في شوارع اليمن، لا بد أن تُصادف بائعي القات في كل زاوية، يُعرضون أوراقًا خضراء تُخفي خلفها مخاطر جسيمة. نبتة استوطنت ثقافة اليمنيين، لتصبح رفيقهم في المناسبات، ومُشاركًا في جلساتهم مع الأصدقاء والعائلة، بل وحتى قبل العمل وأثناء الدراسة.ففي مشهدٍ مألوف، يُقضى ما بين ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا في مضغ القات، بمعدل يصل إلى 90% من الذكور اليمنيين، و50% من الإناث، و15-20% من الأطفال.
يُقدر الإنفاق على القات بـ 400 مليار ريال سنويًا، مُستهلكًا 35% من دخل الأسر، بينما يُخصص للتعليم ميزانية هزيلة لا تتجاوز 10%. وكما يُهدد الإفراط في تناوله صحة الإنسان، يُشكل التوسع في زراعته خطرًا على حياة اليمنيين في ظل شح المياه. فهل سيستمر القات في إحكام قبضته على المجتمع اليمني، أم سيُدرك اليمنيون مخاطر هذه النبتة؟
يوجد 14.5 مليون شخص في اليمن لا يحصلون على مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي الموثوقة.
يُعاني اليمنيون من صعوبة بالغة في الحصول على احتياجاتهم من المياه، لاسيما مياه الشرب، حيث يُقدر تقرير منظمة اليونيسيف عدد اليمنيين الذين بحاجة ماسة للمياه والصرف الصحي بأكثر من 16 مليون نسمة، بينهم 8.47 مليون طفل. في ظل هذه التهديدات المائية، يُشهد اليمن، الذي مزقته الحروب، توسعًا غير مسبوق في زراعة القات، حيث تُزحف زراعته على الوديان والقيعان والسهول المخصصة لزراعة المحاصيل الغذائية.
وبلغت مساحة توسع زراعة القات خلال سنوات الحرب (2017-2021) حوالي 5.045 ألف هكتار، من إجمالي مساحة زراعية تقدر بـ 171.744 ألف هكتار، وفقًا لبيانات كتاب الإحصاء الزراعي لعام 2021. وأوضح لمواطن، مدير عام الإحصاء الزراعي في اليمن، مطهر زيد، أن مساحة زراعة القات زادت بمقدار 176.882 ألف هكتار خلال العامين الماضيين.
القات، لماذا؟
سليم رسامٌ يبلغ من العمر 35 عامًا، يُشارك أرضه مع عشبةٍ القات. ولا يرى سليم بديلًا عن زراعتها، فمع ازدياد الطلب عليه، وانهيار الأوضاع المعيشية، أصبح القات مصدر رزقه الأساسي. وهو ما يُدرّ على سليم دخلًا شهريًا يبلغ 800 دولار أمريكي، يُشجعه على توسيع مساحة زراعته من القات، لتصل إلى عدد يفوق المائتي شجرة في مزرعته. لكن العشبة الخضراء تُهدد الأمن المائي. وتحتاج زراعة القات إلى كمية كبيرة من المياه، حيث يستهلك 1.000 متر مربع من مزرعة القات 4.960 متر مكعب من المياه الجوفية أسبوعيًا.
تستهلك ربطة القات الواحدة 16 متر مكعب من المياه، أي ما يعادل 8% من متوسط نصيب الفرد من المياه.
ويُحذر المهندس عبدالعزيز الذبحاني، مدير الموارد المائية، من توسع زراعة القات، بعد أن كان محصورًا بشكل كبير في المرتفعات الجبلية والهضاب الرطبة التي تشكل 18% من مساحة اليمن، مُؤكدًا لمواطن، “أن ذلك يُهدد باستنزاف مخزون المياه الجوفي في اليمن”. ما يضع اليمنيون أمثال رسام وغيره من مزارعين في صراع بين تأمين احتياجاتهم المعيشية، وحماية موارد البلاد الطبيعية الطبيعية.
