لقد فتحت حرب غزة التي انطلقت من يوم 7 أكتوبر الماضي فصلًا جديدًا من الصراع المأساوي بين الصهاينة والفلسطينيين، إنه صراع لم يتوقف منذ إعلان دولة إسرائيل عام 1948م، سبقه صراع من نوع آخر بين اليهود والعرب منذ وعد بلفور سنة 1917م؛ فهي سلسلة معارك وصراعات لم تتوقف طيلة أكثر من 100 عام بأشكال مختلفة.
لكن الذي جدّ هذه المرة في 7 أكتوبر الماضي، أن أصبحت قضية فلسطين هي القضية الأولى للعالم وللعرب وللمسلمين؛ فهي منذ أن اشتعلت لم تحصل على ذلك الإجماع والاهتمام لأسباب مختلفة؛ إما لانشغال العالم بحروب أخرى أكثر دموية وأهمية لها، أو لأن الحروب الإسرائيلية العربية، ونظرًا للطابع القومي والديني لها لم تحصل على اهتمام الشعوب المختلفة مع هذه الأديان والقوميات، والذي جدّ هذه المرة أن العالم صار يتناول فلسطين من منطلق إنساني لا من منطلق ديني وقومي، إنها قضية احتلال مجرم نازي ضد شعب يكافح من أجل حقوقه المسلوبة؛ فالشعوب الغربية مثلا تتحدث عن هذه المشكلة باهتمام ونشاط جماهيري غير مسبوق. كذلك الشعوب اللاتينية والآسيوية والأفريقية، وتوقف العرب والمسلمين عن حروبهم وصراعاتهم البينية التي حملت طابعًا دينيًا وطائفيًا وقوميًا، وانشغل الأتراك لأول مرة بالقضية الفلسطينية بشكل لم يحدث في تاريخهم.
مأساة إنسانية
أيام قليلة وتدخل غزة شهرها السابع من الحرب، دون أمل قريب في وقف إطلاق النار، ومعارك كر وفر بكل أحياء القطاع تقريبًا، مع تفاقم الحالة الإنسانية ومعاناة السكان من مجاعة حقيقية خصوصًا في الشمال، وتحذيرات أممية صدرت من الهيئة العالمية للأمن الغذائي التي دقت ناقوس خطر المجاعة على الشعب الفلسطيني.
يقول مارتن غريفيث، كبير منسقي الإغاثة التابعين للأمم المتحدة على منصة التواصل الاجتماعي إكس يوم 18 مارس الماضي: “إنه يجب على المجتمع الدولي أن يحني رأسه خجلًا لفشله في وقف المجاعة”. ويقول جيريمي كونينديك رئيس الوكالة الدولية للاجئين على منصة إكس يوم 19 من مارس الماضي: “يوجد 60 حالة وفاة مرتبطة بالجوع والأمراض يوميًا في شمال غزة، وخلاصة القول: إن المجاعة بدأت الآن، والسؤال الوحيد في هذه المرحلة هو مقدار الزخم الذي سيُسمح له بالتطور، وكل يوم دون وقف إطلاق النار في هذه المرحلة سيؤدي إلى تفاقم المجاعة، مما سيكلف المزيد من الأرواح”.
ويقول فيليب لازاريني: “المفوض العام للأونروا في منشور له على إكس بتاريخ 18 من مارس الماضي: “إن السلطات الإسرائيلية تمنعني من الدخول إلى غزة، وإن المجاعة وشيكة في شمال القطاع، ومن المتوقع أن تصل من الآن وحتى شهر مايو إلى مليوني شخص؛ حيث يواجه جميع سكان غزة مستويات أزمة انعدام الأمن الغذائي أو ما هو أسوأ من ذلك؛ فنصف السكان قد استنفدوا تمامًا الإمدادات الغذائية وقدرات التكيف، إنهم يعانون من الجوع الكارثي (المرحلة 5 من التصنيف الدولي للبراءات) والمجاعة، هذا هو أكبر عدد من الأشخاص الذين تم تسجيلهم على الإطلاق على أنهم يواجهون جوعًا كارثيًا بواسطة نظام التصنيف المتكامل للبراءات، وهو ضعف العدد الذي كان عليه قبل ثلاثة أشهر فقط، وفي وقت سابق، حذرت اليونيسيف من أن عدد الأطفال دون السنتين الذين يعانون من سوء التغذية الحاد تضاعف خلال شهر واحد.
