في صعوبة الرسائل البديهية: هل نحتاج للمناداة بإنهاء التطبيع ؟
على الرغم من بديهية الرسالة، إلا أن الموضوع صعب وخطر سياسياً وقانونياً حين لا يفترض به أن يكون كذلك. يفترض الآن بكل الدول العربية تحديداً والمطبعة مع إسرائيل أن تفك هذا التطبيع، وأن تنهي كل العلاقات والصلات وأن تغلق السفارات وأن تسحب الدبلوماسيين، ويا حبذا لو اعتذرت كذلك عن خطوة التطبيع تلك للفلسطينيين، الذين يُنحرون الآن في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع.
أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً. يمكنكم أن تتخذوا موقفاً الآن، فافعلوا، قبل أن تصبح الحفرة أعمق، وبلا قرار.
خطرة هي الرسالة لأنها تخاطب دول عربية وخليجية متشابكة المصالح، حساسة العلاقات ولأن هذه الدول الشقيقة أصيبت بدرجة من الحساسية المرتفعة، والتي تعالجها بدورها بدرجات من ردود الأفعال المضادة غير المسبوقة.
من الطبيعي أن تستقبل الدول العربية المطبعة مع إسرائيل الآن موجة من الغضب تستثيرها الإبادة الحاقدة الجماعية التي تحدث في غزة الآن، ولو لم تقم موجة الغضب هذه تجاه فعل التطبيع والقائمين عليه، لبدا أن العرب، بل والبشرية بأجمعها، قد فقدت البقية الباقية من إحساسها الإنساني وطبيعة غريزتها البشرية.
الطبيعي أن تغضب الشعوب العربية تحديداً والعالمية جميعاً، والطبيعي أن تخاطب هذه الشعوب المطبعين وأصحاب العلاقات السياسية والاقتصادية، خصوصاً الشعوب من “أقرباء” الفلسطينيين في العرق والدم والثقافة.
الطبيعي أن يراجع المطبعون قراراتهم ليس لاكتشافهم صدق القضية الفلسطينية، وليس إحقاقاً لحق تاريخي ووطني قديمين وليس إيماناً بمبدأ أحقية أهل الأرض في الأرض والسقوط الأخلاقي للاحتلال، فكل هذه معلومات ومشاعر يفترض أنها موجودة ومثبتة ومتفق عليها، من كل الشعوب العربية بداية من القرن العشرين.
إنما يفترض بالمطبعين أن يراجعوا القرار اليوم، مهما كانت دوافع اتخاذه، بعد أن سالت دماء الغزاويين أنهاراً في شوارع غزة، وبعد أن قُصف المدنيين وطُحن الأطفال تحت الحديد والأسمنت وشردت أسر بأكملها وخرجت عائلات بمجملها من السجل المدني للمدينة. إنها جريمة حرب ذات درجة من البشاعة غير مسبوقة، ألا تستوجب هذه الجريمة إذن مراجعة القرار؟
إن ضغط إنهاء العلاقات واتخاذ قرارات قوية تجاه العدو الصهيوني لربما يقع عمومه على الحكومة المصرية، نظراً لتشاركها بالحدود مع غزة وامتلاكها معبراً هي من يتحكم به، وهي القادرة على إنقاذ حيوات الآلاف من خلاله.
إلا أن ذلك لا يرفع الواجب عن ظهور الحكومات الأخرى، التي طبعت وفتحت السفارات وتبادلت الدبلوماسيين وعقدت الصفقات الاقتصادية، بل وتبادلت العلاقات الاجتماعية سياحة وزواجاً ووداً دينياً وذهبت كل مذهب لتأكيد مشاعر “الصداقة”، مع حكومة تُقَتِّل اليوم أبناء عمومة هذه الحكومات، تطحن عظام أطفالهم تحت قصف صواريخها، وترمي، أي هذه الحكومة الصهيونية، بكل صفاقة وجرأة وتبجح بجرائم حربها البشعة في وجوه العالم أجمع معلنة بتهديد “هل من معترض؟”
نشهد قتل المدنيين بلا حساب، نناظر جثث الأطفال المقطعة تنتشل من تحت الركام، نسمع صرخات استغاثة المحاصرين تحت المباني والبيوت، ونحتاج لأن نكتب مقالات وتغريدات ومناشدا، تهيب بالعالم أن يقول للوحش الصهيوني توقف.
اليوم يوم وقفة الحق، وقفة المبدأ الأخلاقي، وقفة الحس الإنساني الغرائزي الطبيعي. اليوم يوم إعلانها من على المنابر السياسية قطعاً للعلاقات مع عدو وحشي غاشم، ومن على المنابر الدينية دعاءاً للمظلومين، ومن على المنابر الاقتصادية مقاطعة لمن وما يمول هذا السلاح الذي يقتل طحناً وعجناً هؤلاء الأطفال والمدنيين.
