“لازالت تراودني أفكار سيئة جدًا، بسبب كمية التعذيب وطول فترة السجن، وأشعر بالاكتئاب والشرود، وتأتيني كوابيس بشكل مستمر أثناء النوم، وأتمنى الحصول على أي علاج نفسي وجسدي في القريب العاجل”. تلك الأمنية هي طوق النجاة للصحفي اليمني الحارث صالح حميد، المفرج عنه مؤخرًا في صفقة تبادل الأسرى بين الشرعية، وقوات الحوثي الانقلابية في اليمن، بعد ثماني سنوات من الاختطاف والتعذيب.
ففي فجر الثلاثاء التاسع من يونيو /حزيران 2015، في فندق “قصر الأحلام” بالعاصمة اليمنية صنعاء، كان يجلس الصحفي حارث حميد ومجموعة من زملائه يمارسون مهمتهم في نقل الأحداث، وإذا بهم يسمعون طرقًا شديدًا على الباب، لتدخل مجموعة مسلحة وتقتادهم إلى قسم شرطة “الحصبة”، بعد مصادرة كل ما بحوزتهم من وثائق وكاميرات ومبالغ مالية؛ لتبدأ رحلة مؤلمة من التحقيق والتعذيب النفسي والجسدي.
استهداف متعمد للصحفيين
في مشهد يسوده الفوضى والعنف، غابت الحماية وتعطل القانون، وأصبحت الصحافة خطرًا كبيرًا على من يمارسها في اليمن، وباتت المعلومة قاتلة، وأصبح من ينقلها آثمًا يستحق العقاب.
صنف اليمن في المرتبة 168 من أصل 180 دولة في جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة عام 2023، وفقًا لآخر البيانات الصادرة عن منظمة «مراسلون بلا حدود» المعنية بالدفاع عن الحريات الإعلامية؛ حيث تتعرض الصحافة في اليمن لشتى درجات التضييق منذ دخول ميلشيات جماعة الحوثيين للعاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول عام ٢٠١٤؛ فقد قامت الجماعة الانقلابية بقصف مبنى الإذاعة والتلفزيون، والسيطرة على كافة المؤسسات الإعلامية ونهبها، وملاحقة عدد كبير من الصحفيين والشروع في قتل الكثير منهم؛ ما دفع البعض لمغادرة البلاد والتوقف عن العمل الصحفي، ونزوح العشرات منهم لمناطق آمنة، مما ترتب عليه توقف تام للعمل الصحفي في عدد من المناطق، وانتشار ما يسمى بصحافة «اللون الواحد».
ويقول الصحفي اليمني المُحَرَر هشام طرموم، خلال حديثه لـ”مواطن“: “إن العمل الصحفي في اليمن أصبح محفوفًا بالمخاطر”، موضحًا أن هناك صحفيين قتلوا خلال الحرب، وآخرين تعرضوا لاغتيالات، وما يزال هناك صحفيون في السجون.
لم تتمكن المواثيق والقوانين الدولية من حماية الصحفيين في اليمن، والحفاظ على حقوقهم في نقل المعلومة؛ فالبرغم من أن البروتوكول الأول لاتفاقيات چنيف 1977 في مادته رقم 79، والمتعلقة بتدابير حماية الصحفيين ينص على “أن الصحفيين الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة هم أشخاص مدنيون ويجب حمايتهم، شريطة ألا يقوموا بعمل سيء”؛ فإن من يحاول نقل المعلومة سيتعرض بشكل مباشر للقتل أو الاختطاف والتهديد.
أما الصحفي المُحرَرَ هشام اليوسفي، الذي خرج من السجون الحوثية في 15 أكتوبر / تشرين الأول 2020؛ فيروي لـ”مواطن“: أنه وقبل اختطافه بفترة كان يغطي إحدى الوقفات الاحتجاجية ضد جماعة الحوثيين، حينها شاهده أحد مسلحي الجماعة فأمر بإطلاق النار عليه ” لديه كاميرا وأطلقوا عليه في الركبة”، ولكن اليوسفي تمكن من الفرار وسط الحشود قبل أن تصيبه نيران القوات.
هشام اليوسفي وحارث حميد، هما اثنان من مئات الصحفيين اليمنيين الذين تم استهدافهم وترويعهم، منذ بداية الحرب في الأراضي اليمنية.
أطراف النزاع يشتركون في الانتهاكات
يشهد اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم، لاسيما على مستوى الحريات الصحفية؛ فالصحافة وسيلة إرهاب بالنسبة للفرق المتنازعة؛ فمنذ بداية الحرب في 2015 تم إغلاق 163 وسيلة إعلامية، منها 4 قنوات فضائية و7 إذاعات و119 صحيفة ومجلة، و33 موقعًا إلكترونيًا، وفقًا لتقرير نقابة الصحفيين لعام 2023.
