هل حركة حماس، بما فعلته يوم السابع من أكتوبر، وما جنته بعد ذلك، هي حركة انتحارية؟ أو بمعنى أدق؛ حركة مقاومة انتحارية تقاوم من أجل بقائها، لكن ربما تتعرض للفناء من أجل هذا البقاء؟ وهل إسرائيل هي الأخرى دولة انتحارية؟ بما أنها هي أيضًا تستخدم الفعل ذاته من وقت لآخر؛ فتعرض نفسها للفناء من أجل البقاء؟
يرى المفكر الفرنسي، مغربي الأصل، “جيل أنيجار” إسرائيل كدولة انتحارية، وبإيجاز مُبسط الدولة الانتحارية: هي الدولة التي تحارب وتعرض نفسها للفناء من أجل هوسها بالأمان والبقاء، وهى بذلك تعد دولة انتحارية. يتشابه فعلها مع فعل الفلسطيني الانتحاري الفردي الذي كان يذهب إلى نقاط تمركز الجيش الإسرائيلي ويقوم بتفجير نفسه ليقتلهم، وفي ذات الوقت يقتل نفسه؛ فهو ينتحر من أجل البقاء، ليس بقاء جسده الفرداني؛ بل بقاء جسد المقاومة ذاتها المُتمثل في أجساد أُخرى تنتظر دورها من أجل البقاء والفناء معًا.
كذلك إسرائيل، الكيان الدولاتي المهووس بالأمن، وعقدة الفناء/ البقاء على أرض فلسطين؛ فهو حين يقوم بحملات عسكرية وتحديدًا في قطاع غزة، يستبق في محاولته فناء الآخر/ العدو قبل فنائه، لكنه في كل مرة يعرّض نفسه -مرغمًا- للفناء. هذا حينما ترد المقاومة من قطاع غزة بإطلاق الصواريخ التي باتت تصل إلى تل أبيب والقدس ومدن أُخرى في الداخل التاريخي لفلسطين، أو حتى عند اشتعال جبهات صراع خارج فلسطين أقوى فعالية وأثرًا من حرب المقاومة في غزة؛ ما يترتب عليها موجات سفر جماعية، تضم عشرات أو حتى مئات الآلاف كما في الحرب الحالية، كذلك ينزل عشرات الآلاف إلى الملاجئ المُخصصة للحماية، كما رأينا في مايو من عام 2021، خلال هبّة القدس.
في هذه الحالة، تتمثل إسرائيل في وجهين متناقضين تمامًا؛ إسرائيل المهووسة بأمنها وبقائها على هذه الأرض، وإزالة أي خطر داخلي أو خارجي يُهدد لديها هذا الهوس، وتحارب من أجل تحقيقه. لكنها في ذات الوقت تعرض نفسها للفناء كليةً؛ إذ في حالة حرب إسرائيل، لن تكون الحرب مثل أي حرب، يُحدث احتلالا، يمكثُ لسنوات ثم ينسحب، مثلما حدث في أفغانستان أو العراق أو فيتنام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى كما حدث في مصر والجزائر لعقود من قبل الاحتلالين البريطاني والفرنسي؛ بل وقتها ستنتهي دولة إسرائيل، يموت بعض مواطنيها ويعود المتبقي إلى بلدان قَدِموا منها في الأصل، وهنا تستبدل فلسطين بإسرائيل؛ في إحلال معكوس، التي ترى أنها هي الأصل، وما حدث هو استيطان إحلالي بحقها.
الدولة الانتحارية: هي الدولة التي تحارب وتعرض نفسها للفناء من أجل هوسها بالأمان والبقاء
John Doe Tweet
ومن هنا، عبر النظر إلى طرف الصراع الآخر، لاسيما في الصراع الأخير؛ فحركة حماس نرى أنّها فعلت تمامًا كما تفعل إسرائيل؛ فعلاً انتحاريًا، من خلاله عرضت ذاتها وغزّة بأكملها للفناء من أجل البقاء، مع الأخذ في الاعتبار الفارق الكبير بين القوتين؛ فكيف حدث هذا؟
كانت أهداف حركة حماس من هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل هو استعادة وجودها عبر طرح نفسها مرة أُخرى في مركزية الصورة، أهداف تتلخص في بضع نقاط رئيسة، منها ما هو عسكري تحرّري مثل كسر الصورة النمطية لجيش الاحتلال القوي الذي لا يُقهر؛ حيث ظهر ضعيفًا هشًا استخباراتيًا وميدانيا، وما هو سياسي يتمثل في وقف حركة التطبيع مع الدول العربية التي كانت تسير في طريقها دون عوائق واحدة تلو الاُخرى، وفي القلب من هذه الدول كانت المملكة العربية السعودية، ومن هنا تعود مرة أُخرى مسألة حل الدولتين، كشرط أساسي لاستكمال التطبيع.
