يعيش الشرق الأوسط، منذ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أحداثًا متلاحقة وأزمات تصل لحد الكوارث؛ فقد أقدمت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على اقتحام أكثر من 50 موقعًا إسرائيليًا، منها عشرات المواقع العسكرية والمستوطنات؛ فيما بلغت أرقام القتلى الإسرائيليين والأجانب نحو 1400 حتى هذه الساعة، وهو رقم ضخم جدًا ربما لم يحدث في تاريخ إسرائيل من قبل، أن يسقط هذا الكمّ من القتلى لديهم في يوم واحد.
شعور مهين للعقلية الإسرائيلية التي بُنيت على ضمان الأمن من القوى الكبرى؛ خصوصًا بريطانيا والولايات المتحدة؛ فأمدوهم بالمال والسلاح ودعموهم بالسياسة والإعلام، وفي أول رد فعل على هذه العملية الفلسطينية، أقدم جيش الاحتلال كالعادة على قصف قطاع غزة، مما أوقع حتى الآن 7703 شهداء من بينهم 3595 طفلًا.
ما الذي دعا إسرائيل لتعمد استهداف المدنيين والأطفال بهذا الشكل؟ ما الذي يدفعها لتقديس نظرية الأمن حتى تتعامل مع شعبها بتلك الحساسية المفرطة؟ ألا يصح القول، إن للتراكم التاريخي الذي كان فيه اليهود مضطهدين سببًا أصيلًا في نشوء تلك الحساسية؟ أليست مذابح هتلر ضد اليهود المعروفة “بالهولوكوست” هي ما ضاعفت ذلك الشعور بالخطر في الذهنية الإسرائيلية؟ ألا يعني وقوعهم ضمن محيط جغرافي عربي وإسلامي معادٍ فرصة لتكرار جرائم هتلر؟ هل رأوا عمليات المقاومة فرصة لتكرار مذبحة الهولوكوست، فقرروا الانتقام من مدنيي غزة بهذا الشكل؟ وما هي الصهيونية التي دعا إليها هرتزل لتكون عقيدة وأيديولوجيا دولة إسرائيل الناشئة؟ وما دورها في إشعال الصراع؟ وهل يوجد بالفعل ثمة فارق بين اليهودية كدين، وبين الصهيونية كأيديولوجيا سياسية تخلط الدين بالدولة؟ وما حقيقة علمانية إسرائيل وقبولها بالتعددية الدينية والفكرية؟
نشأة الصهيونية
قبل الخوض في غمار تلك الإجابات المقلقة علينا الوقوف على محطات تاريخية هامة، وأولها أن الصهيونية في الغرب تشكلت على أيدي قساوسة مسيحيين إنجيليين في القرن 19، أشهرهم “لويس واي” المتوفى عام 1840م، والثاني “جون نيلسون داربي” المتوفى عام 1882م، يعني قبل هرتزل ونشاطه السياسي في الدعوة العلنية بأرض الميعاد، وبناء على جهود هؤلاء القساوسة تشكل تيار (صهيو-مسيحي) إنجيلي في الغرب، يطالب بهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان مكانه، ثم إقامة دولة إسرائيل لليهود في فلسطين لتكون علامة وشرط لعودة المسيح الثانية آخر الزمان، وهذا معتقد فئة كبيرة من الإنجيليين، وهي التي دعّمت إسرائيل دوليًا من منطلق طائفي.
السؤال الذي لم يُجب عليه هذا التيار الصهيوني: كيف أن اليهود ظلوا 600 عام لا يفكرون في بناء الهيكل مرة أخرى بعد تدميره سنة 70م على يد الإمبراطور الروماني تيتوس، حتى بناء الأقصى في القرن السابع الميلادي؟
وقلت فئة كبيرة لأن هناك نصوصًا يرفعها كثير من الإنجيليين لا تؤمن بضرورة بناء الهيكل، أو تكوين دولة لإسرائيل على حساب شعب آخر، مثل قول يسوع “مَا تَنْظُرُونَ جَمِيعَ هذِهِ؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ!” (متى ٢٤: ٢)، والمعنى أن بناء الهيكل الثالث ليس ضروريًا، لأن هدمه كان مشيئة إلهية، وكذلك قول التوراة في سفر الخروج الإصحاح 23 “لا تقمعوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في مصر”، وكذلك ما ورد في سفر القضاة الإصحاح رقم 11 بنهي العبرانيين من التعدي على ممالك موآب وأدوم وعمون، وهذه كانت ممالك قديمة في الأردن، وكذلك نهى عن التعدي على مصر وللمزيد من تفسير الكتاب المقدس عن مشروع الكنوز القبطية.
