امتاز المسرح السياسي في اليمن بوضع استثنائي حسب الباحثة فاطمة المرنيسي، ليس لأن العديد من النساء مارسن فيه السلطة السياسية، ولكن لأن اثنتين منهن؛ الملكة أسماء بنت شهاب والملكة أروى بنت أحمد، تمتعتا بالامتياز والمعيار الثابت لرئيس الدولة، وهو الخطبة التي كانت تلقى في المساجد باسميهِما. وكلتا الملكتان كانتا تحملان اللقب الملكي ذاته “سيدة حرة”، المرأة الحاكمة التي لا تخضع لأي سلطة عليا. وباستثناء ملكتينا لم تحمل هذا اللقب إلا الملكة (علم) التي حكمت إمارة زبيد، المدينة المجاورة لصنعاء، والحرة علم هذه كانت في البدء جارية بسيطة، عبدة مغنية لملك زبيد، منصور بن النجاح قبل أن تفرض نفسها عليه كسياسية من المستوى الأول.
في التاريخ الإسلامي، ليس هناك عصور قديمة وعصور وسطى وعصر نهضة وأزمنة حديثة؛ بل فترة الجاهلية وفترة الإسلام، وهو أشبه بتقسيم نهائي في المنظومة الإسلامية بين الخير والشر؛ استخدم “المرنيسي” هذا التقسيم لاستيضاح الغموض وراء اتخاذ اليمنيين اسم ملكة تنتمي إلى ما قبل الإسلام، “عصر الظُلمات”، كميزة لملكة مسلمة!
لماذا اتخذت شخصية دخيلة مثل الملكة بلقيس، وهي التي تنتمي إلى فترة الجاهلية بالمعيار الإسلامي، التقديس الكامل في التاريخ اليمني على الرغم من أنها أسطورة ميثولوجية؟ وفي المقابل أهملت السير ملكات اليمن الحقيقيات؟ من أجل الجواب سنحاول إعادة قراءة الأسطورة من جديد.
أسطورة بلقيس في التوراة: ملكة أم محظية؟
أمعنت الأسطورة التوراتية في تصوير مُلك سليمان الذي تضاءل إلى جانبه مُلك بلقيس، وحسب الباحثة بلقيس الحضراني: “صُوّرت اليمن تابعة لإسرائيل من خلال تزويج بلقيس من سليمان، والذي نتج عنه تراجع دور بلقيس إلى الهامش؛ حيث كانت الكلمة الأولى لسليمان ولابنه رحبعم من بعده”. وانتهت الملكة بلقيس في هذه الأسطورة إلى واحدة من نساء وجواري الملك سليمان؛ إذ “كان له سبعمئة من النساء السيدات وثلاثمئة من السراري؛ فأمالت النساء قلبه” بحسب العهد القديم. فذهبت نحوه خاضعة مستكينة، تحمل له الهدايا حتى صار عرشها نفسه ضمن هداياها.
ومن أجل تكريس خضوعها، تروى القصة التوراتية ما نقله الهدهد إلى سليمان عن مملكة سبأ، “أرض ترابها أغلى من الذهب، وأشجارها تسقى بمياه جنات عدن، والمدينة مزدحمة برجال لا يعرفون كيف يحاربون، ولا كيف يصوبون بالسهم والقوس، وتحكمهم امرأة تدعى سبأ. ويطلب منه الإذن كي يقيد ملوكها بالسلاسل وحكامها بالقيود الحديدية ليمتثلوا له”. فيكتب الملك سليمان رسالة تم ربطها في ذيل الهدهد: “إذا ما وصلتي إليّ ممتثلة مجيبة فسوف أشملك بما لم أشمل به غيرك من الملوك بالترحيب والتعظيم، وما لم تأتِ فسوف أجعل منكِ طعاما للوحوش الكاسرة والطيور المفترسة”. وبالرغم من استنكار شعبها للرسالة ومعارضتهم لها، بالقول “ومن يكون الملك سليمان؟ فهو لا يمثل شيئا بالنسبة لنا” تعارض شعبها وتذهب إلى الملك سليمان.
