تشعر إيمان عودة، مواطنة غزية (30 عامًا)، أنها بحاجة إلى علاجٍ نفسيّ وإعادة تأهيل ذهنية، وأن درجة القلق التي تعيشها ليست طبيعية في ظل الحرب الحالية في القطاع، وتحكي: “إنّ سماعي لصوت سيارة أو تحريك الكرسي أو حتى صوت إغلاق النافذة كفيلٌ بجعلي أقفز من مكاني هلعًا وخوفًا من القصف، حتى صوت الناس العاديين أصبح مرتبطًا بخوفنا من الإخلاء في أي لحظة.”
تعبر إيمان عن الحالة النفسية المتردية التي وصل إليها الغزيّون أو من بقي منهم على قيد الحياة. “إنّ ما يصل لإسرائيل من مساعدات هو طيارات وصواريخ وأسلحة، وما يصلنا في غزة هو أكفان لكافة الأعمار”.
وتستكمل حديثها لمواطن: “لا يمكن لأحدٍ أن يتخيل كم يكون مرعبًا صوت الصاروخ، وهو يضرب غزة ويمر من فوق رؤوسنا، أتشهد ولا أدري أين أختبئ، وأسأل نفسي، هل سأعيش؟”.
قرية صغيرة، غير هادئة
في عصر التكنولوجيا أصبح العالم قرية صغيرة، لكنها غير هادئة، وصاخبةٌ لسرعة انتشار الأخبار فيها وتكرارها وتناقلها ومناقشتها وتحليلها وتضخيمها أو التقليل من شأنها، لم يعد المنزل مكانًا للعزلة عن المحيط الاجتماعي، ولم يعد السرير قوقعةً تطمر فيها الرأس لتبتعد قليلًا عن ضجيج الحياة؛ فالناس تنام وأجهزة الموبايل الذكية تتدلى من أيديها، وربما تعلق بالأذهان مشاهد النار والدمار في الجانب الآخر من الكوكب، أو صورة طفلٍ يبكي أمه المتوفاة على سرير في قسم إسعاف في إحدى مناطق النزاع من العالم.
يقول علي (29 عامًا) لمواطن، وهو ممرّض في أحد المشافي الحكومية في سوريا: “تعودتُ بحُكم عملي كممرّض إسعاف، وبعدها كممرّض عمليات على الموت والأكفان، أصبح الموت لديّ يمرّ بشكل طبيعيّ جدًا، لكنّ مشاهد الموت في غزة أحبطتني وأصابتني بالعجز أكثر، شعور العجز لا ينفكّ عن محاصرتي حتى في عملي، قررتُ في نهاية المطاف إلغاء كل وسائل التواصل الاجتماعي هذه الفترة، ولم أبقِ سوى الواتساب، لم أعد أؤمن أن هنالك حلًّا لما يجري، حتى الدعاء لا أجده مُجديًا”.
دخلتُ في حالةٍ من التشنج العضليّ في كل أنحاء جسدي جراء القلق، أحس نفسي أمشي كخشبة، استغرق وقتًا طويلًا في النهوض من السرير، ومع ذلك لم أستطع مقاومة متابعة الأخبار.
“إنّ مدى تأثير أخبار غزة على حياتنا وصحتنا النفسية هو أمر شخصيّ ويختلف من فرد لآخر، وحسب استعداده للإصابة بالاضطرابات النفسية؛ فمن الممكن أن نرى تطورات اكتئابية أو اضطرابات القلق المعمم (وهي شائعة جدًا)، بالإضافة إلى اضطراب ما بعد الصدمة والأمراض الذهانية مثل الفصام، وتكون متابعة أخبار الحروب عاملًا مُطلقًا للمرض وليست سببًا بحد ذاته”. تقول لمواطن، الدكتورة رهام سليمان، طبيبة في اختصاص الطب النفسي.
وتشرح على سبيل المثال، أن مرضى الفصام أو الذهان يكون لديهم استعداد جيني للإصابة أكثر من غيرهم، وعند تعرضهم لشدة نفسية أو صدمة عاطفية، يظهر لديهم المرض، لكنّ الشدة ليست سببًا وإنما عامل محرّض”.