بينما على الجهة الأخرى يرفع تيار الصهيو-مسيحية شعار “دولة إسرائيل آخر الزمان”، والتي تم التصريح بها.
- أولا: في سفر التكوين الإصحاح رقم 15 أن أرض الميعاد من نهر مصر(النيل) إلى نهر الفرات).
- ثانيًا: في سفر حزقيال “هكذا قال الرب إني أجمعكم بين الشعوب وأحشركم من الأراضي التي تبددتم فيها، وأعطيكم أرض إسرائيل” (11/ 17)، والمعنى في هذا النص الديني يقول بوضوح أن الرب يبشر بني إسرائيل ورثة التوراة والعهد القديم بأن دولة آخر الزمان عطية إلهية، ووعد رباني لا يتزعزع، وقد جرى تفسير وتطورات وأحداث نشوء دولة إسرائيل والاعتراف بها سنة 1948 على هذا النحو الديني.
فضلًا عن حروب آخر الزمان التي ذكرت في سفر حزقيال الإصحاحين “38، 39″، والنص الديني فيها يشبه نصوص الروايات الحديثية في التاريخ الإسلامي بملاحم آخر الزمان، وضرورة المعركة النهائية بين الإيمان والكفر، وقدوم المهدي المنتظر ونزول المسيح ليكسر الصليب ويقتل الخنزير، إلخ. ولعل سفر حزقيال هنا من أشهر نصوص العهد القديم حديثًا وانشغالًا بحروب آخر الزمان، والتنبؤات الدينية السياسية التي يغلب عليها طابع العنف، وهو الذي كان ويظل هو المنبع الرئيسي لتغذية العنف الديني في التصور الصهيو-مسيحي العالمي.
ولمن يستغرب دعم الولايات المتحدة لهذا التصور الديني السياسي رغم علمانيتها، أذكره بالقاضية “ساندرا أكونور“، والتي عيّنها الرئيس الأسبق رونالد ريجان في المحكمة العليا في الثمانينيات، وهي ذات فكر أصولي متشدد، أعلنت من قبل أن أمريكا (دولة مسيحية)، وأنه لا معنى لفصل الدين عن الدولة في الدستور، ويقال إن رئيس المحكمة العليا وقتها “ويليام رينكويست” كان مؤيدًا لها، ويعتبر أن تضمين العلمانية وفصل الدين عن الدولة في الدستور هو سوء فهم لا يمنع من تأثير الدين على الحكومة (المصدر كتاب Winning the New Civil War لروبرت دوجان الصادر عام 1991م صـ 79)، مما يعني أن قضية فصل الدين عن الدولة في الولايات المتحدة حتى اليوم هي محل جدل.
ويمكن الاستزادة بموقف أمريكا الديني والتوسع حول هذا الجدل العقائدي المثار في الولايات المتحدة حول الدور الديني في السياسة ببضعة كتب أذكر منها: الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي للباحث إسماعيل الكيلاني، وملف إسرائيل لروجيه جارودي، والبعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي للدكتور يوسف الحسن، والمسيحية الصهيونية لسليمان العيد، وكتاب “المسيحية الصهيونية والهوية الوطنية الإنكليزية، 1600-1850″ للمؤرخ الإنجليزي دكتور أندرو كروم، و”الصهيونية غير اليهودية، . جذورها في التاريخ الغربي” للباحثة ريجينا الشريف.