ويقول نبيل الأسيدي، رئيس لجنة التدريب والتأهيل والعضو المنتخب بنقابة الصحفيين اليمنيين في تصريحات خاصة لـ”مواطن“: “إن الصحفيين في اليمن يتعرضون للانتهاكات من كافة أطراف الصراع؛ خاصة من قبل الميلشيات الحوثية والمجلس الانتقالي في عدن، بداية من القتل وحتى الاختطاف والتهديد؛ حيث رصدت النقابة أكثر من ٥٠ حالة قتل، و١٢٠ حالة شروع في القتل، و٣٥٠ حالة اختطاف واختفاء قسري، خلال السنوات الماضية”.
مؤكدًا أن اليمن لم يشهد انتهاكات بالجملة ضد الصحفيين منذ إنشاء المطبعة عام 1872، مثلما حدث في فترة الحرب بداية من ٢٠١٥ حتى اليوم؛ حيث يوجد ثلاث جهات متصارعة؛ وهي الحكومة الشرعية، وقوات الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي، وجميعهم يرغبون في تكميم أفواه المعارضة ونقل وجهة نظرهم لا غير.
ويذكر أنه في مايو/أيار عام 2015 قامت ميليشيا جماعة الحوثي باختطاف الصحفيين، عبد الله قابل ويوسف العزيري، مراسلي قناتي «يمن شباب» و«سهيل»، وإيداعهم بأحد مخازن السلاح في محافظة «ذمار» جنوبي اليمن، مما نتج عنه استشهاد الصحفيين بعدما قام طيران التحالف باستهداف عدة نقاط خاصة بالجماعة المسلحة في الجنوب ضمن “عاصفة الحزم”.
ووثقت نقابة الصحفيين اليمنيين في تقريرها السنوي للعام 2023، إجمالي 82 حالة انتهاك ضد الصحافة والصحفيين في اليمن، وتصدرت الحكومة المعترف بها قائمة المنتهكين بواقع 43 حالة بنسبة 52%، منها 20 حالة ارتكبها “المجلس الانتقالي الجنوبي”، وجماعة الحوثي 31 حالة بنسبة 38%، وارتكب مجهولون 5 حالات بنسبة 6٪؛ فيما ارتكبت وسائل إعلام 3 حالات انتهاك ضد منتسبيها بما نسبته 4٪ من إجمالي الانتهاكات. بحسب التقرير.
ويصف “الحارث حُميد” طبيعة الانتهاكات التي تعرضوا لها خلال فترة الاعتقال قائلًا: ” كنا نلاقي الضرب بالهراوات والحديد، والضرب بالأيدي والأرجل، واستخدام وسائل تعذيب كثيرة، كالتعليق في الهواء، ووضع الأسلحة على الرأس واستخدام الترهيب والتعذيب النفسي بأنهم سيقبضون على أهالينا أو الأولاد، وتم مطاردة بعض أهالينا، ومنهم من سجن فقط لصلة القرابة، وكذلك الحرمان من دورة المياه، والحرمان من الأكل والشرب والدواء، ومنعنا من الحصول على الشمس، وحرماننا من الفراش والأغطية”.
ويتابع: “التعذيب كان بشكل مهول وكبير، كأن تبقى معلقًا من يدك، ولا يوجد شيء تحت قدميك تقف عليه؛ فالضرب كان بشكل هيستيري؛ سواءً في التحقيقات أو بدون سبب”. وبحسب ما روى “حُميد”؛ فقد كان يتم وصف الصحفيين بألفاظ مثل ” كافر – منافق – خائن – مرتزق” وبناءً على تلك الأوصاف فإن الصحفيين لا يستحقون الحياة وفق قوله.
وأسوأ ما رآه “حُميد” داخل المعتقل هو الاغتصاب الجنسي، يقول “كانوا يقومون بإخراج المساجين لكي يمارسوا معهم الجنس، ومن يرفض فعقابه عسير”، بالإضافة لمنع الدواء وأدوات النظافة الشخصية.
ضريبة نفسية باهظة
ضاق اليمن السعيد على الصحفيين، ولم يعد هناك مخرج؛ فمن نجا من الاختطاف والتعذيب، لم يتمكن من أن ينجو بنفسه من الذكريات الأليمة والأعراض النفسية التي رافقته طوال رحلته داخل وخارج المعتقل؛ فالترهيب النفسي كان متعمدًا وممنهجًا، حسب تصريحات الصحفيين المفرج عنهم.
