في حال أجرى المرء مراجعة لتاريخ نظرته الشخصية لما يسمى “معايير جمال الجسد المثالي”، على مدار عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن، والتغيّرات التي طرأت على تلك النظرة، سيكتشف أن نظرته للجمال لم تكن -ربما- طوال تاريخ حياته حرةً من المعايير التي اكتسبها من نظرة المجتمع، الذي تربى وعاش فيه، ومفهومه حول الأجساد الطبيعية الجميلة، إلى جانب “تأثر” هذا المجتمع بالمقاييس والمعايير التي تحددها “شركات” الأزياء والألبسة، الخارجية والداخلية، لـ”لجسد المثالي”، من وجهة نظرها، وتهمش ما دونها.
خلف كل المعايير والمقاييس التي تحدد لما يجب أن يكون عليه حجم وشكل الجسد، هناك سلطة ما تصادر حق من يمتلك جسدًا خارج تلك المعايير والمقاييس، بأن تكون علاقته طبيعية مع جسده، وأن يُحِبَّ جسده دون أن يكون مجبرًا على تغييره لإرضاء المجتمع حوله.
يكفي أن نطرح بعض الأسئلة البسيطة، كي نكتشف حجم الإقصاء والعنصرية والتمييز وراء المعايير والمقاييس التي تتحكم في مفهومنا ونظرتنا إلى الجسد، مثلًا؛ لماذا قد يفضل بعض الرجال المرأة ذات البشرة البيضاء أكثر من السمراء أو العكس؟ ولماذا تكون المرأة التي تمتلك خصرًا نحيفًا وصدرًا ووركًا ممتلئين لافتة للنظر أكثر من غيرها؟ أو لماذا تحب بعض النساء رجالًا طوال القامة وذوي أكتافٍ عريضة وذقن متوسطة الطول ومحددة؟ والكثير من التفضيلات القائمة على صور للجسد كرّستها وسائل الإعلام وشركات الموضة والأزياء، أدَّت إلى الشعور بعدم الرضى الكامل عن شكل وحجم الأجساد عند كثيرين.
الشعور بالعار من امتلاك جسد مختلف عن "الجسد المعياري"
هناك تاريخ من التمييز وعدم التقدير والتهميش للكثير من الأجساد التي لا تتوافق مع معايير ومقاييس الجسد التي كرستها أنظمة سياسية واجتماعية اقتصادية، من خلال آلة “وسائل الإعلام” التي “تُراكم” ثروتها على حساب شعور أفراد المجتمع بالعار من أجسادهم الطبيعية، أو ما تسميه الكاتبة والناشطة النسوية الأمريكية سونيا رينيه تايلور “مجمع ربح عار الجسد العالمي Body-Shame Profit Complex في كتابها “الجسد ليس اعتذارًا … قوة حب الذات الراديكالي“، والذي صدر مؤخرًا باللغة العربية، عن دار “هنَّ” للنشر والتوزيع في القاهرة، ترجمة الدكتورة عائشة خليل عبد الكريم.
ترفض “سونيا” في كتابها فكرة أن يعيش المرء بصحبة شعور العار من جسده وعدم تقبله له؛ فقط لأنه مختلف عن المقاييس والمعايير السائدة في المجتمعات، على اختلاف ثقافتها ومفهومها عن الجسد “الطبيعي”؛ إذ ترى “سونيا” أن على المرأة أو الرجل، أن يحبوا أجسادهم على طبيعتها حبًا راديكاليًا، حتى لو كانت أجسادهم تعاني من إعاقة ما.
تروي سونيا حكاية العبارة التي عنونت بها كتابها “الجسد ليس اعتذارًا”، عندما التقت خلال أمسية شعرية في صيف عام 2010 بزميلة لها تدعى ناتاشا، وهي امرأة في أوائل الثلاثين من عمرها، حكت ناتاشا للكاتبة عن خوفها من أن تكون حاملًا من رجل أقامت معه علاقة عابرة، والقلق الذي يحاصرها حيال مستقبلها وعدم رغبتها في الإنجاب؛ خاصةً من ذلك الرجل تحديدًا، وحين سألت سونيا زميلتها “عن سبب اختيارها عدمَ استخدام الواقي الذكري مع هذا الشريك الجنسي العابر الذي لا تريد الإنجاب منه” فأجابتها: “إعاقتي تجعل الجنس صعبًا بالفعل، بالنسبة إلى الأوضاع والأشياء الأخرى، وهكذا لم أشعر أنه من المقبول الإصرار على استخدام الواقي الذكري”. عندها قالت سونيا لزميلها: “ناتاشا، جسدك ليس اعتذارًا؛ إنه ليس شيئًا تعطينه لشخص ما لتقولي له: آسفة على إعاقتي”.