ومنها ما هو دولي؛ فاستطاعت حركة حماس أن تُعيد طرح مركزية القضية الفلسطينية، كقضية إنسانية عالمية، أمام جميع حكومات العالم وشعوبها، وتبيان وحشية الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق أهل غزة، ويساعد هذا في إعادة تسليط الضوء على قطاع غزة المُحاصر منذ 17 عامًا، بعدما كانت الضفة الغربية والقدس في السنوات الأخيرة، هي محط أنظار العالم بما يرتكبه المستوطنون هناك من جرائم قتل وتهجير وإحلال بحق الفلسطينيين. هكذا عادت غزة، وعادت معها حركة حماس كممثل رسمي من خلال قوته، للشعب الفلسطيني، تتوجه إليه إسرائيل والعالم كله بدلاً من التوجه للسُلطة الفلسطينية، المنسقة العجوز، مع إسرائيل والقوى الدولية.
لكن هدف البقاء أصبح مُهددًا بالفناء، لأنه ومع توسع الحرب الهمجية على قطاع غزة، وإصرار إسرائيل على تحقيق أهدافها في غزة، وتخاذل المواقف العربية والإقليمية والدولية، تتعرض هنا حركة حماس؛ بل وقطاع غزة بأكمله للفناء؛ إذ أعلنت إسرائيل عن أهدافها من الحرب بشكل واضح، وأولها كان القضاء على حماس، واستعادة الرهائن، كضمان لعدم تكرار هذا الفعل.
على إثر الحرب الهمجية التي شنتها إسرائيل، دُمرت غزة عمرانيًا، من خلال استهداف المباني المدنية للسكان، كما استهدفت مقرات إدارة الحكم، والبنية التحتية من مستشفيات وجامعات ومؤسسات تعليمية وخدمية لأهالي القطاع؛ ما أدى إلى قتل الآلاف؛ فضلاً عن نزوح حوالي مليون ونصف المليون نسمة، أي ما يقارب ثلثي سكان القطاع، هذا فضلاً عن التوغلات الميدانية التي استطاعت فصل الشمال عن الجنوب الذي أصبح مُكدسًا بفعل النزوح إليه.
هذه الحالة الواقعية؛ أي التكدس في الجنوب في رفح الفلسطينية، أدت إلى حديث قوي ومُلحّ، حول مخطط تهجير أهل غزة إلى صحراء سيناء المصرية، واستيلاء إسرائيل على قطاع غزة كاملاً. لكن على الرغم من الضغط الإسرائيلي على النظام المصري لتنفيذ هذا المُخطط، مقابل مكاسب سياسية واقتصادية، إلّا أن الموقف المصري الرسمي المعلن -إلى الآن- رافض لهذا التهجير لأسباب تخص الرغبة في عدم تصفية القضية الفلسطينية، حسب التصريحات الرسمية، ولأسباب واقعية تخص أمن مصر القومي.
لكن في حالة مُخطط التهجير، وهو مُخطط غير قابل للتنفيذ في ظل رهانات الواقع، تكون حماس من خلال عملية السابع من أكتوبر قد انتحرت، ليس كحركة فقط؛ بل كقطاع كامل تتولى مسؤولية إدارته. أما الذي يراود الواقع الحالي كمُخطط -ربما نوعًا ما- قابل للتنفيذ، هو فناء حركة حماس ذاتها فيما يخصها كجسدٍ سياسي عسكري؛ إذ هي الآن تخوض حربًا شرسة مع الجيش الإسرائيلي في أجواء وشوارع القطاع، في حالة انتصار إسرائيل عليها، ستنتهي الحركة كتنظيم سياسي وعسكري، ربما لا تنتهي فلسفة وجودها، بما أن الفلسفة هنا هي مقاومة وتحرر من الاحتلال.
وحتى في حال إنهاء الحرب، على ما هي عليه الآن، بلا انتصار أو خسارة كلّية بين الطرفين العسكريين؛ إسرائيل وحماس، لن تسمح الأولى بعودة الثانية لإدارة قطاع غزة، وهذا ما يدور الحديث حياله في دوائر الحكم الأمريكية/ الإسرائيلية/ العربية؛ في الإجابة على سؤال من يُدير قطاع غزة بعد انتهاء الحرب؟ ربما تكون فلسفة هذه الإجابة في ختام مشهد الحرب ذاته، ومدى قوة حركة حماس السياسية؛ ولاسيما العسكرية المُتبقية في غزة، وهذا ما يحدد نسبة وجودها من عدمه؛ في مشهد ما بعد الحرب.
