يتعرض الملحدون للتنميط وتصويرهم كمرضى نفسيًا يحتاجون إلى علاج، حروبٌ لم تهدأ منذ فجر التاريخ؛ إذ يسعى الملحدون إلى التفكير دون قيود، بينما يجتهد المؤمنون في ترسيخ القيم والمعتقدات.
ويعتبر الإلحاد نظامَ معتقدات موجودًا منذ قرون، لكنه بدأ يكتسب شهرة خلال عصر التنوير في القرن الثامن عشر. كان هذا هو الوقت الذي رجحت فيه كفة العقل على النقل، ولم يكن العديد من مفكري التنوير ملحدين بشكل صريح، ولكنهم واجهوا معارضة من الأنظمة الدينية والسياسية والاجتماعية.
وحتى في ظل الحكم الإسلاميّ، وفي أوج قوة الإسلام وازدهاره، ظهر مفكرون ينقدون التعاليم الدينية، واتُّهموا على إثرها بالهرطقة والجنون والمرض العقليّ، ويُتناولون في الكتب المعاصرة على أنهم مُلحدون ومُهرطقون، بالرغم من أنهم لم يكونوا ملحدين بالمعنى العصريّ.
واقتصرت آراؤهم على نقد النبوّة والكتب المقدسة؛ فالرازيّ لم يؤمن بالنبوة، وعمل على كشف التناقضات بين التوراة والإنجيل والقرآن، وابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة، نسب الخليفة المهدي (158- 169هـ) كل زندقةٍ إلى كتابه، وانتهى الحال بالمترجم والمفكر مقتولًا إثر شواء أعضائه على النار أمام عينيه، ولم يكن آخرهم أبو العلاء المعرّي الذي قسّم أهل الأرض لقسمين، ذي عقلٍ لا دين له، وذي ديّن لا عقل له، وقال: في كل جيل أَباطيل يدان بها فهل تفرد يوما بالهدى جيل.
ليس اختراعًا حديثًا
يعتقد الكثير من الناس أن الإلحاد وجهة نظر حديثة، تروّج لها الثقافة الغربية الحديثة بغرض ضرب القيم والمُعتقدات؛ مثل الله والدين والعائلة، وأن البشر لديهم استعداد طبيعي أو فطري للإيمان بالآلهة، بمعنى أنّ المجتمعات المبكرة كانت متدينة بطبيعتها، لأن الإيمان بالله هو “إطار افتراضي” يحكم النفس البشرية.
"لا يمكن اعتبار الإلحاد مرضًا نفسيًا، إنما هو مجموعة معتقدات يعتنقها الإنسان لأسبابه الشخصية، وما يمكن علاجه هو الاضطرابات النفسية التي قد ترافقه وقد لا ترافقه".
لكنّ دراسة جديدة تتحدى هذين الافتراضين؛ وشكّل نقدهما صلب كتاب تيم ويتمارش، أستاذ الثقافة اليونانية بجامعة كامبريدج، ويشير فيه إلى أنّ الإلحاد -الذي يُنظر إليه عادة على أنه ظاهرة حديثة- لم يكن شائعًا في اليونان القديمة وروما ما قبل المسيحية فحسب؛ بل ربما ازدهر في تلك المجتمعات أكثر من أيّ حضارة أخرى.
وقال: “إننا نميل إلى رؤية الإلحاد كفكرة لم تظهر إلا مؤخرًا في المجتمعات الغربية العلمانية، لكنّ المجتمعات المبكرة كانت أكثر قدرة بكثير من غيرها على احتواء الإلحاد ضمن نطاق ما اعتبرته أمرًا طبيعيًا”.
ويقترح ويتمارش أنّ عصر الإلحاد القديم قد انتهى، لأن المجتمعات متعددة الآلهة التي تسامحت مع هذا الإلحاد بشكل عام استُبدِلَت بقوى إمبراطورية توحيدية، تُلزم الناس بإله واحد “حقيقي”. ويقول إن تبني روما للمسيحية في القرن الرابع الميلادي كان مفصليًا، لأنها استخدمت الاستبداد الديني للحفاظ على تماسك الإمبراطورية.
هل الإلحاد مرض نفسي؟
تحكي لونا، (٢٧ عامًا)، ملحدة: “تلتزم أختي بحضور دروس الغناء لدى أحد أساتذة الموسيقى، وكالعادة أسأل أختي صاحبة الأربعة عشر ربيعًا عما يحصل معها في المدرسة والدروس الخصوصية، إلى ذلك اليوم الذي أتت فيه أختي من درس الغناء، وحكت لنا كيف بدأ الأستاذ بتوجيه أسئلة مثل: ماذا تتصرفون إذا صادفتم ملحدًا؟ أو ماذا تفعلون إن كان أحد أفراد أسرتكم لا يؤمن؟”.
