الصبح الأول في رام الله، أستيقظ وأسارع بفتح النافذة، شو هالبيوت الأنيقة يا أبو حازم؟ سألت وأنا أشير بيدي إلى “جبل الطويل” المطل على رام الله والبيرة.
– مستوطنة!
(رأيت رام الله – مريد البرغوثي)
عام 1999، وصل إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي شكوى من مجموعة مستوطنين عن ضعف الاستقبال في هواتفهم على منحنى طريق 60 رام الله – نابلس بالقرب من القرية الفلسطينية برقة، استجابت الحكومة حينها لهذا الطلب، وتكفلت شركة أورانج لخدمات الهواتف بإنشاء برج هوائي استقبال على هضبة قريبة من هذا المنحنى، وبالفعل بدأ تدشين هذا البرج الذي احتاج بطبيعة الحال إلى حارس مسلح يقف على حراسته طوال أيام الأسبوع.
جاء الحارس وأقام لنفسه غرفة، وبعد وقت وجيز جلب عائلته لتقطن معه في تلك الغرفة، التي بدأت تتحول مع الوقت إلى منزل متعدد الغرف، ثم جاءت بعد ذلك خمسُ عائلات على شرف هذا الحارس آخر سنة 2002، استلزم هذا الأمر بطبيعة الحال إقامة بنية تحتية خدمية لهذا التجمع السكني؛ من تمهيد طرق وإنشاء حضانة للأطفال، ثم جمع تبرعات لإقامة كنيس يهودي صغير يخدم الناس في تلك المنطقة المستحدثة.
أضحت تلك البؤرة التي سميت بـميغرون “Migron” إحدى أكبر البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، وبالرغم من هدمها عدة مرات، إلا أنها أقيمت مرات عديدة من جديد. هذا ومع عدم قانونيتها لدى المحكمة العليا في إسرائيل إلا أنها تتلقى تأييدًا مطلقًا بطبيعة الحال من الحكومة الإسرائيلية نفسها، والتي تتهاون وتماطل في تنفيذ القانون، لدرجة أن عددًا من السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض الذين ترافعوا أمام المحكمة لأخذ حقوقهم ماتوا قبل أن يتم تنفيذ أي خطوة من الخطوات التي أيدتها المحكمة نفسها.
تلك القصة ليست الوحيدة في الضفة الغربية؛ بل هي ضمن عشرات القصص وراء كل تلك البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، وتكاد تكون طريقة معروفة وثابتة لإنشاء بؤر أو مستوطنات في الضفة، بداية من حارس، وانتهاءً بمجمع سكني مسلح يصعب السيطرة عليه.
في هذا المقال سنناقش طبيعة هذا العمران وكيف بدأ، وما الذريعة التي أقامتها دولة إسرائيل لإنشاء ما يربو على 150 مستوطنة في الضفة الغربية، تحمل بين أسوارها العالية نصف مليون مستوطن، غالبيتهم مسلحون مدعومون من قبل الجيش والحكومة الإسرائيلية على حساب أصحاب الأرض أنفسهم، وإلى أي مدى أثر عمران المحتل الإسرائيلي على النسيج العمراني والاجتماعي لفلسطين التاريخية، وتحديدًا في الضفة الغربية.
الاستيطان.. سياسة العار
منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية في 5 يونيو 1967، وقامت بإنشاء 144 مستوطنة -قابلة للزيادة-، بالإضافة إلى أكثر من 100 بؤرة استيطانية. وتختلف المستوطنة عن البؤرة في القانون الإسرائيلي؛ فالأولى قانونية بالنسبة للمحكمة العليا في إسرائيل، وبطبيعة الحال بالنسبة للحكومة، أما الأخيرة فهي غير قانونية لدى المحكمة العليا، لكن الحكومة عادة تتهاون في تنفيذ القانون وتتساهل في إنشائها؛ بل وتشجعها عن طريق أذرعها الحزبية؛ خاصة في فترة الانتخابات. إلا أن النوعين -الأول والثاني من الاستيطان- غير قانونيين لدى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعدم قانونية الاستيطان في الضفة الغربية نابع من أن الأمم المتحدة تقر باحتلال دولة إسرائيل لهذا الجزء فقط من فلسطين.
لا يقف الاختلاف القانوني وحده مُفرِقًا بينهما؛ بل يصل أيضًا إلى اختلاف عمراني؛ فيختلف في بعض الأمور، أولها المساحة؛ حيث تحتل المستوطنة مساحة أكبر من البؤرة الاستيطانية، بالإضافة إلى وجود حالة منتظمة من البناء والعمران فيها، على عكس البؤرة الاستيطانية التي تكون أقرب إلى العشوائية؛ حيث تتكون من البيوت الخشبية المتنقلة أو الكرفانات. أما العامل الجوهري في تلك النقطة تحديدًا فهو موقع كل واحدة منهما؛ فتقع البؤرة عادة في منطقة عشوائية -يقصد اختيار المكان نفسه-، في حين تختار الحكومة بعناية موقع المستوطنة وعلاقتها بالمدن والقرى الفلسطينية المجاورة، فضلًا عن إنشاء خط دفاع أمني يضمن سلامة السكان فيها.