خلف كل المعايير والمقاييس التي تحدد لما يجب أن يكون عليه حجم وشكل الجسد، هناك سلطة ما تصادر حق من يمتلك جسدًا خارج تلك المعايير والمقاييس، بأن تكون علاقته طبيعية مع جسده، وأن يُحِبَّ جسده دون أن يكون مجبرًا على تغييره لإرضاء المجتمع حوله.
انطلاقًا من عبارة ” الجسد ليس اعتذارًا”، تنتقد الكاتبة كل الأفكار التي رسخت في أذهاننا عن طريق أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وشوهت علاقة أشخاص كثيرين مع أجسادهم، وجعلتهم يرون أن أجسادهم غير طبيعية أو غير جميلة؛ فقط لأنها لا تتوافق مع “معايير” الجسد التي تروج تلك الأنظمة لها.
ترى سونيا أن تنوع الأجساد، ليس فقط في الحجم، ولكن في العرق والإثنية والجندر والتوجه الجنسي والقدرة البدنية؛ إذ تقول: “عندما نقترح أن جميع الأجسام متشابهة؛ فإننا نقترح أيضًا معيارًا لقياس التشابه، أسمي هذا “الجسد المعياري”. تختلف بعض جوانب الجسم المعياري عبر الثقافة والجغرافيا، لكنها تشكل أفكارنا حول ماهية الطبيعة وتؤثر على قيمنا الاجتماعية”.
لا يغيب عن سونيا تأثير النظام الرأسمالي في حكمنا على أجسادنا، من خلال “مجمع ربح عار الجسد (BSPC)؛ فـ”جميع قواعد أجسادنا مصنوعة”؛ إذ تشير لإحصائية نشرها موقع EMarketer.com، الذي يتتبع الإنفاق الإعلاني العالمي، بأنه في العام 2015، أنفقت صناعة الإعلان في جميع أنحاء العالم 513 مليار دولار لبيع المخللات والسجاد وفرامل السيارات والبيرة، ومكملات إنقاص الوزن، والكريمات المضادات للشيخوخة، ومبيضات البشرة وفيتامينات للعضلات، والجراحات التجميلية. وتوجه سونيا أسئلتها للقارئ بقولها: كيف غذّا عار الجسد نزعتك الاستهلاكية؟ ما الذي تشتريه “لتكون عاديًّا” أو “ملائمًا” أو “لإصلاح عيوبك”؟ وترى أن النقد الموجه للدعاية والإعلام هو في جوهره نقد للطبيعة الاستغلالية للرأسمالية والاستهلاك. كما تخبرنا بأن الأنظمة الاقتصادية تشكل الطريقة التي نرى بها أجسادنا وأجساد الآخرين، وهي في الحقيقة تخبرنا ما يتعين علينا القيام به وشراؤه بناءً على هذا التفكير.
معركة النساء في العالم العربي ضد "إرهاب الجسد"!
لا يمكن أن ننكر أشكال التمييز التي يتعرض لها النساء في العالم العربي، على أساس حجم الجسد ولون البشرة والعرق الذي تنتمي له، وعلاقتها المضطربة مع جسدها في حال لم يتوافق مع “الجسد المعياري”، وفقًا لمنظور المجتمع أو تأثرًا بالدعاية والإعلام لشركات الأزياء ومستحضرات التجميل والمنتجات الغذائية. وهذه وجهة نظر مترجمة الكتاب أيضًا، الدكتورة عائشة خليل عبد الكريم، التي قالت: “تنتمي المؤلفة للموجة النسوية الرابعة في أمريكا، وتنطلق هذه الموجة في كتاباتها من قاعدة التجارب الشخصية، وتسرد أفكارها بوضوح وبدون تعقيد؛ فما أن تنتهي القارئة (أو القارئ) من الكتاب إلا وقد فهمت المفهوم المطروح وتأثيراته المباشرة على حياتها، وهذه النوعية من الكتابات ضرورية جدًا لعالمنا العربي في الوقت الحالي”.