وشدد في النهاية على أنّ الإلحاد مرضٌ نفسيّ يجب علاجه مثله مثل أي مرض، وخطورته أنه يصيب العقل والروح، لم يرق لي هذا الكلام كثيرًا، وعلى الفور اتصلتُ بالأستاذ ونبّهته أننا نرسلُ أختي لتأخذ دروسًا في الغناء فقط، وليس لتعليمها حول الإلحاد والأمراض النفسية وأمورٍ أخرى ليست ذات صلة، وأكدتُ له أننا سنتوقف عن إرسالها في حال تكرر الأمر.
يؤكد الأخصائي النفسي حسام حسون لمواطن أنه “لا يمكن اعتبار الإلحاد مرضًا نفسيًا، إنما هو مجموعة معتقدات يعتنقها الإنسان لأسبابه الشخصية، وما يمكن علاجه هو الاضطرابات النفسية التي قد ترافقه وقد لا ترافقه”.
وأضاف “إنّ التطرّف في الإلحاد وعدم تقبل الرأي الآخر وإقصاء الآخرين وفقدان المرونة النفسية، قد يسبب انعزال الشخص عن بيئته والمجتمع المحيط به، وقد يُدخله بتوتر وقلق واكتئاب وبعض اضطرابات الشخصية، وهذا ما ينطبق بطبيعة الحال على التطرف في أي دين أو مُعتقد”. وأكد على أنه لا يوجد شيء اسمه علاج نفسي للملحد.
وتابع: “ولكن في حال عانى هذا الشخص من اكتئاب أو قلق أو اضطراب في النوم أو الأكل أو مشاكل مع محيطه؛ فمن الممكن الوقوف على الطريقة التي ينظر بها إلى العالم وإلى نفسه وبنيته المعرفية بشكل عام، وهي غالبًا ما تحتوي بعض الأفكار غير المنطقية التي قد قد تكون مُرتبطة بمُعتقداته، وينبغي نقاش هذه المبادئ التي يتعامل ويفكر على أساسها خلال جلسات العلاج النفسي، لأنها جانب أساسي ومهم في حياة الإنسان”.
وعليه يقول فادي أبو ديب، وهو باحثٌ في الفلسفة الدينية، لمواطن: “إنّ مجرّد محاولة الإجابة على سؤال يتعلّق بربط الإلحاد بالمرض النفسي قد يشي بقبول فرضية وجود رابط خاص بين الأمرين، يروّج له بعض المتحدّثين على وسائل الإعلام العربية. والواقع إنّه لا رابط مميزًا يربطهما؛ فالإلحاد، الذي يتخذ في العربية -على الأقل عدة دلالات- كالتديّن، له أشكال وتجلّيات مختلفة، ويمكن أن يكون مصاحبًا أو غير مصاحب لمرض نفسيّ”.
وأضاف: “ومن الجدير ذكره أنّ المرض النفسيّ أمر يحتاج إلى تصنيف طبّيّ، وهذا ليس أمرًا تقضي به العامّة أو يجزم به رجال الدين أو الناشطون الثقافيون. ولكن إذا تحدثنا عن الاضطرابات النفسية والسلوكية الظاهرة للعيان؛ فإنّ بعض أشكال التديّن من وسوسة قهرية وعنف جسديّ أو نفسي على الذات وعلى الآخرين، هي دلالة على اضطرابات نفسية، وينطبق على الإلحاد نفس الأمر”.
خروج صحي من بعض أشكال التدين
من جهةٍ أخرى، تقول شكران (٣١ عامًا) لمواطن: “إنها بنت كل مبادئها في الحياة هي وفق مبدأ الخير والشر، وأي عملٍ لا يُبتغى فيه وجه الله لن يكون ناجحًا ولن يُكتب له التوفيق، استمررتُ بهذه المُعتقدات عقدين من الزمن”.
وتضيف: “في سن الخامسة والعشرين أُصبتُ بمرضٍ دخلتُ على إثره المُستشفى لمدة عشرة أيام، وكان من الممكن أن أفارق الحياة في أي لحظة”.
وتكمل، “في تلك الأيام العشر جلستُ مع نفسي كثيرًا، وعاتبتُ الإله الذي سمح للمرض بالدخول إلى جسدي وأنا في أوج التزامي بكل أنواع العبادات، حاكمتُهُ، لكنه لم يستطع الدفاع عن نفسه كثيرًا، قال لي إنّ هذا اختبار ودليل محبةٍ! رفضتُ عذره؛ فالحبّ لا يمكن أن ينطوي على الأذى والمرض!”.
