تجلس الفلسطينية هديل الجاروشة (٣٥ عامًا) أمام قدر معدني وضعته على موقد نار أشعلته مستخدمة حطب الأشجار، وذلك لتحضير وجبة الغداء لأطفالها في داخل ساحة مدرسة أبو حسين الابتدائية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، الأونروا بمخيم جباليا؛ فقد وجدت نفسها أمام تحديات كبيرة للتخفيف عن أطفالها الجوعى، وذلك بطهو قدر من الفاصولياء، في ظل انتشار حالة من المجاعة الشديدة التي يعيشها السكان في غزة وشمالها.
تناول الحشائش وعلف الخيول
“أشعر بحزن شديد وأنا أري أطفالي الخمسة يتضورون جوعًا مع شح الأسواق من المواد الغذائية، حتى اضطررنا لما يزيد عن شهر ونصف لأكل الحشائش وعلف الخيول، وورق الأشجار التي تتناولها الحيوانات، لكي لا نفنى جوعًا بفعل الحصار الاسرائيلي”. تقول الجاروشة لمواطن.
“لا بديل أمامى بعد مقتل زوجي خلال الأيام الأولى من الحرب سوى اللجوء إلي هذه الطرق الصعبة، والتي لم نتوقع أن نصل إليها يومًا من الأيام، لكي نبقى على قيد للحياة”. حسبما أضافت.
تبدو قصص الأفراد التي تتناول علف الحيوانات وورق الشجر والحشائش، أقل سوءً مما هو متوقع أن يحدث لسكان القطاع في حال استمرار الحرب والحصار، والفشل في الإمداد الغذائي وإدخال المساعدات.
لم تستطع الفلسطينية تحمل شراء المزيد من أعلاف الحيوانات لتناوله مع أطفالها، بعد ارتفاع أسعاره بشكل جنوني، وبات سعر الكيلوجرام الواحد منه يتجاوز ٢٥ شيقل إسرائيلي ( ٧ دولارات أمريكية). حد قولها.
“ولم تخل هذه الأعلاف من إصابة العديد من السكان بالنزلات المعوية الحادة، وارتفاع ضغط الدم وأمراض أخرى، إلا أن هذا الطعام هو ما يبقينا على قيد الحياة حتى الآن”. حسبما أوضحت.
تتسائل: “ما ذنب الأطفال في هذه الحرب، لكي يناموا ويستيقظوا جوعى دون أن يجدوا طعامًا يسد رمقهم؟”؛ فلا يوجد أي نوع من الخضراوات أو المياه أو الطحين منذ أشهر لدى أسرة هديل أو مؤون المدرسة.
ذبح حصانه، لإطعام عائلته
وبملامح حزينة وشاحبة، تتوجه أنظار الفلسطيني نصر مقداد ( ٤٧ عامًا) اتجاه عائلته المكونة من ثمانية أفراد، وقد بدت عليهم ملامح الهزال والإنهاك من شدة الجوع.
“منذ أربعة؛ أيام لم يتناول وعائلته أي طعام، وبقوا على شرب الماء فقط، بعد أن اختفت الخبيزة، والتي تعد من الأعشاب البرية ذات اللون الأخضر، من الأراضي الزراعية، والتي تعتبر الوجبة الرئيسية لأسرته وللسكان بغزة”. يقول مقداد لمواطن.
هذا الوضع دفعه لاتخاذ قرار صعب بعد انعدام البدائل أمامه، كذبح الحصان الذي يملكه لشدة الجوع الذي وصلت إليه أسرته، وطهي جزء منه لإطعام عائلته؛ فيما قام بتوزيع ما تبقى منه على جيرانه، والذين لم يستوعبوا الأمر في البداية، إلا أن ضراوة الجوع التي يتعرضون لها وعائلاتهم، دفعهم لتقبل ذلك.
لم يستطع إبلاغ عائلته بذبح الحصان وطهيه تجنبًا لعدم تقبلهم فكرة أكله؛ لا سيما الأطفال منهم، موضحًا أن لا أحد ينظر إلى معاناة السكان بغزة في هذا العالم؛ فالجوع قتل الأطفال وكبار السن.
“يعاني السكان في غزة من مجاعة حقيقية، تهدد بموتهم جوعًا في حال لم يتم إيجاد حل سريع لإغاثتهم في ظل عدم توفر المواد الغذائية و التموينية منذ شهرين تقريبًا”. حسبما أضاف.
خبز من أعلاف الحيوانات
حال مقداد لا يختلف عن الفلسطيني سامي السكني (٤٣ عامًا)، والذي لم يتناول وعائلته المكونة من ٦ أفراد الخبز منذ شهرين. بسبب ارتفاع أسعار الدقيق والأرز بشكل متزايد في غزة، على الرغم من شح هذين الصنفين بشكل عام بالأسواق منذ بداية الحصار الاسرائيلي؛ حيث يبلغ الكيلوجرام الواحد من الدقيق ٩٥ شيقل ( ٢٥ دولارا أمريكيا)، بينما يبلغ ثمن نفس الكمية من الأرز 70 شيكل (18 دولارًا أمريكيًا).
“الخضراوات شحيحة للغاية، وفي حال توفرت لا تستطيع نسبة كبيرة من السكان شراءها؛ الأمر الذي دفعنا لتناول أعلاف الحيوانات والطيور بعد طحنها يدويًا، لسد رمق أطفالنا وحمايتهم من الهلاك”. حسبما أضاف السكني.
