في مثل هذا الشهر وقبل خمسين عامًا، قامت الدول العربية بخفض إنتاج النفط وحظر تصديره إلى الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة لإسرائيل في حربها ضد مصر وسوريا، وهو ما تسبب في صدمة لا يمكن نسيانها أو تخطيها حتى بعد مرور نحو نصف قرن، وهذه المرة لم تحضر هذه الحادثة إلى الأذهان والوجدان لمجرد حلول ذكراها؛ إذ تزامنت هذه الذكرى مع الهجوم المباغت الذي شنته قوات المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس فيما عُرف بطوفان الأقصى.
عملية “طوفان الأقصى”، والتي شملت اقتحام 20 مستوطنة إسرائيلية وإطلاق أكثر من خمسة آلاف صاروخ نحو الأراضي المحتلة؛ ما نتج عنه أكثر من 1400 قتيل، وعدد من الأسرى يصل إلى 200؛ في هجوم هو الأكبر منذ تأسيس دولة الاحتلال؛ ما دفعها لإعلان حالة الحرب والبدء في عملية انتقام وحشية وتنفيذ غارات وقصف جوي عنيف على قطاع غزة، نتج عنه آلاف القتلى والجرحى من النساء والرجال والشيوخ والأطفال، كما حصلت إسرائيل على دعم غير محدود من الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، الذين اتخذوا موقفًا موحدًا من الضوء الأخضر لجيش الاحتلال للقيام بعمليات عسكرية بهدف القضاء على حماس واستعادة معادلة الردع.
وساهم الضمان الغربي الذي لا يُلزم إسرائيل بالتقيد بالقوانين والاتفاقيات الدولية، بقيام سلاح الجو الإسرائيلي بارتكاب أكبر مجزرة في غزة، حين قامت بقصف مستشفى الأهلي المعمداني، وأوقعت أكثر من 500 شهيد من المدنيين الذين كانوا يحتمون بالمكان ويتخذونه مأوى. وأمام هذه الجرائم التي تُقابل بالصمت والتواطؤ والدعم الصريح والعلني، تصاعد الغضب الشعبي الرافض لهذا الدعم، وتصاعدت معها أصوات الشعوب العربية من مختلف البلدان، والتي تطالب الدول العربية باستخدام سلاح النفط والغاز لإلزام الدول الغربية على إجبار إسرائيل على وقف عدوانها ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وفك الحصار وفتح معبر رفح الحدودي لإرسال المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء.
بدأت تلك الحملات في الظهور بشكل قوي من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وشارك بها عدد ضخم من النشطاء من خلال وسم: “أوقفوا النفط عنهم” على منصة “إكس” تويتر سابقًا، كما طالب النائب في مجلس الأمة الكويتي “مهند الساير” الكويت و”مجلس التعاون الخليجي” بإعادة استخدام سلاح النفط والاستثمارات الخارجية، وفرض عقوبات تصاعدية لحماية أهل فلسطين ومعاقبة حلفاء إسرائيل.
ولم تقتصر هذه المطالبات على المنصات الرقمية فقط؛ إذ امتدت لأبعد من ذلك، بعد خروج احتجاجات ومظاهرات شعبية واسعة في مختلف الدول العربية، ومنها مظاهرات في عُمان والكويت وقطر شارك فيها الآلاف، وكانت دعوة: “لا تصدير مع التهجير” من بين الشعارات التي نادى بها المتظاهرون في عُمان، كما دعت الاحتجاجات في الكويت إلى نفس الأمر، بضرورة منع النفط عن الدول الغربية المساندة لإسرائيل.
علوي المشهور، الباحث السياسي الذي أطلق وسم “أوقفوا النفط عنهم“، ليحظى بتفاعل ضخم ومشاركة أكثر من 120 ألف تغريدة في يومين، يرى أن الحل الوحيد في ظل هذه الظروف هو إيقاف تصدير النفط عن الدول الداعمة لإسرائيل؛ فلا يمكن الاكتفاء بالبيانات فقط، لأن الغرب لم يفعل ذلك، واستخدم كل الأدوات التي يملكها وقدم الدعم والمساعدات المالية والعسكرية الضخمة للكيان الصهيوني. ويضيف “علوي” أن هذه الدول لا تعرف سوى لغة القوة؛ فيجب التعامل معهم وفق ذلك، والدول العربية لديهم احتياطات نفطية هائلة، ويتمتعون بنفوذ كبير في أسواق الطاقة العالمية. كما صرح لـ”مواطن“.