"لا ضير من أن تؤمن بوجود الله، ولا ضير من أن تؤمن بعدم وجوده، شرط أن تحترم حق الآخر في أن لا يؤمن أو يؤمن، الإيمان أو عدم الإيمان هو شخصي".
تستطرد، “ثم ما لبث هذا الاختبار الذي قد يرميني في المشفى عشرة أيامٍ ويضعني في احتمالية الموت في أي لحظة، خرجتُ من المشفى وقضيت نقاهةً استمرّت شهرين، قرأتُ فيها الكثير من الكتب والمقالات والحوارات”.
وتقول، “لاحظ أصدقائي التغير الواضح في شخصيتي وأفكاري، واللافت أنّ بعضهم ألصق تلك التغيرات بدخولي إلى المشفى والرضّ النفسي والجسدي الذي تعرّضتُ له، أي أنني جننت وفقدتُ جزءً من قواي العقلية”.
وتختم، “لكنني أشعر أنني بتّ أكثر فهمًا لذاتي وما يدور من حولي، وما يمكنني من النجاح في أي شيء هو التعلم المستمر وقراءة كل جديد والتدريب الدائم، وليس أداء الطقوس!”.
وفي هذا السياق يقول باحث الفلسفة، فادي أبو ديب: “يمكن للإلحاد أن يكون أحيانًا طريق الخروج الصحّيّ من بعض أشكال التديّن الطوطمية المتزمتة، أو الوسواسية القهرية أو القَبَلية الجماعية العنيفة”.
ويضيف، “كما نعرف من حياة الكثيرين بمن فيهم بعض المشاهير، أن يشكّل مرحلة حياتية محورية يتم التركيز فيها على البحث والتقصّي من أجل الوصول إلى قناعات مختلفة ومعانٍ جديدة تغني حياة الشخص الباحث”.
ويكمل، “أي يمكن للإلحاد إذا لم يكن حالةً عبثية أو إنكارًا سوداويًا قطعيًا، أن يشكل جسرًا نحو أشكال أخرى من الإيمان أو التديّن الأكثر اتساعًا ورحابةً وإشراقًا. كل هذا يتحدد بحسب المسيرة الذاتية لكل شخص، ويصعب وضع قواعد عامة تنطبق على الجميع”.
وعلى ما يبدو فإنّ اتهام كل من يمتلك أفكارًا مغايرةً بالإلحاد وفقدان العقل وحلول الشيطان داخله لم يقتصر على العامة؛ بل تجاوزها إلى الطبقة المثقفة؛ حيث تعرّضت الدكتورة والباحثة النفسية وفاء سلطان لمثل هذه التهجمات؛ حيث قال لها قسّ إنها “مسكونة بالشياطين”.
وعلى ما يبدو فإنّ اتهام كل من يمتلك أفكارًا مغايرةً بالإلحاد وفقدان العقل وحلول الشيطان داخله لم يقتصر على العامة؛ بل تجاوزها إلى الطبقة المثقفة؛ حيث تعرّضت الدكتورة والباحثة النفسية وفاء سلطان لمثل هذه التهجمات؛ إذ قال لها قسّ إنها “مسكونة بالشياطين”.
كما اتهمها أحد المشايخ بالإلحاد، رغم أن الإلحاد ليس تهمةً، وهي لا ترى نفسها ملحدة، لكنها اختارَت رؤية الله خارج منظار الدين؛ وقالت وفاء سلطان لمواطن: “بالنسبة لقناعاتي الشخصية، لم يستطع دين من الأديان أن يجسد حقيقة الله المطلقة والافتراضية؛ فكل دين صبغ إلهه بصفات قوضت من تلك الحقيقة”.
وأضافت: “لا ضير من أن تؤمن بوجود الله، ولا ضير من أن تؤمن بعدم وجوده، شرط أن تحترم حق الآخر في أن لا يؤمن أو يؤمن، الإيمان أو عدم الإيمان هو شخصي Subjective، وليس موضوعيًا Objective، بمعنى أنك تحس بوجود الله، أو تحس بعدم وجوده، وفي كلا الحالين لا تستطيع أن تبرهن على صحة إحساسك، طالما هو إحساسك الشخصي فهو حقك، وطالما لا تستطيع أن تبرهن على صحة ذلك الإحساس، لا تستطيع أن تفرضه على أحد!”.
