منذ بدء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر الماضي، ومع توالي الأيام واشتداد القصف ووقوع المئات بين قتلى وجرحى ومفقودين يوميا؛ فضلاً عن الحصار الإسرائيلي بإغلاق معبر رفح ومنع دخول المساعدات الإنسانية، كما قطعت إمدادات المياه والوقود والكهرباء عن القطاع؛ أدى كل هذا إلى تضامن واسع مع القضية الفلسطينية، وتمثل هذا التضامن في خروج مئات الآلاف في مظاهرات جابت عشرات المدن العربية والغربية مساندة لأهل غزة المعرضين للقصف والحصار، بالإضافة إلى إدانة هجمات إسرائيل البربرية.
لم يقف التضامن عند المظاهرات؛ بل شمل منشورات ومقاطع فيديو لشخصيات عامة من كل الجنسيات؛ ثقافية وفنية ورياضية وإعلامية وغير ذلك، لاقت بعض من هذه الشخصيات بعد تضامنها إعجابًا و”تلميعًا”، مبالغًا فيه بعض الشيء، من شرائح جماهيرية مُختلفة؛ ما أدى إلى تسليط ضوء أكبر من حجمه على المتضامن مقارنة بالإبادة التي تحدث مع الضحايا أنفسهم، وهذا ما أعطى للكثير فرصة، للسعي إلى التضامن، بما أن هذا التضامن سيجعل منهم “شو SHOW”، عرضًا يُشاهده الكثير في احتفاء وانبهار. وهذا ما نحاول الاشتباك معه، عبر طرح مفهوم التضامن في عصر “الرقمنة”، ونرى -دون مبالغة أو تقليل أو تفتيش في أي نوايا- كيف تحول التضامن من ممارسة تقف مع الضحية و تُدين المُعتدي، إلى عرض رقمي لجمع المشاهدات، والصعود إلى الترند.
يعرف عن غير المتضامن مع القضايا الإنسانية أن السبب الرئيسي حيال صمتهم هو الخوف من ضياع إنجاز ما حققوه في حياتهم الشخصية والعملية؛ بل وفضّلوا تقديم مصلحتهم الشخصية وتعاملوا بشكل “براغماتي” محض، وهو أسلوب لا يحب الخسارة. وهذا ما قيل عن لاعب الكرة المصري محمد صلاح؛ إذ اختار الصمت في بداية الحرب على غزة، وتكلم متأخرًا تحت ضغط النقد الكبير الذي تعرّض له. وفي حديثه، رفض إدانة إسرائيل بشكل واضح؛ بل وتكلم عن أن “الأرواح كلها مهمة”.
عندما يقاس التضامن بالأرقام، لا بالحديث نفسه، يصبح تضامنًا، سائلاً واستهلاكيًا، ومشروطًا بالمشاهدات الضخمة.
ربما لو تكلم محمد صلاح متضامنًا مع غزة وأهلها بشكل مباشر، وأدان إسرائيل وعدوانها، لفقد مكانه كأحد أشهر لاعبي إنجلترا والعالم، وربما يُفسخ عقده مع نادي ليفربول الإنجليزي، كما أن إدانته ستسبب له إشكالية مع جزء من جمهور الدوري الإنجليزي المؤيد لإسرائيل، وربما كذلك، وبسبب ضغط اللوبيات الصهيونية في كل مكان بالعالم الغربي، تُسلط عليه أبواق الإعلام والصحافة الغربية. ويفقد الكثير مما بناه في سنوات احترافه في الملاعب الإنجليزية. ومن هنا، جاء اختيار “الإدانة “السائلة“، التي تكون محايدة، ولا توجه تضامنًا أو إدانة مباشرة لأي طرف. هذا على عكس كثير من المتضامنين الذين خسروا أو حتمًا، سوف يخسرون الكثير بسبب تضامنهم، مثل لاعب المنتخب الفرنسي كريم بنزيما، الذي وبسبب تضامنه مع قطاع غزة في منشور على موقع “X”، واجه دعوات بسحب جنسيته الفرنسية.