ومما قالته ريجينا في هذا الكتاب: “إن الجذور الاجتماعية للسياسة الصهيونية غير اليهودية برزت أولًا في المحيط الديني الذي كان سائدًا في الدول الأنغلو-ساكسونية البروتستانتية، ومع مرور الأيام، تطورت هذه الأفكار وأصبحت جزءً من الثقافة الغربية، مع أن الصهيونية لم تهجر ميدان الدين والرمزية إلى العمل في السياسة، إلا في القرن التاسع عشر، وكان هناك توافق بين الصهيونية كعقيدة قومية والسياسة الاستعمارية السائدة”. انتهى.
فضلاً عن جهود القساوسة الأمريكيين من المذهب الإنجيلي “جون هاجي” و “جيري فالويل المتوفي عام 2007″، و”بات روبرتسون” والمتوفى في يونيو الماضي 2023؛ في دعم إسرائيل من منطلق ديني، وحشودهم المليونية الغفيرة في محاضراتهم والتي تبشر المسيحيين واليهود بدولة المسيح في آخر الزمان المعروفة بالمجئ الثاني وبناء الهيكل الثالث في القدس.
وهم علمانية إسرائيل
السؤال الذي لم يُجب عليه هذا التيار الصهيوني: كيف أن اليهود ظلوا 600 عام لا يفكرون في بناء الهيكل مرة أخرى بعد تدميره سنة 70م على يد الإمبراطور الروماني تيتوس، حتى بناء الأقصى في القرن السابع الميلادي؟ وقد عُرض هذا السؤال على حساب مؤيد لإسرائيل بمنصة “إكس” فقال أحدهم “إن اليهود كانوا وقتها مشتتين”، وصاحب هذا الرد لم يقرأ شيئًا عن ثورة “شمعون باركوخبا” سنة 135م، أي بعد تدمير الهيكل بــ 65 سنة فقط، وكيف أن شمعون قاد جيشًا من 600 ألف مقاتل ضد الرومان أبيد معظمهم، ما يعني أن لليهود في ذلك الوقت شأنًا كبيرًا، فلماذا لم يفكروا في بناء المعبد؟
كذلك كيف لم يفكر اليهود في هدم الأقصى طوال 1200 عام منذ بنائه حتى ظهور الدعوة الصهيونية الطائفية بالقرن 19م؟ إن عدم الإجابة على تلك الأسئلة يعني أن ثمة قراءة متطرفة عنصرية حربية للكتاب المقدس حدثت في القرن 19، هي السبب في نشوء الصهيو-مسيحية في أوروبا، ثم انتقالها للشرق الأوسط على شكل دولة إسرائيل التي دعمها الغرب من منطلق ديني، وتلك القراءة شبيهة لدينا بالقراءة الوهابية للقرآن والسنة بالضبط، وهي عبارة عن إيمان بظواهر النصوص الحربية والسياسية، ثم نزع تلك النصوص من سياقاتها الزمكانية لتصبح حجة لإقامة دولة وإمبراطورية دينية محضة، وهذا الذي فعلته الوهابية في أدبياتها وتأثرت به الجماعات في السجون حتى خرجت بهذا المعتقد كاملاً في السبعينات مع السادات.
أما عن علمانية إسرائيل فالحقائق عنها مضطربة؛ ففي الوقت التي تظهر فيه من الداخل كدولة تعددية تقبل العرب والمسلمين في الكنيست، تظهر في مشهد آخر على لسان بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة وبعض الوزراء على أن إسرائيل دولة يهودية، حتى في زيارة بايدن الأخيرة لإسرائيل صرح بأن إسرائيل دولة يهودية، ولتفسير ذلك أقتبس نصًا مهما من مقالي “أضواء على الديانة اليهودية“، والمنشور على موقع الحوار المتمدن بتاريخ مارس 2020 قلت فيه:
“إن ذكر دولة إسرائيل في هذا السياق للملاحم المنتظرة، لا ينفك عن ظهور الحاخام الألماني “سامسون رافائيل هيرش” في القرن 19 كمجدد للفكر الديني اليهودي بمشروعه المعروف بــ “الأرثوذكسية اليهودية”، وهو مشروع عبر فيه أنصار هيرش عن حاجتهم للتقيد بأوامر العهد القديم من ناحية، والتعايش مع الحداثة والعلمانية من ناحية أخرى، وبرأيي أن هذا الاتجاه لهيرش أثر كثيرًا على مفكري العلمانية اليهود في الجمع بين صدقية النص الديني والتعايش مع الحداثة؛ لاسيما وأننا سنناقش كيف أن هذا التعايش استفاد من رؤية الحاخام “موسى بن ميمون” للإيمان اليهودي في الجمع بين الفلسفة والدين”.