ما الأفضل للصحة النفسية؟ التدين أم الإلحاد؟
تربط المؤلفات والدراسات في العلوم الاجتماعية والطبية التدين بتحسن الحالة النفسية والجسدية للشخص؛ حيث تؤكد الأبحاث التي أجراها تايلر فاندرويل، أستاذ علم الأوبئة مع زملائه في جامعة هارفارد، ونُشِرَت في مجلة JAMA للطب النفسي التابعة للجمعية الطبية الأمريكية، الروابط بين حضور الخدمات الدينية وتعزيز الصحة النفسية والجسدية.
إذ يرتبط الحضور المنتظم بانخفاض معدل الوفيات بنسبة 30% على مدى 16 عامًا من المتابعة؛ وانخفاض بمقدار خمسة أضعاف في احتمالية الانتحار.
الإلحاد يمكن أن يمنح الناس إحساسًا قويًا بالهوية، كما يفعل الدين بالنسبة للمؤمنين.
وعلى الجانب الآخر، يفترض كثيرون أنّ عكس ما سبق صحيح أيضًا، أي أنّ العلمانية والإلحاد واللادينية تحمل تأثيرات سلبية على الصحة النفسية، لكنّ الأبحاث الحديثة التي أجراها قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، جامعة إيست تينيسي، في الولايات المتحدة الأمريكية كشفَت عن تفاصيل أخرى أكثر دقة.
واستخدم الباحثون عينة من البالغين الأمريكيين، لدراسة الصحة البدنية والنفسية للملحدين واللا أدريين (غير الموقنين بوجود الإله من عدمه)، والمؤمنين غير المنتمين إلى دين، والمؤمنين المُلتزمين بالتقاليد الدينية المنظمة. وأشارت نتائج الدراسة إلى أنّ الصحة البدنية للملحدين كانت أفضل مقارنة بالأفراد العلمانيين الآخرين والمتدينين المُلتزمين.
كما أبلغ الملحدون أيضًا عن مستويات أقل بكثير من الأعراض النفسية (القلق، وجنون العظمة، والهوس، والوسواس القهري)، مقارنة بالعلمانيين الآخرين وأعضاء معظم التقاليد الدينية.
في المقابل؛ كانت الصحة الجسدية والعقلية أسوأ بكثير لدى المؤمنين غير المنتمين مقارنة بالعلمانيين الآخرين والمنتسبين الدينيين في معظم النتائج. وفي نهاية الدراسة أكّد الباحثون على ضرورة التمييز بين الأنواع المختلفة من الأفراد العلمانيين في الأبحاث المستقبلية حول الصحة.
اليقين، هو الأهم
من المثير للاهتمام أن دراسة واحدة على الأقل وجدت أن مستوى اليقين في المعتقدات -سواء مع وجود الله أو ضده-، يحمل نتائج إيجابية على صحة العقلية. وعليه يقول لوك جالين، أستاذ علم النفس في جامعة “جراند فالي ستيت في ميشيغان”، والذي يجري بحثًا في هذا الموضوع: “إن كلًا من المؤمنين المُلتزمين والملحدين المتحمسين يبلغون عن رفاهية عامة أكبر من المؤمنين أو الملحدين الذين كانوا غير متأكدين، أو مرتبكين بشأن إيمانهم بالدين أو الإله”.
كما يرى “إن الذين يحصلون على أقل فائدة، هم أولئك الذين يقفون في الوسط، أي الذين يفتقرون إلى التماسك في نظرتهم للعالم”. ما يدلّ على أن الملحدين يمكن أن يحصلوا على الفوائد نفسها التي يحصل عليها المتدينون من خلال نشاطهم في الجماعات الإنسانية أو الملحدة، وأنّ الإلحاد يمكن أن يمنح الناس إحساسًا قويًا بالهوية، كما يفعل الدين بالنسبة للمؤمنين.
ختامًا مع أنّ الدراسات قد أثبتَت أنّ الإلحاد ليس اضطرابًا، وأنه توجهٌ فكريّ قديمٌ قدم الإنسان مثله مثل الإيمان، وأنه لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائية بين الإلحاد والأمراض العقلية، وأنّ الملحدين قد يُعانون من مجموعة مشاكل الصحة العقلية نفسها التي يُعاني منها الأفراد المتدينون، وقد لا يكون إلحادهم هو السبب في مشاكل صحتهم العقلية.
لكن يبقى الارتباط بين الإلحاد والمرض العقلي هو بناء تاريخي وثقافي مركّب. صحيح أن الملحدين قد يواجهون التحيز والوصم، إلا أن هذا لا يرجع إلى عدم استقرار عقلي متأصل أو عيب أخلاقي؛ بل هو نتيجة للمفاهيم المجتمعية غير الصحيحة، وسوء الفهم حول الإلحاد والصحة العقلية.