أكثر من مجرد أخبار
خدمتنا التكنولوجيا كثيرًا، لكنها وضعت آلام البشرية أمام أعيننا، ووضعتنا في خضم الحروب والنزاعات التي إن لم تُصبنا رصاصاتها؛ فإنّ أخبارها تُصيب وتبعث رسائل لأدمغتنا، لتضع كل مقدّرات الجسم في وضع الاستعداد والترقب بشكل غريزيّ.
إنها ليست مجرّد أخبارٍ أو منشورٍات أو تغريدات؛ بل هي صفّارارت إنذار تدوي لتفعّل حالة التأهب القصوى؛ فترتفع هرمونات الشدّة مثل الكورتيزول والأدرينالين، لتتحرك معها مشاعر العجز والخوف والقلق، والأخطر من ذلك الشعور بالذنب عن كل راحةٍ نختبرها، وهناك طفلٌ جائعٌ أو مشرّدٌ أو مُيتّمٌ أو قتيل.
وفي دراسةٍ تناولت تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المتعلقة بالحروب على الصحة العقلية للفرد، أشارت إلى أن الأخبار السلبية أو المتضاربة، تؤثر على الأنشطة اليومية والصحة العقلية والنفسية مخلّفةً الاكتئاب والقلق والنظرة المتشائمة للحياة.
عانى رائد (27 عامًا) من اضطراب القلق العام والاكتئاب منذ زمن طويل لا يمكن تحديده، ولكنه زار طبيب الأمراض النفسية وتمّ تشخيصه، وهو يتناول أدوية الاكتئاب والقلق منذ ثلاث سنوات.
يقول لمواطن: “استقرّت حالتي على أدوية الاكتئاب، وانتكسَت حالتي منذ السنة الماضية، وهي الآن تنكتس للمرة الثانية بعد متابعة أخبار غزة، لم أستطع أن أمتنع عن متابعة الأخبار على الرغم من معرفتي بما سيحدث من دمار ودماء”.
وتابع: “دخلتُ في حالةٍ من التشنج العضليّ في كل أنحاء جسدي جراء القلق، أحس نفسي أمشي كخشبة، استغرق وقتًا طويلًا في النهوض من السرير، ومع ذلك لم أستطع مقاومة متابعة الأخبار على الفيسبوك أولًا بأول، هناك ما يشدني ولا أستطيع مقاومته”.
ويضيف، “تحدّثتُ إلى طبيبي النفسيّ ونصحني بالخروج مع الأصدقاء والعائلة والتواصل الاجتماعيّ الحقيقيّ بعيدًا عن الواقع الافتراضي”.
ويوضح حسام حسون أخصائي علاج الأمراض النفسية، لمواطن: “إنّ مصطلح الاحتراق النفسي الناجم عن متابعة وسائل الإعلام ليس دقيقًا من الناحية العلمية، والأدق هو الاحتراق الوظيفي، وهو حالة من التهالك الناجمة عن الضغط الجسدي والنفسي الشديد في العمل لفترات طويلة، ويمكن أن يُضاف إلى ضغوطات الحياة والعمل، متابعة أخبار الحروب ومشاهد العنف؛ ما يؤدي لتراكم الضغط اليومي الحاد مع التراكمي، وفي النهاية الإصابة بالاحتراق، الذي ينطوي على مجموعة متنوعة من الأعراض الاكتئابية، ومظاهر القلق والذهان واضطراب ما بعد الصدمة”.
ويرى الباحثون النفسيون أن مشاهدة الأخبار المروعة على التلفاز، بينما نحن مُرتاحون على الأريكة يُعطي شعورًا مهدئًا يبعث على الراحة في النفس، وأنّ “وضعي لا يزال جيدًا، ويوجد الكثير ممن هو أسوأ مني”. إلا أن هذا الانجذاب سرعان ما يتحول لحلقة مفرغة من الإحباط واليأس الناتجين عن استمرار الحروب وآثارها دون توقف أو قدرة على تغيرها.