تجمع صورة الملكة بلقيس في الأدب الغربي بين التصور الديني لأسطورة سبأ التي استسلمت لذكورية الملك سليمان من جهة، ومن جهة أخرى التصور الاستشراقي للنساء-الحريم في الشرق الذي راج في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر
بحسب الباحثة بلقيس الحضراني “هناك ربط بين اسم بلقيس والكلمة العبرية Peligesh التي تعني المحظية والخليلة، وعند تتبع الكلمة نجد أنها أدخلت إلى اللغة العبرية، وهي تعني أيضًا نوعًا من أنواع الزواج القديم؛ حيث كانت الزوجة تبقى في بيت أهلها”، ويكشف الاسم وحده، بمعزل عن مسار الحكاية المعروفة، الصورة القاتمة؛ فقد انتقلت الملكة سبأ من العرش إلى الحرم، ومن إدارة شؤون الدولة إلى تربية ذرية الملك سلمان.
أسطورة سبأ في القرآن
ورد ذكر الملكة بلقيس في مواضع كثيرة في القرآن، وذُكرت قصتها مع النبي سليمان، وكان صاحب خبرها الهدهد، ومع غيابه عزم الملك سليمان على معاقبته مالم يبرر موقفه؛ فأخبره عن مملكة سبأ”؛ فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ عظيم، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم”. فما كان من سلمان إلا أن تحرى صدق الهدهد؛ فبعث بكتاب إلى ملكة سبأ يطلب منها أن تأتي مسلمةً خاضعةً وقومها”؛ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين“، وفي النهاية تخسر الملكة بلقيس عرشها إذ يسرقه عفريت من خدم النبي سليمان.
يصر الخطاب القرآني دومًا على حصر المعجزات القرآنية في البلاغة والبيان وليس في المعجزات الحسية كما المسيحية والتوراة، باعتبار أنه كتاب يخاطب العقول، ومن المفارقة أن الملك سليمان لا ينفك عن استخدام عنصر الإبهار أو الإعجاز الصوري في هيئة البلاط الملكي محققًا بذلك معيار المعجزة التوراتية في القرآن؛ حيث نرى الأسطورة التوراتية بظروفها الثقافية في القرآن. وبالمحصلة، نجد الإعجاز التوراتي (الحسي) في هيبة المُلك وخدمه وعبيده، والإعجاز الإسلامي (العقلي) في صورة الحكمة السليمانية، قد اتحدا لسلب أسطورة سبأ مملكتها.
وبرغم اختلاف السرد التوراتي عن السرد القرآني إلى حد ما؛ فقد استمرت الصورة القاتمة في الفضاء الرمزي؛ بحيث نُقل العرش من المؤنث إلى المذكر حسب المرنيسي، وانقسم مؤرخو الإسلام حول سيرتها؛ حيث يقلل الطبري من عظمة مُلكها، ويعلل ذلك بأنه لم يكن ملكها عظيمًا لحجمه وموقعه؛ بل للخطر الذي تمثله، مما يجعل خضوعها، بما يرمز إلى التنحي السياسي، كان درءً لخطر محتمل؛ أي بمعنى أن النساء لا ينتمين إلى المسرح السياسي. وعلى الرغم من اختلاف القص التوراتي / الإسلامي؛ فإن أغلب مفردات النسق المفهومي في الخطاب الإسلامي، ترتد إلى النسق التوراتي، وقد عكس الإطار المرجعي للأسطورة في سير التراجم الاسلامية التشويه التوراتي بكل سوءاته.
الأفدح من نسيان حكم ملكات اليمن، وتهميش الخصوصية الثقافية لتبوء النساء السلطة وسط دعم الجميع في فضاء؛ حيث لا يتحرج اليمنيون من دعم النساء؛ يتعمّد المسعودي سلب ملكة سبأ مملكتها؛ وذلك بإضفاء البُعد الأسطوري؛ ليس لأنه يعمل بالعقل؛ بل من أجل إلغاء المنطق في قيادتها وقيادة النساء؛ ففي حين يؤكد القرآن وجودها يذهب المسعودي إلى أسْطَرتها، وعزلها عن العقل والتاريخ والمنطق، وإعادة تقديمها بما يناسب صورة المرأة في عصره. الغريب في الأمر، أنه لا يتحجج بنفس المنطق والموضوعية للتشكيك في حكم الملك سليمان الخرافي.
