كثيرة هي مآسي المجتمع البدوني، وفي تعدداها من أين عليَّ أن أبدأ؟ فالبرغم من حرمانهم من الحقوق المدنية؛ فهناك توغل على حقوقهم الدينية المتمثلة في حق الزكاة، وهو ما يعيد للذاكرة أبيات الشاعر الكويتي البدون أحمد الرسلاني، الذي هاجر وترك وطنه الكويت بعدما تم منعه من إصدار ديوانه الشعري في عام 2013: “صرت منهم ليه يا بيت الزكاة.. إسلامنا وش دخله بإثباتاتنا؟ / أخاف تمنعني غدًا فرض الصلاة! وتقول :لا تصلي مثل صلاتنا”.
وهو أمر غير مستغرب، بعدما أصدر الجهاز المركزي في أول أيام شهر رمضان الماضي قرارًا رسميًا بإيقاف ركن الإسلام الثالث الزكاة عن البدون، وفضلًا عن ذلك أصدر تنبيهًا على الجمعيات الخيرية بعدم الإدلاء بأي تصريحات حول موضوع البدون؛ فلم يفرق الإسلام أو الخلفاء الراشدون في بيت مال المسلمين بين المحتاجين بالتفاضل بين العباد، ولم يتم إسناد أركان الإسلام للجهاز المركزي حتى تكون عقابًا يبتز به المسلمين؛ فمن المؤسف أن نرى بيت الزكاة الذي كان من المفترض أن يقدم المساعدات لكل محتاج دون النظر لوضعه السياسي، يغلق أبوابه بوجه المحتاجين من البدون.
فالمأساة التي مسَّت العوائل ومحاولة تسييس الزكاة كانت أشْبه بالجنون؛ ففي عام 2023 من شهر يناير تم إيقاف 500 ملف من العوائل المتعففة المستحقة للزكاة منهم المطلقات والأرامل، بحجة انتهاء البطاقة الأمنية، دون أن يكترث المسؤولون كيف يكون حالهم دون معيل يتكفل بهم.
فمن المفترض أن يمدوا يد العون كونْهم جهة شرعية قبل أن يكونوا جهة حكومية؛ فالحاصل أنهم لم يكتفوا بنهر السائل الذي نهى الله عن نهره؛ بل منعوا عنه حتى حقه بالزكاة وتركوه واقفًا بالشمس أمام الباب ينتظر قرارًا إنسانيًا ينهي هذه المشكلة، ولم يكتفوا بمنع الماعون؛ بل تجبروا وأغلقوا الأبواب في وجوههم أيضًا دون أن يسمع المسؤولون صدى أنين المظلومين.
يعيش البدون في الكويت مأساة إنسانية حقيقية؛ حيث يُحرمون من أبسط حقوقهم الأساسية، ويتعرضون لأشكال مختلفة من الظلم والقهر من قبل السلطات الرسمية والجمعيات الخيرية والمجتمع.
أما عن اللجان الخيرية والتي تعتبر جهة تستقبل التبرعات من المجتمع، وتساعد أيّ محتاج في الكويت أو في الخارج أو أيّ شخص يصل إليها ويقدم طلبًا لها دون النظر لشخصه أو لجنسه أو لجنسيته، أو لوضعه السياسي؛ فقد وضعت شروطًا تعجيزية على البدون خصيصًا؛ مثل أن تطلب من البدون الذي يطلب مد يد العون أو المتعثر ماليًا مستنداتٍ حديثة، وتزكية من إمام مسجد المنطقة التي يقطن فيها، وبعضها يطلب من الفرد البدون إحصاء التعداد السكاني لعام 1965 حتى يكون مستوفيًا الشروط؛ فبعد كل ذلك التعنُّت تنقطع كل السُبل من المتعثرين ماليًا والمحتاجين من المجتمع البدوني.
دفع ذلك التعنت المغردين في منصة تويتر لمحاربة محاولة إفقارهم وانتشالهم من هذا المأزق غير الإنساني وغير الأخلاقي، وكونوا مجموعات منظمة لاستقبال هذه الحالات وطرحها للعامة، لمن يود مساعدتهم من أصحاب الأيادي البيضاء، ولكن المؤسف في ذلك أن وزارة الشؤون الاجتماعية قد أصدرت قرارًا برصد إعلانات التبرعات للأفراد واعتبارها «مخالفة»، وإحالة الأفراد لجهات الاختصاص ليتم محاسبتهم قانونيًا، حتى توقف المغردين عن مساعدة المحتاجين خوفًا من أيّة مسائلة أو ملاحقة قانونية، وليستأنفوا الظلم الواقع عليهم، ولتتم عملية سير إفقار المجتمع.
فكان حال البدون أكثر سوءً بعدما تم فصلهم من وظائفهم الحكومية، وحجز رواتبهم حتى في القطاع الخاص لعدم تجديد بطاقاتهم الأمنية، علمًا أن تجديدها مرهون ببصمة وبتوقيع على صحة البيانات المذكورة لجنسية بلد أخرى لا يمتلكونها. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022 أصدر الجهاز المركزي تعميمًا لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالاستغناء عن الموظفين البدون في الوزارة، واتخذت الوزيرة مريم العقيل القرار بإنهاء خدماتهم والاستغناء عنها. أما في أغسطس 2023 فقد أصدر الجهاز المركزي تعميمًا لوزارة الكهرباء والماء بعدم تعيين موظفين جدد نهائيًا، و إنهاء خدمات أكثر من سبعين موظفًا من البدون.