إضافة إلى أن مشروع هيرش أدى لإحياء اللغة العبرية الحديثة Modern Hebrew كلغة مقدسة تتفق مع العلم، حتى صارت هذه اللغة أحد معالم إسرائيل الحديثة، برغم ظهورها المتأخر كلغة رئيسية لحوالي 6 مليون من شعوب الشرق الأوسط؛ فقد كان اليهود سابقًا إما مضطهدين سياسيًا وغير مسموح لهم بإقامة أي إنجاز ثقافي جماعي في ظل إنجازهم الفردي، أو منخرطين في ثقافات أخرى ويظهرون كجنسيات محلية لا هوية جامعة لهم، وقد حدث التحول بعد هزيمة نابليون في معركة واترلو عام 1815م، حين سمح الأوربيون بقدر كبير من حرية الشعائر الدينية للأقليات، وقد اخترت هذا الزمن تحديدًا لكون حروب نابليون تأثرت بثقافات وصدمات وكوارث القرون الوسطى الدينية، التي عطلت نجاح الثورة الفرنسية فترة من الزمن والشرح في ذلك يطول.
ذلك الاضطراب الحاصل في هوية دولة إسرائيل هل هي علمانية أو يهودية، يعود في جوهره لاضطراب الرؤية الأصولية الدينية في المعتقد اليهودي من ناحية تكوين الدولة
لكن مشروع “هيرش” برغم إحيائه للغة العبرية، وتأثيره على علماء ومفكري إسرائيل الحداثيين، لكن لا نستطيع القول إنه كان مؤثرًا في صعود وتأسيس دولة إسرائيل؛ فالرجل – حسب كتابات “فيلدهايم” – كان معارضًا لكيان إسرائيلي قبل دولة المسيح آخر الزمان، وهو الاتجاه الذي أسس حركات يهودية معارضة لإسرائيل لاحقًا كجماعة “ناطولي كاردا” الموصوفة بالتشدد؛ إنما فضل تأسيس دولة إسرائيل فكريًا يعود للحاخام الألماني “هيرش كاليشر” ت 1874م، والذي رد عليه رافائيل هيرش حسب “فيلدهايم” معارضًا، وبالتالي نحن أمام خطين يحكمان دولة ومجتمع إسرائيل فكريا:
- الأول: أصولي تابع لكاليشر يرى ضرورة جمع يهود الشتات والمشردين حسب قوله في دولة واحدة.
- الثاني: أصولي حداثي لرفائيل هيرش يرى ضرورة تقيد اليهود بتعاليم التوراة، ومعايشتهم للحداثة والعلمانية من ناحية أخرى.
وهذا يفسر كيف أن إسرائيل بهذين الاتجاهين كوّنت أحزابًا وتيارات عظمى حكمت إسرائيل لاحقًا، ونجحت في إنجاز دولتها سياسيًا وعلميًا وعسكريًا؛ فهم مؤمنون بالحداثة والعلمانية في الجوهر، في ذات الوقت هم مؤمنون بضرورة سماع واحترام تعاليم التوراة والوصايا وتنفيذها حسب الثقافة اليهودية العامة، بتقديم التلمود على سائر كتب التناخ، وهذا ما حمل المسلمين والعرب على وصف مجتمع إسرائيل بالمجتمع التلمودي، ويظنون أن ذلك يوافق تصورهم عن الدولة الدينية التلمودية، بينما يغفلون الشق الحداثي المرافق لهذا التصوّر التلمودي؛ مما يعني أننا أمام حالة ازدواجية جمعت فيها شعبًا بين متناقضين، مثلما جمع الإيرانيون متناقضين:
- أولا: عن طريق إيمانهم بدولة الإمامة الشيعية وولاية الفقيه من ناحية.