النفط كسلاح: حرب أكتوبر 1973
استطاعت الدول العربية خلال حرب أكتوبر 1973 توجيه ضربة كبيرة للدول الغربية، بعد إعلانها قرار خفض إنتاج النفط الذي، تطور بعد ذلك ليكون حظرًا على تصديره للدول التي تساند إسرائيل في حربها ضد العرب، وهو ما تسبب في “الصدمة النفطية”، وهي أكبر أزمة طاقة عرفها الغرب؛ حيث ارتفعت أسعار النفط من 2.59 دولار ليصبح 11.65 دولارًا للبرميل الواحد في أميركا، وارتفع التضخم 1972 إلى 11.04% في عام 1974، كما انخفض النمو الاقتصادي إلى سالب 0.5% في العام نفسه، حتى إن الولايات المتحدة كانت تطور خطة لاحتلال مواقع النفط في الخليج آنذاك.
ويتذكر الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية هذه الفترة بصورة ذهنية تتضمن السيارات التي كانت تصطف لأميال طويلة أمام محطات الوقود، وذكريات تتعلق بنفاد مخزون الوقود في السيارات الخاصة بهم؛ نتيجة اختفاء وارتفاع أسعار الوقود، والأغاني الموسيقية التي انتشرت حينها، وكانت عبارة عن شعارات معادية للدول العربية نتيجة قرارها بحظر تصدير خام البترول إلى بلدانهم.
وما زالت الدول الغربية تُعاني من هواجس تلك الصدمة إلى اليوم؛ ففي مقالة جريدة “وول ستريت جورنال”، يُشير الكاتب إلى أن صدمة الحظر النفطي العربي، ألقت بظلالها على كل جانب من جوانب السياسة الخارجية الأميركية، وطوال نصف القرن الماضي كان شبح استخدام الدول العربية للنفط كسلاح جيوسياسي يُطارد الساسة ويؤدي إلى سعي مهووس إلى “الاستقلال في مجال الطاقة”.
تحييد سلاح النفط
تتمتع الدول العربية بنفوذ هائل داخل تحالف الدول المصدرة للنفط في منظمة “أوبك”، الذي يسيطر على إنتاج وتصدير النفط والتحكم في أسعاره؛ حيث لعبت الدول العربية دورًا كبيرًا في تأسيس المنظمة خلال الستينيات، وتستحوذ المملكة العربية السعودية على الحصة الأكبر من إنتاج النفط داخل المجموعة، وذلك بواقع 9.978 مليون برميل يوميًا، وتُعد أكبر مصدر للنفط عالميًا.
ترتبط القرارات داخل منظمة "أوبك" بالتوافق بين الدول الأعضاء؛ فلا يمكن لدولة أن تتخذ قرارًا بشأن خفض الإنتاج أو منع التصدير بشكل منفرد؛ ما يعني أن أي قرار يهدف إلى استخدام النفط كسلاح وأداة ضغط، لابد أن يكون قرارًا جماعيًا تُعلن عنه المجموعة التي تضم 23 دولة
وتأتي العراق في المرتبة الثانية بقائمة أكبر الدول العربية المُصدرة للنفط؛ حيث يصل حجم الإنتاج اليومي إلى 4.220 مليون برميل يوميًا، وفي المرتبة الثالثة الإمارات بحجم إنتاج يُقدر بنحو 3.075 مليون برميل يوميًا، وإجمالًا تستحوذ الدول العربية على نحو 30% من إنتاج منظمة الدول المصدرة “أوبك”.
وترتبط القرارات داخل منظمة “أوبك” بالتوافق بين الدول الأعضاء؛ فلا يمكن لدولة أن تتخذ قرارًا بشأن خفض الإنتاج أو منع التصدير بشكل منفرد؛ ما يعني أن أي قرار يهدف إلى استخدام النفط كسلاح وأداة ضغط، لابد أن يكون قرارًا جماعيًا تُعلن عنه المجموعة التي تضم 23 دولة، وبالرغم من عدد الدول العربية في المجموعة 9 أعضاء يستحوذون على حصة كبيرة من إنتاج النفط، إلا أن هذه الدول يبدو أنها لا تميل ولا تُفكر في اتخاذ مثل هذا القرار.