هذان جانبان من التضامن، أما الجانب الثالث الذي شهدناه فكان مختلفًا بعض الشيء في شكله ومفهومه. بدايةً، كان الاحتفاء مع الإعلامي الساخر المصري باسم يوسف؛ إذ استضافه المذيع البريطاني بيرس مورغان في برنامجه “Piers morgan uncensored”، وكان باسم، ومن خلال لغته الساخرة، مبهرًا لمن شاهد الحلقة التي تخطت مشاهدتها في أول يومين فقط 13 مليون مشاهدة، واجه باسم أسئلة “مورجان” بنوع من السخرية، التي تقول في مضمونها، “إنه بالفعل إسرائيل والغرب لديهم الحق في الدفاع عن أنفسهم، أما الفلسطينيين يموتوا عادي.. ليسوا مهمين”. وغير ذلك من عبارات استخدمها باسم بذكاء وخفة، تسخر من القوى الغربية الداعمة لإسرائيل في عملية إبادة قطاع غزة.
انتشرت الحلقة، ونال باسم يوسف احتفاءً كبيرًا وهذا مفهوم في سياق؛ فقد استطاع بالفعل رجل عربي السخرية من الإعلام الغربي المنحاز بوضوح لإسرائيل في صراعها ضد فلسطين، وفي قصفها لقطاع غزة، لكن أخذ الاحتفاء نوعًا ما من المبالغة؛ ما جعل “باسم” نفسه، يكتب على موقع “X”، بشكل ساخر أن عدد المشاهدات التي جمعتها حلقته في يومين، مقارنة بـ الملاكم الإنجليزي أندرو تيت، الذي حظي بنفس عدد المشاهدات، لكن في عام واحد؛ إذ قال: “ده اللي عملته في حياتك، عملته أنا في يومين”. ومن هنا، بدأت تتشكل ظاهرة التضامن كعرض لجمع المشاهدات، أو حتى عرض لمناظرة بيرس مورغان، وليس تضامنًا مع فلسطين بشكل أساسي، أو حتى الحديث عن فلسطين في أي مكان، بعيدًا عن بيرس مورجان وحلقته.
منذ يوم الثامن من أكتوبر، توافدت المساعدات أمام معبر رفح التابع للأراضي المصرية، قوافل من الشاحنات، ومعها مئات من الأفراد التابعين لمنظمات إنسانية وخيرية إقليمية ودولية. لكن وتحديدًا في يوم 21 من أكتوبر الماضي، انتشر مقطع فيديو لشابة مصرية اسمها رحمة زين، أمام بوابة معبر رفح، تنتقد وتهاجم مراسلة قناة CNN الأمريكية، وتوضح انحياز القناة للرواية الإسرائيلية، كما انتقدت الولايات المتحدة الأمريكية؛ في إعطائها الضوء الأخضر لتنفيذ المذبحة بحق فلسطين وأهلها.
عبر المشاركات والاحتفاء، استقبلت السوشيال ميديا هذا المقطع، وأصبحت رحمة زين وجهًا ساطعًا “مشهورًا” (بلغة السوشيال ميديا) مدافعًا عن قضية فلسطين في وجه العدوان؛ فضلا عن الآلة الإعلامية المنحازة لإسرائيل. وبعد حديث رحمة مع مراسلة CNN بأربعة أيام فقط، كانت هي ضيفة برنامج “Piers morgan uncensored” مع بيرس مورغان. بدأت رحمة الحلقة، وكأنها، نوعًا ما، تحاول تقليد باسم يوسف في سخريته من بيرس؛ فضلاً عن مقاطعته بالحديث بشكل دائم. لكن هذا، وعلى عكس يوسف، أظهر “رحمة” وكأنها “مراهقة” مندفعة، لا تستطيع الحديث بشكل متزن وجدلي ومفهوم.