- ثانيا: عن طريق إيمانهم بالحداثة والاستعانة بأدوات الفلسفة الإيرانية لفهمها في مرجعيات “قمّ”، حتى بات فهم الحداثة للإيراني البسيط متاحًا في التعليم الديني”
فمُجمَل القول؛ إن ذلك الاضطراب الحاصل في هوية دولة إسرائيل هل هي علمانية أو يهودية، يعود في جوهره لاضطراب الرؤية الأصولية الدينية في المعتقد اليهودي من ناحية تكوين الدولة، وعند اشتعال الصراع مع المحيط العربي والإسلامي يقوى ويشتد الجانب الأصولي الديني الذي نتحدث عنه ويرفع شعار “الصهيونية”، ويُباركه معظم إنجيليي العالم مثلما تقدم؛ فالدول والمجتمعات تميل لأكثر الرؤى تطرفًا وتشددًا عندما تشعر بالخطر، ولا شك أن اليهود تاريخيًا لم يندمجوا في أكثر المجتمعات التي وجدوا فيها، تعرضوا لكثير من القمع حتى إن البعض منهم تحول للمسيحية في ألمانيا هربًا من القمع النازي من جانب، ولفشل اليهود في الاندماج الثقافي مع الألمان وفقًا للرؤية القومية الآرية التي رفعها النازيون من جانب آخر.
ويعني هذا أن ظهور الصهيونية كمعتقد ديني أصولي في التاريخ الحديث، كان موازيًا لأزمة اليهود في الاندماج مع مجتمعات أوروبا، وأنه لا يمكن تحمل النظر إليهم كأجانب لا كمواطنين؛ فكان الحل الذي بشرت به نخبة اليهود؛ سواء متدينين أم غير متدينين، أنه لا حل لديهم سوى بتكوين دولة قوية تجمع شتات اليهود في العالم؛ فتم اعتماد والبناء على رؤى قساوسة الإنجيليين في بريطانيا والولايات المتحدة، كقاعدة انطلاق للحشد والهجرة اليهودية لأرض فلسطين، وما يرافق ذلك من الدعوات لطرد العرب؛ سواء بشراء الأراضي أو التهجير القسري الذي واجهه عرب فلسطين آنذاك بالقوة المسلحة، بدءً من عشرينات القرن العشرين.
وقد شهدت هذه الفترة عدة مجازر طائفية بين عرب ويهود؛ منها مجزرتا الخليل وصفد سنة 1929 ضد اليهود، ومجازر متعددة ضد العرب والمسلمين من سنة 1937 إلى سنة 1939، زيادةً على قتل آلاف الفلسطينيين على يد ميلشيات يهودية خلال الحرب الممتدة بين عامي 1947 و1948؛ فالضغط الذي كان يمثله فشل اليهود بالاندماج في أوروبا والغرب، هو الذي أدى لذلك العنف المسلح، ورغبات قادة أوروبا آنذاك بالتخلص من المشكلة اليهودية عبر الحل في تكوين دولة لهم بالشرق الأوسط، ويفسر هذا عنف الدولة الصهيونية الآن ضد الفلسطينيين، والتوسع في إحداث مجازر؛ فهم يعتقدون أن فشل دولتهم تعني رحيلهم لدولهم الأصلية التي فشلوا في الاندماج فيها؛ ما يعرضهم لخطر وانتقام العنصريين مثلما كانت أحداث الهولوكوست وغيره.
التصور الديني الصهيو-مسيحي عن دولة إسرائيل
على جانب آخر توجد لمحة تاريخية أقارن فيها بين ظروف نشأة إسرائيل كدولة، وظروف نشأة الدولة العثمانية أشرح فيها بشكل متضمن لماذا حصل العثمانيون على دعم العرب والمسلمين، دون وضع طريقة الحكم وتداول السلطة فيما بينهم موضع نقاش، وهو نفس التصور الصهيو-مسيحي العالمي عن نظام إسرائيل من الداخل؛ سواء علماني أو يهودي ديني، لأن الدعم الخارجي موجه بالأساس للعشيرة أو الدين، ولا يتعلق ذلك بطريقة ونظام الحكم ومشروعيته السياسية بالأساس، ووجه المقارنة أن النظام العثماني قام على الحق الديني (الخلافة) للنسل التركي؛ فجمع العثمانيون بين الحق الديني والعشائري، وهو ما حدث لإسرائيل؛ حيث جمعت بين الحقين الديني والعشائري؛ فثبت من صعود الدولتين على مسرح التاريخ أن العامل الديني كان حاضرًا وبقوة؛ إما عن طريق الحشد العاطفي للجمهور، أو كسب تعاطف شعوب ودول أجنبية رأت أن بقاء هذه الدول مصلحة دينية وقومية لهم.