كيف يستولي الاحتلال على الأرض؟
في 14 مايو 1948 أعلنت مجموعة من المنظمات المسلحة قيام دولة إسرائيل على مساحة 78% من مساحة فلسطين التاريخية، أدى ذلك إلى تهجير ما يقرب من 800 ألف فلسطيني من تلك الأجزاء التي سيطرت عليها الدولة الوليدة؛ فيما تم القضاء على 531 قرية تمامًا بإبادتها وتطهيرها عرقيًا. هاجر معظم الفلسطينيين إلى الضفة الغربية التي آل حكمها إلى الأردن، وإلى قطاع غزة الذي آلت إدارته إلى مصر؛ فيما توجه بعضهم إلى لبنان وسورية. ظلت الأمور على هذا الوضع حتى سنة 1967 التي أعقبت احتلال فلسطين بأكملها، قامت قوات الاحتلال بإقامة مستوطنات في الضفة الغربية منذ هذا التاريخ تحديدًا حتى الآن.
لكن بناء المستوطنات استلزم بعض الإجراءات القانونية التي أجرتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، تلخصت تلك القرارات في أخذ الأراضي من الفلسطينيين لاستغلالها عاجلًا أو لاحقًا في إنشاء مجمعات يهودية في الضفة الغربية، كان الاختيار دقيقًا كذلك؛ حيث تم اختيار أفضل المناطق من الناحية الأمنية والعمرانية.
إن فكرة الاستيطان هي في حد ذاتها تعبر عن مفهوم دولة إسرائيل في الاحتلال؛ حيث تُعوَض الكثافة السكانية للفلسطينيين بفكرة الاستيطان
John Doe Tweet
أولى القرارات التي اتخذتها إسرائيل كان الأمر العسكري رقم 58 بتاريخ 23 يوليو سنة 1967؛ حيث قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن أي مالك قانوني لأي أرض غادر الضفة الغربية قبل تاريخ 7 يونيو 1967، أو في وقت لاحق، تعتبر تلك الأرض من هذا التاريخ أرضًا مهجورة تحت بند “أملاك للغائبين”، ويتم إنشاء حارس أملاك الغائبين وتخويله السلطة الكاملة فيها. تلا هذا القرار قرار عسكري بأن أي أرض تملكها دولة معادية أو هيئة متصلة بتلك الدولة المعادية تؤول ملكيتها إلى الدولة.
انتهى هذا القرار بأن سيطرت الدولة الإسرائيلية على مساحات ضخمة من الأراضي داخل الضفة الغربية، من بينها أراض ذات ملكية خاصة لأفراد في فلسطين، بالإضافة إلى الأراضي التي كانت تؤول ملكيتها سابقًا لدول مثل الأردن التي كانت تحكم الضفة في فترة ما بعد 1948 حتى تاريخ احتلال إسرائيل لها.
وعلى ناحية أخرى، بدأت إسرائيل في السيطرة كذلك على مساحات أكثر وأكثر من خلاصة قرارات تتعلق بالفراغات العمرانية وأراضي المشاع أو المنفعة العامة؛ حيث أصدرت قرارات سنة 1969 بأحقيتها في إعلان مناطق معينة في الضفة الغربية كمحميات طبيعية، وإخضاعها لقيود صارمة تحافظ عليها كمحميات طبيعية تحت ملكية الدولة، كانت معظم تلك الأراضي بهذا المفهوم التي تقع بين أحياء وأخرى، والغابات والمساحات الصحراوية، لاحقًا تم استبدال تلك المحميات الطبيعية بمستوطنات يهودية.
خلال الأعوام الماضية تم تصنيف 40% من مساحة الأراضي التي من المفترض أن تكون متوفرة للفلسطينيين في الجزء المحتل من مدينة القدس كمساحات عامة مفتوحة، يحظر البناء عليها أو أن تكون ذات ملكية خاصة، وبالتالي يجرم التعدي والسيطرة عليها من قبل المواطنين. كان الهدف من وضع تلك المساحة بهذا الشكل هو إتاحة الفرصة فيما بعد لبناء مستوطنات عليها بعد ذلك؛ مثلما جرى في تلة شعفاط تمامًا.
أما الأراضي التي استهدفتها إسرائيل بشكل خاص فهي تلك الأراضي التي كانت تؤول ملكيتها إلى الدولة قبل الاحتلال، وهي ما تسمى بأراضي الميري؛ حيث سيطرت إسرائيل على 16% من مساحة الضفة الغربية بشكل كامل، وهي تلك التي تقع تحت مسمى أراضي الدولة أو المنفعة العامة.