مورغان الإعلامي المراوغ، الذي سألها: ماذا عن الفلسطينيين “العاديين” الذين يموتون بسبب هجوم حماس على دولة إسرائيل؟ فلم تجبه رحمة، وتهربت من سؤاله، وبدأت في قول كلام مُكرر، عن عدم التزام إسرائيل بالقانون الدولي. مورغان مذيع مراوغ، وعلى ضيفه المدافع عن فلسطين الحديث معه بشكل متزن وجريء، مع امتلاك الكثير من الشواهد والروايات المضادة؛ فضلاً عن شرح الحالة الفلسطينية، التي تربط حماس بالشعب الفلسطيني؛ فالمقاومة جزء لا ينفصل عن الشعب. وغير ذلك من أسئلة، يوجهها مورجان، ولا تُجاب عليها إلّا من سياسي، أو حتى غير سياسي، لكن عنده القدرة على النقاش والتناظر، وهذا ما افتقدته رحمة زين.
في مجتمع الاستعراض والفُرجة، ضمن الفضاء الرقمي، ربما تتحول كل الأشياء إلى أرقام، وتتحلل فيما هو مضمونها، من معان وقيم وغير ذلك من دلالات وسياقات هامة، لا يمكن تجنبها أو تهميشها مقابل الأرقام، ومفاهيم الترند و"الريتش، reach".
في عصر الرقمنة الذي نعيشه اليوم، والذي من خلاله جعل ملايين الناس تعيش أمام ملايين الناس، الجميع يُشاهد الجميع، وهنا، وتحديدًا في ساعات الكوارث الإنسانية، ينتبه الجميع لما يحدث، من يموت ومن يعيش، من يدين، يتضامن أو يصمت، إلى آخره من ردود الفعل. وهنا يتحول الفعل ذاته، من فعل فردي قادم من الذات، إلى فعل جماعي متأثرٍ بالجمهور المُشاهد. وبدلاً من التضامن ذاته، الذي يستمر ويجعل من نفسه -بلغة السوشيال ميديا “ترند”– إيجابيًا وفعالاً يضغط على الحكومات والمؤسسات الإعلامية لتحسين مسارها التضامني تجاه القضية؛ بل ومُساعدة فلسطين وشعبها تحت الاحتلال والحصار، لكن ما حدث مؤخرًا، هو تحول المتضامن ذاته، إلى ترند يتحدث عنه الناس وعن سخريته وحديثه.. إلى آخره.
في مجتمع الاستعراض والفُرجة، -حسب وصف غي ديبور- ضمن الفضاء الرقمي، ربما تتحول كل الأشياء إلى أرقام، وتتحلل فيما هو مضمونها، من معان وقيم وغير ذلك من دلالات وسياقات هامة، لا يمكن تجنبها أو تهميشها مقابل الأرقام، ومفاهيم الترند و“الريتش، reach”وغير ذلك. وهنا يأتي دور الاستهلاك، ليلتهم كل ما له قيمة، وإن كان التضامن نفسه مع الضحايا، لكن عندما يقاس فعل هذا التضامن بالأرقام، لا بالحديث نفسه، يصبح تضامنًا، سائلاً واستهلاكيًا، ومشروطًا بالمشاهدات الضخمة. وهنا؛ من لم يتوفر له منصة وحديث مع بيرس مورغان، أو أي منصة أُخرى، لا تجلب مشاهدات ضخمة، إذًا فلا داعي لتضامنه، لأنه لن يُعترف به، طالما أنه لن يكون حديث الرأي العام.
التضامن مع فلسطين بكافة أشكاله، مع مراعاة اختلاف وإدراك ووعي وإجابات المتضامنين، حتى وإن أصابتها الأخطاء، شيء هام ويُحسب للمتضامن. لكن التضامن عبر فضاء حر؛ مثل مواقع التواصل الاجتماعي، ربما لا يتطلب إلّا محاسبة القاتل والتضامن مع الضحية، بدون تفاصيل تخص القضية ذاتها، لكن في فضاءات أُخرى، يتطلب التضامن إمكانيات أُخرى، منها الدراسة والاختصاص والوعي بما تتحدث عنه، حتى لا يؤخذ التضامن على أنّه نوع ما من السذاجة والمراهقة الفكرية والسياسية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.