وألخص هذه التشابهات في عدة نقاط منفصلة:
- أولاً: بدأت دولة آل عثمان عام 1281م، وبدأ الصهاينة سنة 1948، وقبل إنشاء هذه الدول رسميًا كانت هناك هجرات كبيرة للشعب اليهودي إلى فلسطين وللشعب التركي للأناضول، وفي رحلات “ماركو بولو” الإيطالي سجل أن الأناضول قبل ولاية عثمان أرطغرل كانت وطنًا كبيرًا للأتراك.
- ثانيا: تعرضت كلتا الدولتين لحروب وتحديات في عصر التأسيس، كان أقواها حرب فلسطين لصالح إسرائيل ضد العرب سنة 1948، ومعركة “فارنا” لصالح الأتراك ضد الصليبيين سنة 1444م، بعد هذه التواريخ فرضت كلتا الدولتين أنفسهما على دول الجوار، وبدأت حروبهما التوسعية لاحقًا على أسس دينية.
- ثالثًا: أوروبا -الصليبية وقتها في القرن 15 م- كانت ضعيفة بسبب حروبها الأهلية الدينية، وانشقاق كنائسها لأرثوذكس وكاثوليك؛ في وقت كان كل منهم يدعي أنه الذي يتصدى لخطر الأتراك، أيضًا فالعرب كانوا – ولا يزالون – في هذا الضعف منذ الأربعينات؛ حيث انشقوا لمذاهب سنة وشيعة، واكتسب العداء بينهم لمحات قومية وأيدلوجية، في وقت كان كل منهم يدعي أنه الذي يتصدى لخطر الصهيونية.
- رابعًا: انتهى التوسع الصهيوني خارجيًا بحرب 1973، ليصبح محدودًا في نطاق المستوطنات وأراضي الفلسطينيين، بينما انتهى التوسع التركي خارجيًا بمعركة فيينا سنة 1683م، ليصبح محدودًا في نطاق المدن الداخلية ومناطق المسيحيين اليونان والأرمن.
- خامسًا: وحدة وتجمع العرب سنة 1973 ساعد في وقف التوسع الصهيوني، وهي اللحظة الأشهر التي نسي فيها العرب خلافاتهم السابقة بين أحلاف الشيوعية والرأسمالية، بينما وحدة وتجمع أوروبا سنة 1683م هو الذي أوقف الأتراك على أسوار فيينا، وهي اللحظة الأشهر التي نسي فيها الأوروبيون خلافاتهم الدينية التي كان لمفكري التنوير وقتها دور كبير في تبريدها وإطفاء شررها الواسع.
والفارق الوحيد أن أوروبا نهضت بعد معركة فيينا، وخدمت وحدة البابوات والزعماء الأوروبيين في تشكيل أحلاف سياسية جديدة، وإطلاق حريات الفكر الليبرالي، وإنشاء تجمعات ديمقراطية لأول مرة في التاريخ منذ عصر اليونان، بينما عند العرب حدث العكس؛ حيث أدت حرب 73 إلى نكسة حضارية كبيرة، وعودة لطرق تفكير القرون الوسطى بشكل كامل، وإحياء صراعات وعداوات تافهة بادت منذ قرون.