لم ينج أحد من الصدمات النفسية؛ خاصةً هؤلاء الذين عانوا لسنوات في السجون من عمليات قهر وتعذيب وفقدان ذويهم؛ حيث فقد “الحارث حميد” والده خلال فترة اعتقاله في “سجن الأمن السياسي” في الثالث عشر من ديسمبر / كانون الأول 2017، تلك الحادثة التي مازالت تؤلمه؛ خاصة أنه لم يستطع أن يلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة.
لم يفقد “حُميد” والده فقط؛ بل فقد وظيفته الأساسية، وتجارته ومنزله؛ فلم يتبق له شيء سوى بعض الذكريات المؤلمة والاضطرابات النفسية، التي ربما تلاحقه مدى الحياة إذا لم يتلق العلاج النفسي والجسدي اللازم في أسرع وقت.
يقول حُميد: “لازالت تأتيني كوابيس بشكل مستمر أثناء النوم؛ فأنا تم تهجيري من بيتي تهجيرًا قسريًا، وأنا الآن بلا منزل، ومهدد من قبل الحوثيين بالقتل في أي لحظة، وأسرتي غالبيتهم فقدوا أعمالهم بسبب علاقتهم بي، وأنا فقدت تجارتي بسبب الحوثيين الذي أرادوا مصادرتها، ولا يزال بعض عائلتي خائفين، ولا يستطيعون مغادرة منزلنا لكيلا يتم مصادرته، وأنا الآن من دون وظيفة أو عمل، مما يؤثر على حياتي ونفسيتي وأسرتي”.
وصنُف اليمن كثالث أخطر دولة على الصحفيين حول العالم، وفقًا لمنظمة مراسلون بلا حدود؛ فتلك الأحداث المتصاعدة منذ أيلول للعام ٢٠١٥، كبدت الصحفيين وعائلاتهم خسائر مادية ومعنوية ونفسية كبرى؛ حيث باتت الأراضي اليمنية مقبرة جماعية للصحفيين؛ فمن لم تقتله قذيفة صاروخية، سيقتله الألم النفسي واضطراب ما بعد الصدمة.
ومن جانبها صرحت، منسقة برنامج الدعم النفسي في مرصد الحريات الإعلامية في اليمن، هيفاء العديني أن حوالي ٧٠ صحفي يمني يتلقون العلاج والدعم النفسي في المؤسسة حاليًا، وهذه النسبة ضئيلة جدًا مقارنة بمن يحتاجون للعلاج والدعم على أرض الواقع.
وأكدت “العديني” في تصريحاتها لـ”مواطن“، أنه مع دخول الحرب في عامها العاشر، باتت البيئة الصحفية والإعلامية متعبة جدًا للعاملين بها، في ظل الانقسام السياسي في البلاد، مشيرة إلى أن هناك الكثير من الصحافيين والصحافيات يعانون من اضطرابات نفسية، ويخافون من وصمة العار التي ستلاحقهم عند المجتمع لأنهم يتلقون دعمًا نفسيًا.
وفي سياق متصل، أكد الصحفي هشام طرموم، أن الصحفيين في اليمن يتعرضون لصدمات نفسية لها آثار كبيرة على حياتهم؛ فهناك عدد كبير منهم لم يتمكنوا خلال سنوات الحرب من لقاء أسرهم، وهناك صحفيون فقدوا ذويهم ولم يستطيعوا أن يلقوا عليهم نظرة الوداع الأخيرة. وتابع “طرموم“، أنه وبالرغم من مرور 3 سنوات على خروجه من السجن؛ فما زال يعاني من آثار نفسية دفعته لتلقي العديد من جلسات الدعم النفسي، ولكنه لم يتعاف بشكل كلي من المشاهد والذكريات العالقة في ذهنه.
يعد “طرموم” من القلة المحظوظة الذين تمكنوا من تلقي جلسات دعم نفسي، على عكس زميله حارث حميد وآخرين، من الذين لم يتمكنوا من تلك الجلسات بسبب سوء أوضاعهم.
تختلف ألوان العذاب وسنوات الاختطاف، ولكن الآثار النفسية واحدة، يقول الصحفي المحرر هشام اليوسفي: “مازالت كوابيس السجن والاختطاف تلاحقني في الأحلام، مازال بعض من أفراد عائلتي متواجدين في أماكن سيطرة الحوثي، وهذا يمثل قلقًا كبيرًا؛ فقد هددت الجماعة خلال فترة الاعتقال أنها قادرة على إيذائنا حتى لو كنا قد خرجنا من السجن”.