ولكن أمام نزع الملكة من مملكتها، يورد عبد الله التاور في كتابه “هذه هي اليمن “إن بعض الشعراء الذين أُخذوا بإعجابهم بأسماء ذهبوا إلى حد الإعلان أنه إذا كان عرش ملكة سبأ رائعًا، فإن عرش أسماء كان أكثر روعة”؛ حيث اِتخذ يمنيُّو القرن الحادي عشر أسطورة سبأ رمزًا لاقتسام الرجال والنساء السلطة على السواء؛ فلم تكن السلطة ميراثًا ذكوريًا؛ إذ أدارت أسماء اليمن مع زوجها علي بن محمد مؤسس الدولة الصليحية، وتمتعت بالسلطة وحضور المجالس والخطبة باسمها واسم زوجها في المساجد، وتقاسمت أروى السلطة مع زوجها المكرم التي مارستها فيما بعد منفردة على امتداد نصف قرن؛ فيما تعمّد مؤرخو السير إقصاء الملكات اليمنيات، اللائي حكمن ومنحن لقب بلقيس الشابة أو الصغرى في الفترة الصليحية، مقابل تعميم صورة بلقيس الخاضعة المسلوبة، لا سيما وقد صارت العبرة منها تتواءم مع المخيال الأصولي الذي يرى أن مكانة المرأة في الحرم وليس في العرش.
أسطورة سبأ في الخطاب الاستشراقي: استباحة الرأي والجسد
امتثل الشرق في اللوحات الفنية والروايات الأدبية وفي بعض الأعمال الأكاديمية الغربية، لمجموعة من الصور الغرائبية والفانتازية والشهوانية المتخيلة، ويلاحظ إدوارد سعيد أن الأوروبيين نظروا إلى الشرق بوصفه سوقًا للمتعة الجنسية ورموزها: الحريم، الحجاب، العبيد، الأميرات، والراقصات. ولا يوجد كاتب أوروبي كتب عن الشرق، أو سافر إليه في الفترة 1800 إلا بحثَ عن هذه التجربة: فولبير، نرفال، وبيرتن، ولين، هم أبرز الأسماء؛ إذ “ظهر الشرق بوصفه عالمًا مليئًا بالرغبة، لكنه مكبّل بالصمت، وعاجز عن التعبير، وبدا الجنس الذي يعد به هذا العالم في نظر هؤلاء الرحالة والكُتّاب، مشوبًا بالعنف والغموض”.
بلقيس.. ملكة الإغراء والفتنة
تجمع صورة الملكة بلقيس في الأدب الغربي بين التصور الديني لأسطورة سبأ التي استسلمت لذكورية الملك سليمان من جهة، ومن جهة أخرى التصور الاستشراقي للنساء-الحريم في الشرق الذي راج في أوروبا منتصف القرن التاسع عشر. وإلى جانب التأثير الديني في تكوينات الفنانين، راجت صورة نمطية في الفترة التاريخية أخذت في الانتشار عن النساء الشرقيات، والتي تعد الملكة بلقيس؛ في انتقالها من العرش إلى الحرم، أنموذجًا ملائمًا للمرأة الشرقية.
في مسرحيته (إغواء القديس انطوان) 1849، يستحضر الروائي الفرنسي فلوبير صورة المرأة الشرقية من خلال ملكة سبأ التي تحاول إغواء ناسك، (وهي قصة تعود جذورها إلى الموروث المسيحي) بأساليبها الماكرة: “أنا لست مجرد امرأة؛ إنني العالم بأسره؛ فمتى سقطت ثيابي عني، تكشف لك الأسرار والألغاز، ومتى امتلكت جسدي؛ فسيغمرك فرح عظيم لا يدانيه فرح امتلاكك لأي من أقطار الأرض”.. وعلى غرار بطلته الشرقية “كشك هانم”، تجيد بلقيس الرقص لإغواء القديس أنطوان.
يوظف فلوبير صورة الملكة بلقيس كرمز للشبق الجنسي؛ فبعد انتهاء أسفاره في الشرق، يقدم رمز جنسيًا جديدًا، وتجد هذه الشخصية صداها في المخيال الديني والواقع الاستشراقي.