لم يسلم أطفالي من الأمراض؛ حيث أصيب اثنان منهم بمرض الكبد الوبائي (A)، نتيجة شرب المياه الملوثة، وإصابة إحدى بناته بالأنيميا الحادة بفعل سوء التغذية.
“لسنا خائفين مما يجرى من قصف وقتل واعتداء اسرائيلي، ولكننا بتنا نحتاج إلى الطعام والشراب أكثر من أي وقت مضى”. حد قوله.
خطر الجوع يتزايد
ويقدر عدد السكان المقيمين في محافظتي غزة والشمال 807 آلاف شخص، يشكلون 152 ألف أسرة، وذلك من أصل 1.2 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في تلك المحافظات، حسب إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
ووفق الإحصائية نزح 400 ألف نسمة من محافظة الشمال إلى وسط وجنوب قطاع غزة (دير البلح، وخانيونس، ورفح).
وقال الأمين العام للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب والهلال الأحمر جاغان تشاباغين، في منشور على صفحته بموقع إكس: “إن خطر الجوع في غزة يتزايد يومًا بعد يوم في ظل الانعدام الحاد للأمن الغذائي”.
وأضاف: “يعاني حوالي 80٪ من السكان ظروفًا كارثية؛ فيما يعاني أكثر من مليون طفل ومسن من خطر الجفاف وأمراض الجهاز الهضمي والتنفسي والأمراض الجلدية وفقر الدم”.
ومن عوامل تفاقم الأزمة، نقص المياه الصالحة للشرب ووجود مشاكل في أجهزة التنفس لدى 300 ألف طفل في غزة وسط نظام صحي مدمر، وتأثير سوء التغذية على دماغ الأطفال على المدى البعيد، حسب جان رافاييل بواتو، المسؤول عن منطقة الشرق الأوسط في منظمة العمل ضد الجوع.
وتقدر اليونيسف في بيان لها أنه في الأسابيع المقبلة، سيعاني ما لا يقل عن 10 آلاف طفل دون سن الخامسة من أكثر أشكال سوء التغذية التي تهدد حياتهم، والمعروفة باسم “الهزال الشديد”، وسيحتاجون إلى أغذية علاجية.
أصبح الغزيون يعيشون حياة فيها تنوع كبير على مستوى طرق الموت بسبب الجوع والتلوث والأمراض، وكأن أقل ما يهدد حياتهم اليوم هو قصف الاحتلال.
فيما توفي بالفعل حوالي 20 شخصًا على الأقل في القطاع، بسبب سوء التغذية والجفاف، وتزايدت التحذيرات وفقًا لتقارير منظمات أممية وتقارير حكومية عن أن حدوث المجاعة بات وشيكًا في غزة، والتي تشترط حسب توصيف الأمم المتحدة، أن يعاني 20% على الأقل من العائلات من نقص في الغذاء، و30% من الأطفال من سوء التغذية الحاد، وأن يموت على الأقل شخصان من أصل 10 آلاف بسبب سوء التغذية يوميًا، أو 4 أطفال على الأقل دون سن الخامسة من أصل 10 آلاف طفل يوميًا من الجوع، أو من أمراض مرتبطة بالجوع.
تحذيرات من مجاعة مرتقبة
ووفق تقرير للأمم المتحدة؛ فإن أكثر من 25٪ من الأسر في قطاع غزة تعاني من الجوع الشديد في ظل خطر حدوث مجاعة خلال الأشهر الستة المقبلة، إذا لم يتوفر الغذاء والماء النظيف وخدمات الصرف الصحي والصحة.
ووفق التقرير؛ هناك أناس يقضون أيامًا كاملة دون تناول الطعام، وأن العديد من البالغين يعانون من الجوع حتى يتمكن الأطفال من تناول الطعام.
كل شخص يعيش في قطاع غزة سيواجه مستوى عاليًا من انعدام الأمن الغذائي الحاد خلال الأسابيع الستة المقبلة. حسب تقرير نشره موقع وكالة الأنباء الفلسطينية وفا.
وحذر التقرير، أن نحو 50٪ من المواطنين في قطاع غزة يتوقع أن يدخلوا في 7 من شباط/فبراير، مستوى الطوارئ، والذي يشمل معدلات سوء التغذية الحاد وزيادة الوفيات. كما ستواجه أسرة واحدة من كل 4 أسر ظروفًا كارثية؛ اي حوالي نصف مليون شخص.
يأتي هذا الخطر غير المقبول في وقت تواجه فيه أنظمة الغذاء والصحة في قطاع غزة انهيارًا كاملًا، ويعاني أكثر من 80% من الأطفال الصغار من فقر غذائي حاد، وأكثر من ثلثي المستشفيات لم تعد تعمل بسبب نقص الوقود والمياه والإمدادات الطبية الحيوية، أو بسبب تعرضها لأضرار كارثية في الهجمات.
فيما تبدو قصص الأفراد التي تتناول علف الحيوانات وورق الشجر والحشائش، أقل سوءً مما هو متوقع أن يحدث لسكان القطاع في حال استمرار الحرب والحصار، والفشل في الإمداد الغذائي وإدخال المساعدات. وأصبح الغزيون يعيشون حياة فيها تنوع كبير على مستوى طرق الموت بسبب الجوع والتلوث والأمراض، وكأن أقل ما يهدد حياتهم اليوم هو قصف الاحتلال.