وخلال مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي المنعقد في جدة لبحث الحرب الإسرائيلية على غزة؛ دعا وزير الخارجية الإيراني حسين “أمير عبد اللهيان” الدول الأعضاء لفرض حظر نفطي على إسرائيل؛ ما أدى إلى صعود أسعاره بنسبة 2% جراء المخاوف بشأن الاضطرابات التي يمكن أن تحدث في الإمدادات العالمية بعد دعوة إيران، لكن تحالف “أوبك بلس” أكد لوكالة رويترز أن المجموعة لا تعتزم عقد اجتماع استثنائي أو اتخاذ أي إجراء فوري أو عقد اجتماعات طارئة في ضوء دعوة وزير الخارجية الإيراني، وقال أحد المصادر: “نحن لسنا منظمة سياسية”. وأكد جاسم البديوي أمين عام مجلس التعاون الخليجي أن المجلس يعمل بشفافية، وملتزم بأمن الطاقة مع المجتمع الدولي، وأكد أنه لا يمكن أن استخدام النفط كسلاح بأي شكل من الأشكال”.
ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي د. مصطفى البزركان أن الظروف السياسية والاقتصادية والجيوسياسية مختلفة عما كانت عليه في حرب عام 1973، لذلك لا يعتقد ولا يتوقع أن الدول المنتجة والمصدرة للنفط ستقوم بوقف تصديره إلى الدول الغربية. ويضيف لـ”مواطن“: “لحد الآن لا يوجد أي تهديد بقطع إمدادات النفط، لذلك قد يكون هذا السيناريو مستبعدًا في الوقت الحالي”.
هل يمكن إعادة استخدام سلاح النفط؟
بعد المعاناة الشديدة التي عاشتها الدول الغربية بسبب القوة الاقتصادية البترولية لدى الدول العربية، والسلاح السياسي والعسكري الفعال الذي تملكه، وأدى دورًا محوريًا في أكبر معركة عسكرية عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، عملت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على رد الصفعة، وتكبيل الدول العربية واقتلاع تلك القوة من أيديهم، لضمان استعادة السيطرة مجددًا.
فقد نجحت الولايات المتحدة في جعل اقتصادات الدول العربية الغنية بالنفط مرتبطة بالاقتصادات الغربية، وبفضل اتفاقية “البترودولار“، تمكنت بنوك واقتصاديات الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة من استقبال الفوائض المالية الضخمة التي تعاظمت مع الارتفاع العالمي في أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973؛ إذ لم تكن اقتصادات الدول العربية الصغيرة قادرة على استيعاب هذه الثروات المالية حينها، وكان هناك حاجة لملاذ آمن لاستثمارها وادخارها.
هذه المعادلة جعلت الدول العربية أكثر اندماجًا مع النظام العالمي ويهمها استقراره، حتى تستطيع ضمان استمرار تصدير النفط، وتمويل الموازنة والإنفاق العام للدولة من ناحية، والحفاظ على الاستثمارات والأصول المالية الضخمة التي يمتلكونها في الخارج من ناحية أخرى، وهو ما قوّض من قدرتها على الضغط باستخدام هذه السلعة التي لم تعد سلاحًا.
وهو ما يؤكده مدير المركز العالمي للدراسات التنموية بلندن، د. صادق الركابي، الذي يرى أنه من الصعب على الدول العربية المصدرة للنفط القيام بحظر، لأنه سيكون أمرًا مؤذيًا لها؛ فقطع إمدادات النفط سيرفع من سعره لمستويات قد تصل إلى 170 دولارًا للبرميل أو أكثر، ما ينعكس سلبًا على ارتفاع أسعار السلع والمواد عالميًا، بما في ذلك المواد والسلع التي تستوردها الدول العربية من غذاء ودواء. ويرى “الركابي” في حديثه مع “مواطن” أن أمرًا كهذا سيؤدي لعجز العديد من الدول العربية عن سداد ديونها وإضعاف قدرتها على الإنفاق
وهو نفس الرأي الذي يشير إليه مقال في “وول ستريت جورنال” الأمريكية، يُسلط الضوء على الذكرى الخمسين للحظر النفطي؛ إذ يؤكد مؤلف المقال أن أي محاولة للقيام بحظر نفطي وتقليص إمدادات الطاقة العالمية ستؤثر على سلاسل التوريد العالمية، وسترتفع الأسعار على الجميع وليس فقط المستهدفين من الحظر، لذلك يرى صادق الركابي أنه يجب الاستفادة من النفط في تقديم مساعدة كبيرة للجانب الفلسطيني للمساهمة في تمويل إنشاء البنية التحتية وتطوير التعليم والصحة.
