.
وخلصت الدراسة إلى أن أكثر من ربع الأمراض المسجلة في القطاع تسبّبها المياه، عدا تلوث مياه البحر الذي يُهدد بتسرّب المياه الملوثة إلى الخزان الجوفي؛ خاصة بعد أن ارتفعت نسبة المياه غير الصالحة للشرب.
ويرى خبير البيئة والزراعة الفلسطيني، نزار عبد العزيز الوحيدي، مدير عام التخطيط والسياسات ومدير عام التربة والري ومدير عام الإرشاد الزراعي بوزارة الزراعة الفلسطينية السابق: “إن الاحتلال يستهدف الأراضي الزراعية في قطاع غزة لأكثر من غرض.
وأشار إلى أهمها، من تهديد الأمن الغذائي وإضعاف الاقتصاد الفلسطيني، والذي تشكل فيه الزراعة والمنتجات الزراعية ما قيمته 12% من إجمالي الناتج المحلي GDP، إخراج 25 % من الأراضي الزراعية من معادلة الإنتاج الزراعي، بالإضافة إلى إحالة 10-15 ألف مزارع من دائرة الإنتاج وتحويلهم إلى البطالة، تشريد وترحيل سكان المناطق المحاذية للسياج الفاصل، وتقييد الحركة في المنطقة المحاذية بغرض منع عناصر المقاومة”.
ويستكمل: “إن من بين أسباب الاستهداف المتعمد لقطاع الزراعة في غزة من قبل الاحتلال، قتل المزارعين وإصابتهم باستمرار بالرصاص وطردهم في مواعيد ضرورية لخدمة محاصيلهم، تلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية بالمبيدات التي يتم رشها من طائرات الاحتلال، بحجة إزالة الأعشاب التي تحجب المتسللين”.
ويضيف بأن من نتائج الحروب على الزراعة والأراضي الزراعية، بالإضافة إلى الاعتداءات اليومية على الأراضي الزراعية، ظهور حالات غير معروفة سابقًا مثل: الطفرات النباتية والحيوانية، والتسمم وموت الحيوانات البرية والرعوية، وولادة أجنة مشوهة وإجهاضات غير مسبوقة نهائيًا.”
من جانبه يعلق المهندس محمد أبو عودة قائلًا: : “الاحتلال له الدور الكبير في التدمير الممنهج للقطاع الزراعى؛ سواء بتجريف الأراضي الزراعية، أو استهداف المزارعين بإطلاق النار المباشر عليهم فى المناطق الحدودية، بالإضافة إلى التحكم فى المعابر واغلاقها في وجوه المزارعين، من خلال عمليات التصدير، وعدم إدخال بعض المواد التى تستخدم فى الزراعة بحجج واهية غير مقنعة”.
الزراعة، أداة مقاومة في وجه مخطط الاستيطان
يشير خبير البيئة والزراعة نزار الوحيدي إلى أن: “هناك تأثير ذو وجهين:الأول للعدوان الإسرائيلي المتكرر على الأراضي الزراعية على المدى القريب، وهو (هجرة المزارعين للأرض وازدياد معدلات البطالة، واختلال الأمن الغذائي). أما على المدى البعيد فهو (تغير أغراض استخدام الأراضي وتغيير الأنماط المحصولية الذي سيضر كثيرًا بالاقتصاد الفلسطيني).
ويضيف: “تزداد الحالات المرضية في سكان المناطق الزراعية (كأمراض السرطان لدرجة لافتة للانتباه، وولادة أطفال سياميين، بالإضافة إلى زيادة معدلات العقم لكلا الجنسين)”.
مع امتداد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، اتسعت مساحات المواجهة بعيدًا عن الآلة العسكرية للاحتلال، متوغلة في قطاعات البيئة والزراعة والأمن الغذائي وغيرها.
أما عن تأثير العدوان على خصوبة الأراضي الزراعية فيقول الوحيدي إنه يؤدي إلى: “فقد خصوبة التربة وتلوثها بالمواد المشعة والكيميائية من قنابل الدايم واليورانيوم المنضب؛ فقْد وضياع التربة نتيجة لسقوط الصواريخ الثقيلة من وزن ألف باوند وأكثر، دكّ التربة نتيجة مرور الآليات الثقيلة “الدبابات”، وتكون الطبقات الصماء تحت سطح التربة Hard Pans التي تعيق نمو النباتات من خلال منع انتشار جذورها وتجمع المياه التي تتسبب في تعفن هذه الجذور”
كما يؤدي العدوان على الأراضي الزراعية من قبل الاحتلال إلى قتل النشاط الحيوي للتربة، نتيجة الحرق ورش مواد كيميائية مجهولة من طائرات الاحتلال، وزيادة معدلات انجراف التربة بالرياح والمياه “السيول.
وفي ظل الاستهداف المستمر وأهمية قطاع الزراعة بالنسبة للحياة في غزة، كأهمية تدميره بالنسبة لمشاهير الاستيطان ومخططات الترحيل، يدعو الوحيدي إلى تفعيل النشاط الإعلامي، وتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي، ودعوة النشطاء والمهتمين بالبيئة الزراعة والمواطنين الفاعلين في مجالات الإعلام وفضح جرائم الاحتلال.
ويرى أن السبيل الأمثل لمعالجة آثار العدوان على الصعيد المحلي، لمقاومة مخطط الترحيل ومنع زراعة مناطق التماس يكون بزراعة الأراضي المهددة بالقصف باستمرار، ومهما كانت الظروف، بالإضافة إلى توجيه الدعم الحكومي والمحلي للاستثمار في القطاعات الزراعية.
فمع امتداد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، اتسعت مساحات المواجهة بعيدًا عن الآلة العسكرية للاحتلال، متوغلة في قطاعات البيئة والزراعة والأمن الغذائي وغيرها؛ ما يعمق من مأساة الحياة تحت آلة قمع الاحتلال الغاشمة.