كما أن البطاقة الأمنية ربطت بالبنوك أيضًا وشركات الصرافة، وشركات التمويل في تعميم صادر من الجهاز المركزي بتاريخ سبتمبر 2018 تحديدًا؛ فلا يستطيع أحد من مجتمع البدون أن يستلم راتبه أو يقوم بأية معاملة بنكية إلا ببطاقة صالحة.
وصرح رئيس الجهاز المركزي أنّه يمتلك خمسة ملايين وثيقة تدين البدون بجنسياتهم الأصلية، وعلى ضوء هذا التصريح وقف الناشطون البدون وقفة احتجاجية أمام قصر نايف في يناير 2013 مطالبين أن يحيلوا مجتمع البدون إلى النيابة إن كانوا فعلًا يمتلكون الوثائق، ولكن حتى الآن لم يحولوا أيّ فرد من البدون؛ فحل القضية مبني على كلامٍ مرسل ليس إلا، وما فعل الجهاز إلا توزيع التهم جزافًا ليتم تقييد الفرد البدون على ضوئها وإعدامه مدنيًا دون سندٍ أو دليلٍ ثابت.
والذي يجب قوله؛ هو أن قضية البدون قضية مواطنين -مسلوبي الهوية- لم تكن معقدة بيومٍ من الأيام، ولكن تم تعقيدها عمدًا بتعاطيهم معها، ومن المفترض أن لا يكون الحل بيد اليمين المتطرف المتمثل بالجهاز المركزي، ولكن كان الأفظع عندما أسندوا الحل للجهاز المركزي الذي بعنصريته يدفع الآن البدون ثمن فاتورة الظلم وربما غدًا، وستدفع البلاد يدفع ثمنها مع البدون، وتزيد المخاوف إذا فات الأوان؛ فحينها تكون قيمة هذه الفاتورة المدفوعة باهظة الثمن؛ فعندما يتم عزل الفرد البدون من مجتمعه ليكون إنسانًا لا يشبه الذين من حوله، ليكبر وتكبر بداخله آلاف العلل النفسية التي صنعوها له بعزلهم الممنهج، حتى رمته صروف الدهر في شباك الفاسدين.
كثيرة هي مآسي المجتمع البدوني، وفي تعدداها من أين علي أن أبدأ؟
ليصبح صيدًا سهلاً ويرتكب الجرائم مقابل المال، طالما لم ينشئوا منه مواطنًا صالحًا، ويعاقبوه بجرمه واضعين صورته مكبلًا في التلفاز والجرائد ووسائل التواصل الاجتماعي، ثم يقولون بكل سهولة: “هذا هو البدون، ولهذا السبب نحن نعزلهم عنكم”. وقد تناسوا أنهم هم من خلقوا له هذه الظروف، وهم من صنعوا منه إنسانًا ضعيفًا وعرضةً سهلة للابتزاز؛ فبينما تنشئ الدول المتقدمة برنامجًا لانخراط الفرد بالمجتمع، ويكون من أولى أولوياتهم استثمار الأفراد ببناء الدولة، ليجعلوا منه إنسانًا ذا أهمية يفيد نفسه ومجتمعه وينهض به، وجدناهم هم يحاربون البدون الذي هو ابن هذه الأرض، ويعملون على عزله وجعله عرضة للابتزاز، وللاستغلال من التجار الذين يرفضون حل قضية البدون، وأحد مسببات رفضهم لحلها هو سد باب رزقهم؛ فيستغلون البدون بمشاريعهم التجارية الخاصة؛ في حين أنهم لا يرضون أن يعمل أبناؤهم بهذه الوظائف إطلاقًا.
يجعلنا كل هذا نجد البدون يعمل في مجال الأمن وحراسة الأسواق يوميًا دون عطلة رسمية، ولمدة 12 ساعة متواصلة دون أن يسمح له بالجلوس، براتب 150 دينار كويتي بما يعادل 490 دولارًا أمريكيًا، وأن تعمل المرأة معلمة في حضانة يتملكها تاجر -القطاع الخاص- لمدة 8 ساعات متواصلة، وعطلة يوم الجمعة فقط براتب 130 الى 150 دينار كويتي، بما يعادل 380 الى 490 دولارًا أمريكيًا، وبعضهم لا يجد حتى هذه الوظائف الاستغلالية، ونجد البعض الآخر من البدون، عبارة عن أُسر ليس لها معيل فيلجأ للاقتراض من الجيران والأصدقاء والأقارب ليقترض منهم، حتى يستطيع دفع إيجار مسكنه أو رسوم أبنائه الدراسية، حتى تتراكم عليه الديون ويضطر أن يعرض إحدى كليتيه للبيع في الشوارع.
فعار أن يتم استغلال الإنسان بهذه الصورة البشعة التي لا تمتّ للإنسانية بصلة؛ فهم لا يريدون للبدون إلا أن يكونوا كالأداة بأيديهم متى شاؤوا لاستغلالهم، ومتى ما شاءوا جعلوا منهم «قطع غيار» ببيع أعضائهم البشرية، وكل ذلك على مرئى ومسمع المسؤولين والمجتمع دون أن يكترث أحد منهم لتلك المآسي، ويدفعون إلى هاوية الفقر والبطالة والجهل بعد عدم وجود فرص للتعليم، لينتهي بهم الحال بين الانتحار، أو الحياة كالأموات من شدة القهر. فهل حان الوقت لوضع حدّ لهذه الممارسات اللاإنسانية، وإيجاد حل عادل لقضيتهم، وإعادة كرامتهم وحقوقهم الإنسانية؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.