اتهامات مطاطية في ظل غياب القانون
المشهد الصحفي اليمني يعتريه البؤس والخوف والحذر الشديد والقمع، في ظل غياب تام للقانون؛ فيؤكد نبيل الأسيدي لمواطن، أنه لا يوجد محاكمات، ويتم إحالة الصحفيين للنيابة وصدور أحكام إعدام ضدهم دون شرعية قانونية، واصفًا ما يحدث ضد الصحفيين بـ “تسونامي الحريات اليمنية”.
وأوضح عضو نقابة الصحفيين، أنه في حالة الحرب التي بدأت منذ ٢٠١٥ تم إلغاء كافة القوانين واللوائح، ويتم تطبيق القانون وفق الأهواء السياسية بعد تطويع القضاء، مشيرًا إلى أن القوانين واللوائح الخاصة بالصحافة وحرية الحصول على المعلومات معلقة، ويتم محاكمة الصحفيين في أمن الدولة وغيرها باتهامات مطاطية، والجماعات المتنازعة يختلفون فيما بينهم، لكن يتفقون على الصحفيين من خلال نسخ الاتهامات.
الكثير من الصحفيين ابتعدوا عن المهنة خوفًا على أنفسهم وعائلاتهم، بعدما أصبحت المهنة قاتلة مقلقة
John Doe Tweet
ومن جانبه أكد الصحفي هشام طرموم، أن هناك نصوصًا دولية وأممية خاصة بحماية الصحفيين، ولكن لا يتم العمل بها؛ حيث لا تعترف جماعة الحوثيين وغيرها بأي قوانين، وبالتالي لا تشكل تلك القوانين أية حماية لهم.
يروي الحارث حميد أنه خلال تواجده في سجن الأمن السياسي، تم التحقيق معهم وإجبارهم على البصم على أوراق التحقيق وهم مغمضو الأعين، موضحًا أن الأوراق كانت كثيرة للغاية، وعندما طلبوا من مسؤولي التحقيق الاطلاع على محتوى الأوراق أجابوهم: “هتبصم غصبًا عنك وإلا رجعناك الشواية”، «والشواية » عبارة عن قصبة حديدية معلقة في منتصف الغرفة، يتم تكبيل أيادي السجين ورجليه، ومن ثم تمرير تلك القصبة بين اليدين والرجلين، ورفعها إلى مكانها ليظل معلقًا مثل الدجاج المشوي، ويتم ضربه وصب الماء عليه بشكل متواصل حتى يعترف أو يغمى عليه.
واقع مؤلم ومستقبل مجهول
تدهور سعر العملة وارتفاع أسعار المعيشة والخوف من الملاحقة والضغط النفسي الكبير؛ في ظل غياب الدعم المادي والنفسي، دفع ذلك كثيرًا من الصحفيين لترك وظائفهم ومغادرة البلاد؛ حيث يحتاج الكثير منهم لعلاج نفسي عاجل ودعم مادي من أجل الحياة؛ فالفرق المتنازعة في اليمن باتت وحشًا مفترسًا يطارد كل من ينقل المعلومة، ويكشف عضو نقابة الصحفيين اليمنيين نبيل الأسيدي، المشهد الصحفي في اليمن الآن، قائلًا: ” هناك أزمات مادية منذ بداية الحرب؛ حيث فقد الكثير من الصحفيين وظائفهم ورواتبهم؛ سواء كان بعد قصف المؤسسة الإعلامية، أو ابتعاد الصحفي عن المهنة بسبب الملاحقة والتعذيب”.
ويستكمل: «كثير من الصحفيين بدون رواتب منذ ٨ سنوات، لأنهم يسكنون في مناطق تسيطر عليها جماعة الحوثيين، وترفض الحكومة تسليمهم رواتبهم، ويطالبونهم بالنزوح من مناطقهم للحصول على راتبهم الشهري الذي لا يزيد عن ٣٠ دولارًا».
واستنكر “الأسيدي” مطالبات الحكومة للصحفيين بالنزوح من مناطقهم التي تبعد مئات الكيلومترات للحصول على مرتب ٣٠ دولارًا شهريًا، وربما لا يحصل عليه الصحفي في النهاية بعد المعاملات البنكية.
يبدو المشهد الصحفي اليمني للبعض هادئًا لا يشوبه ملاحقات ولا تعذيب، -إلا حالات قليلة- ولكن هذا هدوء ما بعد العاصفة؛ فالكثير من الصحفيين ابتعدوا عن المهنة خوفًا على أنفسهم وعائلاتهم، بعدما أصبحت المهنة قاتلة مقلقة؛ فما أقسى أن تضيق عليك بلدك فقط لأنك تمتهن الصحافة.
Fantastic beat While you’re making modifications to your website, I’d like to know. How can I register on a blog website? I found the account to be really helpful. Though your programme presented a fantastic and straightforward concept, I was already aware of this to some extent.