ما يبعث على الدهشة هو الإصرار الغربي والعربي على تقديم أسطورة ميثولوجية، وتوراتية، رغم الخصوصية السياسية للنساء في اليمن، بصورة المحظية، وفي حدود الحرم أو المنزل، واختزال النساء واليمن بأكمله بهذه الصورة القاتمة
وفي قصة شارل نوديه، أحد رواد المذهب الرومانتيكي في فرنسا، تندرج صورة الملكة بلقيس ضمن الفانتازيا في قصة “الجنية ذات الفتات” 1832. وهي تشبه من ناحية غير بعيدة قراءة المسعودي، ولكن بدلاً من نفي حكمها يقيم مُلكها في الخيال فقط؛ إذ تراود الملكة بلقيس بطل نوديه في الحلم، ويرفض ميشيل، بطل قصته، حب فولي التي تمثل المرأة الواقعية، ومن المفارقة أن قراءته النمطية للمرأة الشرقية أقرب ما تكون إلى الواقع الاستشراقي في القرن التاسع عشر؛ حيث لا تعدو صورة الملكة بلقيس إلا صورة من الإغراء والفتنة والاستسلام. وبرغم إصرار الرومانتيكيون في حينها على استلهام أفكارهم من الحلم؛ فمن المستحيل فصل قراءتهم عن الواقع الاستشراقي.
أما الشاعر جيرارد دي نرفال فيعيد الأسطورة التوراتية بحمولتها الدينية والاستشراقية والتاريخية في قصة (ملكة الصباح وسليمان أمير الجن) 1848؛ إذ تستكمل الرواية التوراتية أحداثها السياسية؛ ففي لقائهما يغرم الملك سلمان بالملكة بلقيس ويعرض الزواج بها، ومن ثَم يلقي لها قصائده التي تنتقص من المرأة، وتتحول حنكة اليمنيين في بناء السدود إلى جناية بشرية في نظر الإله العبري الذي لا يقبل تدخل الإنسان في الطبيعة، ولكن سرعان ما “تغري” الملكة بلقيس أودينرام، المعلم الذي كلفه سليمان باستكمال بناء مملكته، وتتوسع دائرة هذا الصراع بين جنسين وشعبين؛ حيث يتضح أن أودينرام من أبناء النار، مثل الملكة بلقيس، والذين يتغذون على العلم، ولكن الملكة تحاول أن تسترد مملكتها، وتقع في غرام أودينرام، وتحمل منه.
في قراءة الدكتور مسعود عمشوش، يعلل إعادة توزيع مراكز السلطة والقوة بين الطرفين تعليلاً ذاتيًا بسبب غراميات دي نرفال الشخصية؛ فهو ينتصر لحبيبته الممثلة “جين كولون” التي سبق أن كتب لها أوبرا بعنوان “ملكة سبأ”؛ أملاً أن تقبل دور البطولة فيها؛ ولكن زواجها من رجل آخر حال عن ذلك ولم يحظَ بحبها؛ فقام بتحويل ما كتبه إلى قصة الجنية ذات الفتات، وبرغم ذلك ظلت تلك الصورة السلبية للملكة بلقيس تغذي الروايات الغربية حتى اليوم.
خاتمة
تتميز القراءات والأبحاث والدراسات في اليمن وحول اليمن بالخلاف والانقسام بشكله السيء والإيجابي، لكن ما يبعث على الدهشة هو الإصرار الغربي والعربي على تقديم أسطورة ميثولوجية، وتوراتية، رغم الخصوصية السياسية للنساء في اليمن، بصورة المحظية، وفي حدود الحرم أو المنزل، واختزال النساء واليمن بأكمله بهذه الصورة القاتمة. ما من شك أنه من السهل للباحثين الغربيين ربط واقع المرأة الشرقية بالاضطهاد والتهميش والتعنيف، ولكن من المستحيل ربط المرأة بالسلطة في الشرق. فيما يمنحنا التاريخ اليمني دروسًا قيّمة في الشراكة العادلة بين النساء والرجال، يقتضي الواقع اليوم الذي يشبه أسطورة سبأ من حيث هو مسلوب، قراءة متخففة من الحمولة الدينية التي تصنع جدارًا ضخمًا بين الأسطورة والحقائق في التاريخ الديني. وبدلاً من التأثُّر بأسطورة دخيلة تحمل دلالة قاتمة تتناقل على أنها مسلّمات في الوسط الديني والاجتماعي والسياسي، بات من اللازم اليوم أكثر من أي وقت مضى إعادة قراءة التاريخ السياسي والتاريخ الديني على السواء.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.