وأضافت في لقائها مع “مواطن“: “عند الحديث عن النسوية قد تبدو المفاهيم مجردة ولا تعني شيئًا بالنسبة لمجتمعاتنا العربية، ولذا يزيحها الكثيرون جانبًا بدون تفكير. ولكن عندما نربط المفاهيم بوقائع حياة الفتيات والسيدات، نبني جسورًا تربط بين النظرية والتطبيق تعبر عليها القارئات إلى النسوية”.
ترى “عبد الكريم” أن قراءة إنتاج النسوية العالمية مهم، لأن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين نساء العالم وتشابهًا في التحديات التي تواجهنّ، بالرغم من خصوصيات كل منطقة أو جماعة، والجسد –وهو موضوع هذا الكتاب– يقع في إطار المساحات المشتركة؛ فكل منا يسكن في جسد، وتتعرض الأجساد في كوكبنا إلى تجارب مماثلة من الاحتفاء بها أو التقليل من شأنها.
كما تتفق “عبد الكريم” مع تايلور بأن هناك أجسادًا نموذجية يحتفى بها، وأخرى خارج الإطار النموذجي تتعرض لإرهاب الجسد ويحتاج أصحابها إلى الاعتذار الدائم، لوجودهم في تلك الأجساد المختلفة (البدينة، أو المعاقة أو الداكنة أو غيرها)، وهي تجارب لا تختلف في جوهرها من منطقة جغرافية إلى أخرى كما توضح “عبد الكريم”، إذ إن هناك نماذج لأجساد أخرى في عالمنا العربي يمارس عليها أشكال أخرى من “إرهاب الجسد”؛ فمثلا؛ ماذا عن جسد فتاة غير محجبة في مجتمع محافظ؟ أو صاحبة شعر مجعد؟ يفتح لنا الكتاب الباب للحوار حول أجسادنا وعلاقة مجتمعاتنا به.
العنف الجسدي ضد الملونين والمثليين والمثليات
أولت الكاتبة اهتمامًا كبيرًا في كتابها للعنف الممنهج الذي تمارسه الأنظمة في العالم، وفي أمريكيا تحديدًا ضد السكان الأصليين (الهنود الأمريكيين) والملونين وأصحاب البشرة السوداء، والمثليين والمثليات ومزدوجي الميول الجنسية، ومغايري الهوية الجنسية، وضمنت نقدها لعنف الشرطة الأمريكية تحليلًا لموقع ProPublica المتخصص بالصحافة الاستقصائية بأن “الإحصائيات الفيدرالية الخاصة بتورط رجال الشرطة في إطلاق النار، وجدت أن الرجال السود البالغين من العمر بين الخامسة عشر والتاسعة عشر عامًا هم الأكثر عرضة للقتل على أيدي عناصر الشرطة بواقع 21 مرة عن الرجال البيض من نفس الفئة العمرية، وبحلول النصف الأول من عام 2017، تعقبت حملة حقوق الإنسان صعود أكثر من 115 تشريعًا لمناهضة مجتمع الميم-عين في جميع أنحاء الولايات المتحدة”.
يتقاطع العنف على أساس العنصرية والكراهية تجاه الأجساد الملونة والمختلفة، مع العنف الممارس ضد أجساد النساء تحديدًا في منطقتنا العربية، لا ينبع فقط من أفكار عنصرية، لكنه يرتبط أيضًا بالسلطة الأبوية والذكورية التي لا ترغب في إزاحة هيمنتها على جسد المرأة، انطلاقًا من موروثات ثقافية ودينية.
في لقائنا مع الكاتبة والناشطة النسوية التونسية ريم بن رجب قالت لـ”مواطن“: “فرضت علينا الرأسماليّة الأبويّة معايير مُحدّدة عن “الجسد المثالي”، ونحتاج كنسويّات في المنطقة إلى أن نبحث ونُفكّر في أجسادنا وفي أدائية أجسادنا وفي جغرافيّة أجسادنا الموصومة والمُقيّدة بمصطلحات ومفاهيم ثقافيّة ودينيّة وسياسيّة، تدور في فلك العار والشرف”.