يقول الدكتور راتب شعبو، الكاتب والروائيّ السوري لمواطن: “الحقيقة أن شعوري عقب عملية “طوفان الأقصى”، وقبل أن تتكشف تفاصيل عن العملية، كان مزيجًا من البهجة والخوف، البهجة بسبب القدرة على اختراق حواجز تضعها إسرائيل لتحول بين الفلسطينيين وأرضهم، وخوف من العواقب التي اعتدنا عليها من إسرائيل عقب كل عملية مهمة”.
وأضاف: “لكني مع ذلك بقيت على حياتي اليومية بلا قلق ولا كوابيس؛ فقد مر على رؤوسنا ما جعلنا مهيئين لعبور الكوارث التي لم تفارقنا يومًا”.
الخوف والذعر من صوت الطيران
تقول لمواطن، داليا (40 عامًا)، محررة ثقافية في إحدى الصحف السورية: “بصراحة؛ وصلت إلى مرحلة لم أعد قادرة على تحمل المزيد، لذا بتُ أتحاشى ما أمكن مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو المنتشرة على الأقل”.
وتابعَت: “أذكر أني شاهدت فيديو لرجل فلسطيني يحمل طفلته المتوفاة بين ذراعيه، وهو يتوعد قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ في تلك الليلة لم أنم جيدًا، احتضنت طفلتي وبدأتُ بتخيل المشهد، والتساؤل فيما بيني وبين نفسي، ماذا لو كنت مكانه؟ ماذا لو توسعت الحرب لتصل إلينا هنا؟ رغم أننا نعيشها أساسًا، لكن ليس بتلك الطريقة”.
"كل لحظة تمر مع خبر جديد حول الهجوم البرّي للقوات الإسرائيلية، يصيبني بالإعياء والتقلصات في معدتي"
وتضيف “الكوابيس المستمرة، زيادة الخوف على طفلتي الصغيرة، الذعر من صوت الطيران، والخوف ليلًا من إغماض عيني مخافة أن تبدأ الحرب بأي لحظة لأكون مستيقظة ومستعدة”. لم تتوقف الأمور لدى داليا عند هذا الحد؛ فقد تطوّرَت لديها أعراضٌ جديدة مع تطور أحداث الحرب على المدنيين في غزة .
وتكمل “جاء خبر مجزرة مشفى المعمداني ليكون الحدث الثاني بعد مشهد الوالد المكلوم، شعرتُ وكأنه الضربة القاضية، لدرجة أني بتُ أعاني حالة أرق مزمنة ومُزعجة جدًا، وحتى عدم القدرة على التركيز خلال عملي اليومي، وأصبحتُ أحاول تأجيل المسؤوليات بشكل مستمر ليوم آخر علّه يكون أفضل، لكن للأسف كل يوم أسوأ من سابقه”.
وعن طريقة تعاملها مع ما وصلت إليه من حالةٍ نفسيةٍ سيئة: “وصل الأمر لدرجة أني ألغيت متابعة الأخبار على الشاشة، وحين يشاهدها زوجي على الموبايل أطلب إليه وضع سماعة، لأني فعلًا لم أعد أحتمل المزيد”.
ليس كل العاملين في مجال الصحافة مثل داليا، قادرين على إلغاء متابعة أخبار الحرب في غزة؛ خاصة أن قطاعًا منهم عمله الأساسي تغطية هذه الأحداث وفضح الجرائم من قوات الاحتلال.
ووصفت الصحفية المصرية الشيماء أحمد فاروق؛ في إحدى مدوناتها، حالتها النفسية المتردّية بعد متابعتها لأخبار غزة: “كل لحظة تمر مع خبر جديد حول الهجوم البرّي للقوات الإسرائيلية يصيبني بالإعياء والتقلصات في معدتي، وبدأت أفقد شهيتي نحو الطعام، وانهالت عشرات الأسئلة التي ليس لها إجابات”.
وبعد فشل محاولاتها حصر متابعتها للأخبار ضمن ساعات عملها الصحفيّ، دخلت في نوبة هلع شديدة: “كانت أعصابي تحترق ولا أشعر بأطرافي، تحاملتُ على نفسي وذهبت إلى المستشفى القريبة من المنزل، وعدت وأنا أقسم أنني سوف أمنع نفسي بالتأكيد، ولن أظل مسمّرة أمام شاشة الهاتف كل هذه الساعات؛ ما أفعله لن يساعدهم بالتأكيد، وتضخّمت الجملة في عقلي: المساعدة؛ هل في يدي مساعدة أستطيع تقديمها؟”.