وضعت حماس نفسها كحركة مقاومة، لكنها في ذات الوقت مقاومة انتحارية، إذ هي من خلال وضعها مرة أُخرى في المشهد الفلسطيني عرّضت نفسها؛ بل عرضت غزة بأكملها، للفناء، كما تفعل إسرائيل دومًا من أجل بقاء دولتها وهوسها بالأمان وعقدة البقاء.
John Doe Tweet
حيال إدارة القطاع، أحاديث تدور حول نقل السُلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وربما تكون حركة حماس شريكة لها في إدارة القطاع، من خلال اختيار شخصية توافقية تحكم القطاع مع حركتي فتح وحماس، أو حتى كما تتداول الأحاديث غير الرسمية -ولو بشكل ضعيف- عن إمكانية مشاركة عربية أو حتى أممية في إدارة القطاع. كل هذه السيناريوهات، وغيرها في ظل تخبط المشهد واستمرار الحرب، واردة بشكل أو بآخر، لكن ما هو أكيد، أّنه لن تسمح إسرائيل بحكم حماس للقطاع مرة اُخرى.
حققت حركة حماس في يوم السابع من أكتوبر، مكاسب سياسية واستراتيجية، لا شك في ذلك، لكنها خسرت أيضًا حين راهنت بل واعتمدت -مُجازفةً- على قوى عربية وتحالفات إقليمية ومجتمعات دولية لم تكن على قدر جيد من الاستعداد للوقوف معها؛ فلم تتحرك الدول العربية والإسلامية تحركًا حقيقيًا لوقف حرب الإبادة على غزة، على الرغم من أنها تمتلك مقومات الضغط على إسرائيل لوقف الحرب، كذلك لم تنفذ ما خرجت به من توصيات ختامية في القمة العربية الإسلامية فيما يخص كسر الحصار وإدخال المساعدات؛ فقد تخاذل النظام المصري وخضع للتنسيق الإسرائيلي فيما يخص حصار غزة؛ ما أدى إلى تجويع وتعطيش أهلها بمشاركة وتواطؤ عربي.
كما لم تكن القوى الأخرى التي تُعرف تحت مظلة محور المقاومة الذي تقوده إيران، متفاعلة بقدر مناسب لتهديد إسرائيل وتخويفها والضغط عليها من أجل وقف إبادة أهل غزة، (ربما يسعنا مقال آخر لشرح الموقف الإيراني غير العنيف، واستراتيجياتها السياسية والعسكرية في التعاطي مع الحرب على غزة) هذا على الرغم من اشتعال الجبهة الجنوبية في لبنان بين حزب الله وإسرائيل واستهداف جماعة أنصار الله الحوثي للسفن التجارية التابعة أو المتوجهة لإسرائيل، كل هذا لم يردع إسرائيل لوقف الإبادة؛ بل استمرت، وزاد على ذلك استنادها على الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذها موقفًا عسكريًا يستدعي التدخل لحماية إسرائيل من جبهات أُخرى خارج فلسطين، لاسيما الجبهات التي تتبع إيران، بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما كانت ولا زالت القوى الدولية، بما فيها أهم الحكومات، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، شديدة الإدانة لحركة حماس، كما شاركت إسرائيل في تنفيذ الإبادة الجماعية في غزة، بما في ذلك استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار؛ فضلاً عن المساعدات العسكرية المباشرة، كذلك دول أوروبية مثل وكندا وفرنسا وألمانيا، دعمت وأيدت إسرائيل فيما يعرف بحقها في الدفاع عن نفسها. بالإضافة إلى أن المنظمات الإنسانية لم تتحرك بقدرٍ كافٍ للضغط على الحكومات والمجتمع الدولي لوقف الحرب في غزة، وأصبح نفاق العالم كرهانات حركة حماس على أكثر من جهة، واضحًا وخاسرًا.
من هذه السياقات والرهانات وغيرها، يمكن القول بأن حماس في يوم السابع من أكتوبر وضعت نفسها كحركة مقاومة، لكنها في ذات الوقت مقاومة انتحارية، لا مقاومة فحسب، إذ هي من خلال وضعها مرة أُخرى في المشهد الفلسطيني عرّضت نفسها؛ بل عرضت غزة بأكملها، للفناء، كما تفعل إسرائيل دومًا من أجل بقاء دولتها وهوسها بالأمان وعقدة البقاء، تعرض نفسها للانتحار والفناء.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
Thank you for the fortunate post. It was quite humorous, and it appears that you have progressed to a far more pleasant level. How can we still communicate?