اليوم ليس كافياً إيقاف رش الملح على الجراح والذي كان يُرش رشاً موجعاً في الفترة الماضية احتفاءً من الدول المطبعة بتطبيعها، اليوم ليس كافياً الموقف السلبي المحايد، وكيف يمكن أن تكون السلبية رداً كافياً على تكريس جيش جرار، هو أحد أقوى جيوش العالم، ممولاً بأموال العالم الغربي، والعربي مؤخراً، لمهاجمة المستشفيات والمدارس ولتقتيل الأطفال وتشريد المدنيين وتفجيرهم على طرق نزوح هم دفعوهم إليها دفعاً؟ اليوم يوم موقف حاسم واضح ولو كان مكلفاً، فأي كلفة تقارن بتلك التي يتكبدها الغزيون؟
والدكتور أسامة الغزالي حرب، والذي يعرف نفسه على أنه “واحد من مثقفي مصر والعالم العربي” والذي كان “أحد أكبر رموز التطبيع ودعاته في مصر” كما يصفه جمال سلطان رئيس تحرير صحيفة المصريون في تغريدة له، لربما يقدم اليوم مثالاً واضحاً لخط رجعة صريح ومحترم من حيث اعترافه بالخطأ الفادح. حيث يقول في نهاية بيان اعترافه واعتذاره “أعتذر عن حسن ظني بالإسرائيليين، الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة، أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني، إني أعتذر!”.
بلا شك يصعب قبول هذا الاعتذار وإن كان مباشراً ومتضمناً اعتراف واضح وصريح بالخطأ بلا تبرير ولا مناورة، ذلك أن الآلاف من جثث الأطفال المسجاة في شوارع غزة تجعل من التسامح، تحديداً بالنسبة للفلسطينيين، أمر عصي على الروح والعقل، خصوصاً مع رجل يقر بنفسه أنه اختبر “نصف قرن من المعايشة ومئات الدراسات والأبحاث العلمية والمقالات الصحفية، والمقابلات الصحفية، والزيارات الميدانية”، فكيف بعد كل هذه الخبرات استطعت يا دكتور حرب أن تؤيد التطبيع؟
ورغم ذلك، يستثير هذا الاعتذار والاعتراف المباشرين شيئ من احترام المطلع عليهما كما وأنهما يقدمان نموذجاً لخط الرجعة الممكن والمقدَّر للأفراد كما وللحكومات. ليس المهم رد الفعل تجاه الدكتور حرب، ليس المهم أن يُغتفر موقفه العسير أو لا يُغتفر، ولربما أقل ثمن يدفعه الدكتور اليوم لموقفه هو أن يُحرم المغفرة.
يبقى أن المهم هو أن نسمع المزيد من إعلانات التراجع هذه، مهما كانت محرجة وعصية على الغفران. هذا أقل ما يقدمه المطبعون اليوم، أقل ما يتحملونه وأرخص الأثمان التي يدفعونها، من إحراج أو توبيخ، لصوت مساندة قدموه مسبقاً لعدو متوحش غاشم استقوى بهذا الصوت وكلف الشعب الفلسطيني أغلى وأعز الأثمان.
بلا شك الموضوع موضوع مصالح عليا أكبر منا جميعاً، مصالح هي على ما يبدو أهم من حيوات الشعوب بأكملها وأثمن من أجساد أطفال العرب ولربما حتى الغرب بمجملهم. بلا شك الشعوب غير راضية، وكيف لها أن تكون، إلا أنها عاجزة عن التعبير مكبلة الأيادي ومكممة الأفواه.
بلا شك أن بعض الشعوب الراضية والتي تخرج معبرة عن الرضا إنما هي شعوب ردود الأفعال، داخلياً تعلم بفظاعة الجريمة، ولأنها لا تملك التعبير، فإنها تضاعف خارجياً من رد الفعل العنيف، تبالغ في تأييدها ومساندتها لمرتكبي الإبادة الجماعية مبررة لهم بكل الطرق التي حتى هي لا يمكن أن تكون مقتنعة بها.
بلا شك أننا في منطقة غرائبية من عالمنا، نشهد قتل المدنيين بلا حساب، نناظر جثث الأطفال المقطعة تنتشل من تحت الركام، نسمع صرخات استغاثة المحاصرين تحت المباني والبيوت، ونحتاج لأن نكتب مقالات وتغريدات ومناشدات تهيب بالعالم أن يقول للوحش الصهيوني توقف، نحتاج لأن نطلب من الحكومات العربية، ولا غيرها، أن تقطع علاقاتها بالكيان الغاصب؟.
فيا له من زمن غريب ويا لها من بقعة جغرافية خارج حدود المنطق والمعقول. ورغم كل ذلك، ورغم تأخر الوقت، نقول أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً. يمكنكم أن تتخذوا موقفاً الآن، فافعلوا، قبل أن تصبح الحفرة أعمق، وبلا قرار.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.