كنت وما زلت أردد بأنه فور تخلي الغرب عن دعم الصهيونية وإسرائيل من المنطق الديني والنظر إليها كقوة احتلال سياسية؛ فلن يتشجع قادة إسرائيل على ضم الأراضي وبناء المستوطنات، وستتوقف مجازر هذه الدولة ضد شعب فلسطين
والدرس المستفاد من المقارنة اللطيفة هذه؛ أن الدول تقوم وتفنى بظروف تتعلق أكثر بقدرات الخصم ورغبته وإرادته، وأن القوة الذاتية ليست وحدها عامل الحسم؛ بل لو وجدت تلك القوة في أجواء غير مواتية لها ستصير قوة عادية منافسة يسهل دحضها والإجهاز عليها، مع وجود قوى وكفاءات أخرى منافسة وندية، ما يعني أن اعتبار نجاح قيام دولة إسرائيل وقوتها العسكرية الآن دليل على صدقيتها أو مشروعيتها، أو ثبوت أدلتها؛ فيجب أن يثبت نفس الأمر على الدولة العثمانية، وهي دولة كانت من أشهر الدول الدينية السنة في القرون الوسطى، وخاضت حروبًا ومعارك دينية مع المسيحيين الروس والشيعة الإيرانيين ميزتها في التاريخ؛ حتى صارت رمزًا دينيًا مقدسًا عند الأصوليين السنة، وهو نفس التصور الذي يراه أصوليو اليهود والمذهب الإنجيلي المسيحي حول بقاء ووضعية دولة إسرائيل.
هذه المقارنة تشرح بشكل لطيف سيكولوجيا الغرب في التعامل مع إسرائيل؛ فهم يتصورون هذه الدولة بشكل ديني مثلما كان يتصور سنة العرب والترك دولة بني عثمان بشكل ديني؛ فلو سقطت إسرائيل سيكون إيذانا بسقوط المذهب الإنجيلي أو الدين اليهودي في عقلية متديني الصهيو-مسيحية العالميين، وهو نفس تصور المسلمين السنة في الدفاع عن سلطة بني عثمان بالقرون الوسطى حتى وقت قريب.
والتاريخ المصري يشهد أن كبار الحركة الوطنية المصرية ضد الإنجليز، كأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، برغم جرأتهم وشجاعتهم ضد الاحتلال الإنجليزي، إلا أنهم لم يروا الدولة العثمانية بنفس الصورة، ولم يروا الأتراك محتلين بالأساس؛ بل (أصحاب بيت) وكبار العائلة المسلمة، وأنه كلما اشتد الصراع بين بريطانيا وتركيا في هذا التوقيت كلما قويت شوكة هؤلاء ضد الإنجليز وتحريض الشعب على الاستقلال، وبالطبع، ليس هذا دفاعًا عن الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولكنه مجرد إضاءة على ثقافة المصريين أواخر القرن 19م وأوائل القرن 20م، وأنهم لم يملكوا طاقة الرفض للعثمانيين مثلما ملكوها ضد الإنجليز.
بالضبط مثلما لا تملك شعوب الغرب الإنجيليين نفس طاقة الرفض لإسرائيل، مثلما يرفضون العرب والروس والصينيين، و يثبت هذا حضور العامل الديني في السياسة الغربية، وأن علمانية الحضارة لم تتحقق بشكل كامل مثلما يظن البعض؛ بل لأنها تحمل في طياتها متناقضات ومواقف مزدوجة وكيلاً بمكيالين، وظل العالم يعاني ولا يزال من هذا الاضطراب الفكري.
وقد كنت وما زلت أردد بأنه فور تخلي الغرب عن دعم الصهيونية وإسرائيل من المنطق الديني والنظر إليها كقوة احتلال سياسية؛ فلن يتشجع قادة إسرائيل على ضم الأراضي وبناء المستوطنات، وستتوقف مجازر هذه الدولة ضد شعب فلسطين، وفور إدراك العرب لخطورة تناول فلسطين من منطق ديني سيدركون آليًا فداحة تناول الغرب لنفس القضية، وبالتالي لا حل سوى عودة القضية لجذرها الإنساني ورفض الاحتلال بكل أشكاله، والاعتراف بحق تقرير المصير للفلسطينيين بشكل عملي لا مجرد نظريات وشعارات فارغة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
الحقيقة ان المقالة جميلة وشاملة وموضحة كل شيء اشكرك علي مجهودك