تُعدّ المياه الجوفية في اليمن شريان الحياة، فهي المصدر الرئيسي لتلبية الاحتياجات المائية للسكان، في ظل نقص موارد المياه السطحية والأمطار. يُفاقم التغير المناخي وندرة الأنهار من شح المياه في اليمن، مما يُهدد بنفاذ المخزون الجوفي خلال سنوات قليلة. وقدرت “الرؤية الإستراتيجية لليمن حتى عام 2025” الصادرة عن وزارة التخطيط والتنمية، المخزون المائي الجوفي المتاح في جميع الأحواض بحوالي 20 بليون متر مكعب. ويُنذر هذا الرقم بضرورة اتخاذ خطوات عاجلة للحفاظ على هذه الثروة الطبيعية، وإلا فإن اليمن سيواجه كارثة مائية حقيقية.
يُعاني اليمن من شحٍ مائيٍ فادح، حيث يُعدّ نصيب الفرد من المياه المتجددة من الأقل عالميًا. ففي تقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو)، بلغ متوسط نصيب الفرد اليمني من المياه المتجددة حوالي 125 متر مكعب سنويًا. وتشير التقديرات إلى أن الموارد المائية المتاحة للفرد في اليمن تبلغ 80 متر مكعب سنويًا، وهو ما يعادل 2% فقط من المعدل العالمي. وبحسب “Fanack” المختص بتقديم معلومات عن الوضع المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن هذا الرقم أقل بكثير من مستوى فقر المياه الذي حدده البنك الدولي بـ 1000 متر مكعب للفرد سنويًا.
استنزاف المياه
ووفقًا لتقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن ارتفاع استهلاك القات للمياه يُفاقم من ندرة المياه، مُهددًا مصادر المياه السطحية والجوفية. وأشار تقرير “النهج الشامل لتصديات تحديات موارد المياه” الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2022، إلى أن اليمن يستهلك المياه الجوفية غير المتجددة في الزراعة بنسبة 84%. ومن هذه النسبة، تذهب 30% لزراعة القات، مما يُخلف نسبة ضئيلة تبلغ 16% فقط للاستهلاك البشري والصناعي. وحذّر التقرير من أن اليمن ستواجه نضوبًا وشيكًا للمياه، لا سيما مع استنزاف المخزون المائي الذي تراكم على مدى آلاف السنين خلال السنوات الخمس الماضية.
تُسارع اليمن نحو مستقبلٍ قاتمٍ يُهدد فيه نضوب المياه، حيث تُصبح موارد المياه المتجددة مثل الأمطار والمياه السطحية الجوفية الضحلة هي الخيارات الوحيدة المتاحة للاستخدام البشري والصناعي.مع أحد أعلى معدلات النمو السكاني في العالم، والانتشار الواسع للمحاصيل الشرهة للمياه، فإن المياه ستنفذ، ولن تكون المياه المتجددة كافية. بالإضافة إلى وجود 14.5 مليون شخص في اليمن لا يحصلون على مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي الموثوقة. وحسب الأبحاث التي أجرتها جامعة صنعاء أن حوالي 70-80% من النزاعات في اليمن تدور حول المياه. ويشير تقرير للبنك الدولي أن السكان في صنعاء وتعز، يحصلون على المياه من المواسير مرة واحدة في الأسبوع على الأكثر. وإلا فإنهم يضطرون لشرائها بأسعار تعد باهظة.
لا يقف ضرر القات على استنزاف المياه وصحة اليمنين، بل يُعدّ من أكثر المحاصيل ضررًا بالبيئة في اليمن، حيث تُؤدي زراعته إلى تآكل التربة وتلوث المياه وانقراض بعض أنواع الحيوانات والنباتات.
يُحذر المهندس اسكندر الأصبحي، مدير عام إدارة الري الزراعي، من مخاطر التوسع في زراعة القات في اليمن. ويُشير إلى أن اعتماد زراعة القات على أساليب الري القديمة يُشكل استنزافًا خطيرًا للمياه الجوفية. كما أكد لمواطن، أن 75% من مياه حوض صنعاء تذهب لزراعة القات، في حين أن هناك بدائل أخرى أكثر ملاءمة للبيئة اليمنية، مثل العنب واللوز البّن. وطالب بضرورة اتخاذ خطوات عاجلة للحد من زراعة القات، وتشجيع زراعة محاصيل بديلة أكثر استدامة.