من الصعب على الدول العربية المصدرة للنفط القيام بحظر، لأنه سيكون أمرًا مؤذيًا لها؛ فقطع إمدادات النفط سيرفع من سعره لمستويات قد تصل إلى 170 دولارًا للبرميل أو أكثر، ما ينعكس سلبًا على ارتفاع أسعار السلع والمواد عالميًا، بما في ذلك المواد والسلع التي تستوردها الدول العربية من غذاء ودواء
لكن علوي المشهور يختلف مع هذا الطرح؛ إذ يرى أن قطع إمدادات النفط عن الدول المؤيدة للكيان الصهيوني لن يضر باقتصادات دول المنطقة، ودليل “المشهور” على ذلك هو حرب أكتوبر 1973، عندما قامت الدول العربية بحظر تصدير النفط إلى الدول الغربية لإجبارها على دفع إسرائيل نحو وقف إطلاق النار، حينها تضاعفت أسعار النفط بعد أن كانت تباع بأسعار بخسة، وحققت الدول العربية طفرة هائلة وجنت ثروة ضخمة نتيجة لهذا القرار.
ولا ينكر “المشهور” اختلاف الظروف عما كانت عليه قبل نصف قرن؛ فالولايات المتحدة باتت أقل اعتمادًا على النفط العربي، إلا أن أسواق الطاقة العالمية وفي القلب منها الدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل تحولت في الآونة الأخيرة إلى زيادة الاعتماد على إمدادات النفط والغاز العربية، بعد فرض الحظر على إمدادات الطاقة الروسية منذ بدء الحرب في أوكرانيا. ويرى المشهور أن مجرد تلويح الدول العربية باستخدام ورقة النفط لا القطع الفعلي والفوري للصادرات، سيجعل الدول الغربية تتراجع وتتوقف عن السماح للدولة الصهيونية بمواصلة ارتكاب المجازر الوحشية ضد غزة، لأن إسرائيل ليست قوية إلا بداعميها وبالشرعية التي تمنحها لها الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية.
العقوبات المتوقعة في حالة التهديد بورقة النفط
في عام 2000، قدمت الإدارة الأمريكية مشروع قانون “نوبك ” NOPEC، الذي يهدف إلى تقليص قدرة الدول المصدرة للنفط على التحكم بأسواق الطاقة، ورفع قانون الحصانة السيادية عن الدول العربية أمام المحاكم الأميركية، ما يعني إمكانية مقاضاتها أمام المحاكم الأمريكية على أساس قوانين مكافحة الاحتكار؛ ما قد يؤدي لعقوبات اقتصادية كبرى تطال الدول. وتزعم الولايات المتحدة أن القانون يسعى لحماية المستهلكين والشركات في الولايات المتحدة من الارتفاع في أسعار الطاقة.
ومن ذلك الحين هددت الولايات المتحدة في مرات عديدة بإخراج القانون وتفعيله وفرض عقوبات على الدول المُصدرة للنفط، وخلال أكثر من عقدين من الزمن، قُدّم مشروع القانون للكونغرس في 16 مرة. وفي عام 2007 كاد يتحول إلى قانون بعد أن صوتت عليه الأغلبية من الحزبين بمجلسي النواب والشيوخ، وأقرته لجنة مجلس الشيوخ، لولا اعتراض الرئيس جورج بوش واستخدامه حق الاعتراض (الفيتو). كما هددت المملكة العربية السعودية في عام 2019 ببيع النفط بعملات أخرى غير الدولار إذا أقرت واشنطن قانون نوبك.
وفي يونيو 2022، أعادت الولايات المتحدة طرح القانون مجددًا بعد أن قام نائبان بإعادة طرح القانون، الذي حظي بتأييد 17 عضوًا في اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ، مقابل رفض أربعة. وكان الهدف منه معاقبة دول أوبك بلس، وعلى رأسهم السعودية وروسيا، بسبب رفض المملكة زيادة حصص إنتاج النفط، وميلها لتحدي الإدارة الأمريكية وتخفيض الإنتاج بهدف الحفاظ على أسعار مرتفعة للنفط.
وهو ما يبرهن أنه حتى في حالة توفر الإرادة السياسية لدى الدول العربية، بالقيام بخطوات تصعيدية باستخدام سلاح الطاقة؛ فإن العقوبات الأمريكية مُعدة سلفًا وجاهزة للتفعيل، وهو ما يدفعنا للتساؤل عما إذا كان لدى الدول العربية الإرادة السياسية لاتخاذ مثل هذا الموقف، وتحمل تبعاته وعواقبه.
التعليقات 1