ولا يختلف حال صحفيي الداخل في غزة والخارج من المعنيين بتغطية الأحداث، عن العاملين بالقطاع الصحي في غزة؛ فجميعهم مضطرون لمراقبة القتل، ويرى الأخصائي النفسي، حسام حسون أن الذين يكونون على تماس مُباشر مع المشاهد الدموية والعنيفة، هم معرّضون بشكل كبير للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة بعد فترة من الزمن.
وأضاف: “أمّا متابعة وسائل الإعلام لا تؤدي إلى اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، وذلك بحسب الدليل التشخيصي للأمراض النفسية DSM5، ولكن قد يؤدي إلى تطور أعراض الاكتئاب والقلق كما تؤدي إلى النُّكس عند المرضى المُشخصين باضطرابات اكتئابية أو قلقية”.
ماذا نفعل؟
“إنّ أهم ما يمكن القيام به هو تحديد مصادر المعلومات، وخاصةً وسائل التواصل الاجتماعي، والابتعاد قدر الإمكان عن المشاهد الدموية والعنيفة، والاعتماد على مصادر المعلومات الدقيقة والموثوقة، كما يجب تحديد وقت معيّن لمتابعة الأخبار، ولا يجوز أبدًا أن نُمضي ساعات طويلة في متابعة الأخبار”. حسب حسون.
نحن لا نستطيع منع المشاكل والكوارث والحروب والأزمات، أو التحكم بسياسات الدول، والطاقة التي نخسرها جراء القلق ومتابعة الأخبار والصور والمشاهد المباشرة، لن تغير في الأمر شيئًا.
وحذّر حسون من متابعة أية مواد إعلامية أو برامج سياسية أمام الأطفال، لأنّ الطفل يتشرّب كل ما يرى ويسمع دون عملية الفلترة الموجودة عند البالغين.
وطالب بالواقعية حيال ما نستطيع تقديمه لشعب غزة قائلًا: “بصراحة لا يمكننا سوى تنظيم الوقفات الاحتجاجية، وبدرجة أقل دعم المحتوى الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي إلى حدّ ما، أكثر من ذلك لا نستطيع فعل شيء، مثل هذه الحروب تحصل من وقت لآخر، وتاريخ البشرية حافل بمثل هذه الكوارث؛ سواء لتسويق الأسلحة أو تجريبها، الأهم أن نعرف أين حدود قدرتنا على المساعدة ونقف عندها”.
ويُجمع أخصائيو الصحة النفسية، على ضرورة التخفيف من متابعة أخبار الحروب؛ والتركيز على ممارسة الرياضة اليومية في الهواء الطلق، وتركيز على الجهد على نشاطٍ خيريّ يمكن أن يُساعد المتضررين، بدل إيذاء أنفسنا بفرط متابعة الأخبار، مع التأكيد على تجنب متابعة الأخبار قبل النوم وأثناء تناول الطعام لأنه سيؤثر عليهما سلبًا.
وبخصوص الصحفيين؛ فيجب على المؤسسات تخصيص أوقات راحةٍ الإعلاميين والمراسلين، وتقديم الدعم النفسي لهم من خلال وصلهم مع أخصائيين نفسيين، وتدريبهم على طرق العناية الذاتية، وتقليل تشرّبهم للأخبار السلبية والتعامل مع الصدمات، ويُعد منح إجازة بعد انتهاء الحروب للترويح عن النفس أمرًا بالغ الأهمية للتخلص من آثار تغطية الأزمات والنزاعات.
وختامًا؛ نحن لا نستطيع منع المشاكل والكوارث والحروب والأزمات، أو التحكم بسياسات الدول وسلوكيات الناس وتقلبات الطبيعة، وإنّ الطاقة التي نخسرها جرّاء القلق ومتابعة الأخبار والصور والمشاهد المباشرة والاستديوهات التحليلية، لن تغير في الأمر شيئًا، لن يوقف حربًا ولن ينقذ طفلًا أو يطعم جائعًا، إنه مجرّد هدرٍ للطاقة والوقت.