وهو ما جرى مثلًا في بداية الثمانينات؛ حيث أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن كل أرض لا يستطيع الفلسطيني إثبات ملكيته لها فهي ملك للدولة، بالإضافة إلى أي أرض تقع تحت بند المشاع، وهي تلك الأراضي التي كانت تمتلكها الدولة قبل ذلك، تؤول ملكيتها إلى الحكومة الإسرائيلية، الذي بدورها بدأت في تأجيرها إلى المنظمات والوكالات اليهودية والصهيونية في إسرائيل بهدف إنشاء مستوطنات يهودية عليها.
السيطرة العمرانية
تنفصل الضفة الغربية عن سائر أراضي فلسطين التاريخية بجدار عازل، طوله 490 كيلو مترًا من أصل 700 كيلو متر، وارتفاع يصل إلى 8 أمتار، بالإضافة الحراسة المشددة وكاميرات المراقبة المعلقة عليه، عند إنشاء هذا الجدار، قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بانتهاك الأراضي الزراعية التي وقع الاختيار عليها لإنشاء هذا الجدار، أما الضرر الأكبر لهذا الجدار فهو الانعزال الاجتماعي الذي صنعه، فضلًا عن تقطيع أوصال الضفة الغربية إلى قطع مختلفة.
أنشئت المستوطنات في مناطق مختلفة في الضفة الغربية داخل الجدار العازل وخارجه، ويمكن ببساطة شديدة وبدون أي تدقيق، التفريق بين المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وأحياء الفلسطينيين، بداية من السقف الجمالوني الأحمر الذي يغطي كل المستوطنات اليهودية، بغرض تمييزه لسلاح الطيران الإسرائيلي في أي عملية استهداف للأحياء الفلسطينية، بسبب التقارب العمراني بينهما، نهايةً إلى نمط البيوت المنمق والواسع والذي يأخذ شكلًا تراثيًا وقديمًا في المنطقة؛ فضلًا عن الموقع الجغرافي الذي يشكل عاملًا رئيسًا في العمران الاستيطاني.
الحواجز الأمنية جزء لا يتجزأ من العمران الاستيطاني؛ حيث يتم إنشاء حواجز أمنية عند مدخل أي مستوطنة أو بالقرب منها بهدف منع دخول أي فلسطيني إلى منطقة المستوطنات
John Doe Tweet
يتم اختيار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وفقًا لعوامل جغرافية رئيسية؛ حيث تقع على مناطق هضبية مرتفعة، بحيث تجعل من تلك المستوطنات ذات استحواذ عمراني على ما دونها من الأحياء الفلسطينية أسفلها، يمكن رؤية الفارق الشاسع في الارتفاع بين البيوت الفلسطينية والمستوطنات اليهودية بوضوح شديد، لدرجة تجعل من بعض الفلسطينيين يقومون بصنع سياج حديدي يغطي أسقف منازلهم بسبب الاعتداءات المتتالية من قبل المستوطنين عليهم. يتم إنشاء طرق سريعة وممهدة لخدمة المستوطنات، فيما تعاني القرى والمدن الفلسطينية بانعزال عن تلك الطرق السريعة.
أما عمارة المنازل نفسها فعادة ما يتم بناؤها بشكل واسع وكبير، بالإضافة إلى أنها تتخذ شكلًا أفقًا لا رأسيًا؛ فلا تبنى كعمائر مثلًا؛ بل تبنى البيوت بشكل منفصل للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الأرض.
فيما تضع إسرائيل المستوطنات اليهودية في مناطق معينة تهدف من خلالها إلى عزل الأحياء الفلسطينية عن بعضها بعضًا، وبالتالي أصبح من الصعب أن يتحرك أبناء المنطقة الواحدة من حي إلى حي، يهدف هذا العزل إلى إنهاء أي تعاون مشترك بين أبناء الوطن الواحد، كي يسهل القضاء على أي مقاومة محتملة تجاه السلطات المحتلة.
الحواجز الأمنية جزء لا يتجزأ من العمران الاستيطاني؛ حيث يتم إنشاء حواجز أمنية عند مدخل أي مستوطنة أو بالقرب منها بهدف منع دخول أي فلسطيني إلى منطقة المستوطنات؛ حيث يتم تخصيص طرق معينة لهم، ويمنعون من السير في الطرق الأخرى، بالإضافة إلى إنشاء الحواجز الأمنية على الطرق الرئيسية والمتفرعة مع تفتيش دائم ومستمر لأهالي فلسطين، بالإضافة إلى تخصيص طرق وشوارع رئيسة للمستوطنين يمنع تجول الفلسطينيين فيها بأي طريقة.
إن فكرة الاستيطان هي في حد ذاتها تعبر عن مفهوم دولة إسرائيل في الاحتلال؛ حيث تُعوَض الكثافة السكانية للفلسطينيين بفكرة الاستيطان، عن طريق تشجيع اليهود في العالم على الهجرة إلى إسرائيل، وتوفير مكان آمن ومستقر ماديًا، بالإضافة إلى نشاطات اجتماعية ووظيفية ثابتة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
المصادر
- أرض جوفاء الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي، إيال وايزمان.
- السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة سنة 1967، أحمد عز الدين ومنير فخر الدين.
- الهندسة المعمارية الديموغرافية في القدس، إيال وايزمان.