تُشير تقارير الجهاز الوطني المركزي للإحصاء إلى أن استهلاك القات للمياه يبلغ 800 مليون متر مكعب سنويًا، لإنتاج 25 ألف طن. وهذا يعني أن الطن الواحد من القات يستهلك 32 ألف متر مكعب من المياه، بينما تستهلك ربطة القات الواحدة 16 متر مكعب من المياه، أي ما يعادل 8% من متوسط نصيب الفرد من المياه. وتُحذر التقارير من أن استهلاك القات للمياه يتزايد مع توسع مساحة زراعته.
وبحسب تقرير لمؤسسة النجاة للتوعية بأضرار القات، استند إلى نتائج بحوث هيئة البحوث الزراعية، فالقات يستهلك نسبة كبيرة من المياه تقدر بـ 6279 متر مكعب للهكتار الواحد. وهذا المعدل يفوق استهلاك القمح للمياه بـ 2456 متر مكعب. وبناءً على هذا المعدل، فإن كمية المياه التي يستهلكها القات وفقًا لمساحة زراعته الحالية تصل إلى 1.07 مليار متر مكعب تقريبًا.
مؤشر خطر
يُحذر تقرير حديث لمنظمة الأغذية العالمية (الفاو) من أن مزارعي القات في اليمن يُضطرون إلى حفر آبار عميقة تصل إلى 700 متر للحصول على المياه الجوفية لري محاصيلهم. وتُحذر “الإستراتيجية الوطنية للمياه حتى 2025م” من أن استمرار استخراج المياه بمعدلات الإنتاج والاستهلاك الحالية سيؤدي إلى اضطرار سكان الريف المعتمدين على الري إلى ترك الزراعة والهجرة إلى المدن، مما سيخلق آثارًا اجتماعية واقتصادية خطيرة. وتؤكد التقارير إلى أن تزايد عمليات التنقيب عن المياه مقارنة بعدد الآبار الإنتاجية في حوض صنعاء وغيرها من أحواض اليمن هو مؤشر خطير يُنذر بكارثة.
وحسب الأبحاث التي أجرتها جامعة صنعاء، حوالي 70-80% من النزاعات في اليمن تدور حول المياه.
يُشدد اسماعيل محرم، رئيس مجلس إدارة هيئة البحوث والإرشاد الزراعي سابقًا، على ضرورة الحد من توسع زراعة القات للحفاظ على أهم مورد لضمان استمرار الحياة في اليمن. ويُؤكد في حديثه لمواطن، أنه لا سبيل أمام اليمنيين للحفاظ على المياه إلا من خلال العمل على الحد من زراعة القات بشكل حقيقي، من خلال تفعيل الإجراءات اللازمة للحد منه والوقوف بشكل جاد لتنفيذها. ويُشير إلى أهمية تنفيذ السياسات والإجراءات الهادفة إلى مكافحة توسع زراعة القات، أو من خلال عملية ترشيد استخدام المياه، واستخدام أساليب الري الحديثة. كما طالب المجتمع اليمني بالعمل بجدية وحكمة لمكافحة توسع زراعة القات ووضع السياسات والإجراءات الأساسية اللازمة للحد من زراعته والتقليل من استنزاف المياه.
ختامًا، لا يقف ضرر القات على استنزاف المياه وصحة اليمنين، بل يُعدّ من أكثر المحاصيل ضررًا بالبيئة في اليمن، حيث تُؤدي زراعته إلى تآكل التربة وتلوث المياه وانقراض بعض أنواع الحيوانات والنباتات.يُضاف إلى مخاطره على البيئة احتياجه الكبير للمبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية، مما يُسبب تلوثًا هائلًا للمياه، كما يؤدي إلى تدمير الموائل الطبيعية، ما يُهدد بانقراض العديد من أنواع الحيوانات والنباتات.