وأضافت: “نحن لا نمتلك أجسادنا ونسعى إلى امتلاكها، بمعنى أننا نسعى إلى إعادة تفكيك كلّ الأساطير والمعايير السائدة والمقاربات الإقصائيّة والأفكار الموروثة، والصفات الجندريّة الجاهزة المُرتبطة بأجساد النّساء. لقد تحالفت الأنظمة السياسيّة مع الرأسماليّة والأبويّة لقمع النّساء، وأباحت انتهاك أجسادهنّ باسم “الشرف“، هذا المًصطلح الفضفاض والفاقد للمعنى”.
لا يمكن أن ننكر أشكال التمييز التي يتعرض لها النساء في العالم العربي، على أساس حجم الجسد ولون البشرة والعرق الذي تنتمي له، وعلاقتها المضطربة مع جسدها في حال لم يتوافق مع "الجسد المعياري"، وفقًا لمنظور المجتمع أو تأثرًا بالدعاية والإعلام لشركات الأزياء ومستحضرات التجميل والمنتجات الغذائية
يحضر في ذهن “بن رجب” خلال حديثها مع “مواطن” السنوات الأولى التي أعقبت الثورة التونسيّة (ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2011) حين نشرت المناضلة النسويّة أمينة السبوعي، التي كانت عضوة في حركة “فيمن” الليبيراليّة البيضاء، قبل أن تستقيل منها، صورة لجسدها العاري على مواقع التواصل الاجتماعي وكتبت عليه “جسدي ملكي وليس شرف أحد“. تعلق “بن رجب” على موقف السبوعي بقولها: “ما قامت به أمينة يُعدّ بمثابة مانيفستو للعصيان، بيان سياسي احتجاجي، فعل مُقاومة شُجاع؛ حيث أعادت النقاش حول أجساد النساء في منطقتنا، وفتحت المجال للتفكير في أشكال النضال النسوي التقليديّ.
ما قامت به صادم ويرجّ، حرّك المياه الراكدة وزعزع الثوابت”. وتضيف: “كنّا في تلك الفترة الحالكة في تاريخ تونس والتّي شهدت صعودًا صارخًا للإسلاميّين والسلفيّين بحاجة إلى فعل احتجاجيّ جذريّ يُربك ويُحطّم كلّ المسلّمات. تمّ تهديد أمينة بالقتل وتحوّلت حياتها إلى جحيم، ولكنّها ظلّت تُقاوم في المدّ الظلاميّ إلى أن سُجنت، وبعد إطلاق سراحها واصلت مسيرتها النضاليّة؛ حيث فتحت بيتها لاستقبال أفراد مُجتمع “الميم عين”، الذّين واللّواتي لفظهنّ المجتمع وتعرّضن للعنف والقهر. نساء أخريات كثيرات نعرفهنّ أو لا نعرفهنّ يُقاومن بطرقهنّ الخاصّة انتصارًا لأجسادهنّ، أجسادنا”.
وترى “بن رجب” أنه إلى جانب التفكير في أجسادنا داخل الفضاء العامّ والحميميّ، وعلاقتها بالسلطة السياسية والدينيّة، نحن في أمسّ الحاجة إلى التفكير في أجسادنا وفق عدسة نسويّة تقاطعيّة: أجسادنا العليلة والمريضة والمتقدّمة في السنّ والحاملة لإعاقة، والبدينة، والنحيفة والمُعدّلة والمُنفلتة والجامحة والملوّنة، وأجسادنا الكويريّة الخارجة عن الثنائيّة الجندريّة، مؤكدة على أهمية “النسويّة التقاطعيّة” التي تُمكّننا من فهم أثر بُنى القهر المختلفة على حيواتنا وعلى أجسادنا كنساء؛ حسب تعبيرها.
في ختام حديثها تقول “بن رجب”: “نحن لسنا كتلة واحدة نُشبه بعضنا البعض، سياقاتنا وظروفنا مختلفة، وإذا ما أردنا أن نوحّد أصواتنا فليكن شعارنا مثلما كتبت سونيا على الورق “أجسادنا ليست اعتذارًا” ومثلما كتبت أمينة على جسدها “أجسادنا ليست شرف أحد”.
مادة رائعة رائعة
Thank you for your sharing. I am worried that I lack creative ideas. It is your article that makes me full of hope. Thank you. But, I have a question, can you help me? https://accounts.binance.com/es-MX/register-person?ref=JHQQKNKN