وأضاف: أن الأطفال يموتون الآن من الجفاف والجوع، ومنظمة الأونروا تتمتع بأكبر حضور على الإطلاق بين جميع المنظمات الإنسانية في غزة، وكان من المفترض أن تهدف زيارتي اليوم إلى تنسيق وتحسين الاستجابة الإنسانية. إن هذه المجاعة التي هي من صنع الإنسان تحت أعيننا هي وصمة عار على جبين إنسانيتنا الجماعية، لقد ضاع الكثير من الوقت، ويجب فتح جميع المعابر البرية الآن، ويمكن تجنب المجاعة بالإرادة السياسية.” انتهى.
هذا الوضع البائس شكل ضغطًا على طرفي الصراع:
أولا: على إسرائيل بوصفها القوة المعتدية، والتي تتحكم في خطوط النار وتحاصر الشعب الفلسطيني بمنع المساعدات الغذائية، وتعمل على استغلال تلك المساعدات في الضغط على حركة حماس للتنازل في المفاوضات، والخروج بمكاسب سياسية في تحرير الأسرى الإسرائيليين في غزة بما يخدم حكومة نتنياهو، ولا شك أن هذا السلوك، وبرغم أنه يفيد إسرائيل من جهة الضغط على المقاومة الفلسطينية، لكنه يضرها إنسانيًا وأخلاقيًا على مستوى العالم، ويضغط أكثر على حلفائها الغربيين، الذين شرع البعض منهم في الاستجابة لمطالب الرأي العام في بلاده بالدعوة لوقف الحرب وإنهاء الحصار.
ويعزز هذا الضغط على إسرائيل أوامر محكمة العدل الدولية لها بإنهاء الحصار وإدخال المساعدات الغذائية لشعب غزة، مما أدى لردود فعل غاضبة من إسرائيل ترفض هذه الأوامر، وتقول لمحكمة العدل وفقًا لوكالة رويترز للأنباء إنها “مثيرة للاشمئزاز”
تكمن صعوبة الحل في غزة بالطريقة التي أشعلت إسرائيل فيها الحرب؛ فالحشد الصهيوني ضد المقاومة الفلسطينية لم يتوقف على الجانب السياسي؛ بل إلى الجانب الديني والقومي؛ فأشعل بنيامين نتنياهو عواطف الإسرائيليين الدينية، وأعادهم إلى جذور الدولة اليهودية الأولى في كتبهم المقدسة
John Doe Tweet
ثانيًا: على حركة حماس بوصفها القائد الفعلي لحركات المقاومة الفلسطينية بغزة؛ حيث شكل هذا الوضع الإنساني البائس ضغطًا أخلاقيًا ووضعًا بين خيارين كلاهما مر بالنسبة للحركة، وهي التضحية بقاداتها ومشروعها المقاوم والأيديولوجي، أو التضحية بالشعب الفلسطيني الذي يمثل حاضنتها الشعبية الرئيسية، وبالتأكيد إن تفضيل حماس الخيار الأول وبقاء قاداتها ومشروعها سوف يعرض هؤلاء القادة ومشروعهم الفكري لاختبار قوي جدًا مع الشعب؛ سواء من خصومها السياسيين في حركة فتح الذين بدؤوا في استغلال هذا الوضع للتشهير بحماس، أو من البسطاء الذين يفضلون خيار البقاء على خيار المقاومة.
وبرغم محاولات بعض الهيئات الدولية كالمطبخ المركزي العالمي في توفير 37 مليون وجبة لأهالي القطاع للقضاء سريعًا على المجاعة، إلا أن هذه الجهود الإنسانية لا يمكن فصلها عن الأوضاع العسكرية بغزة؛ فكلما اشتدت المعارك بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية كلما أثرت بشكل سلبي في إبطاء أو تعطيل دخول المساعدات، لذلك كان قرار وقف الحرب من مجلس الأمن هو الخيار الوحيد لإجبار إسرائيل على وقف هجماتها وإدخال المساعدات، وطالما أن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت هذا الوقف 3 مرات في السابق؛ فيبدو أن القادة الأمريكيين على علم بالمجاعة ويعملون على استغلالها للضغط على حماس من أجل التنازل.
وفي هذا السياق قدمت الولايات المتحدة يوم 22 مارس مشروعًا لمجلس الأمن لوقف الحرب وإنجاز هدنة في غزة، لكن القرار تم رفضه بالفيتو المزدوج الروسي والصيني إضافة للجزائر، والسبب كما أشرنا أن القرار يخدم إسرائيل بعدم وقف نهائي للحرب، ويتيح لها الدخول إلى رفح؛ حيث قال فاسيلي نيبينزيا سفير روسيا لدى الأمم المتحدة “إن القرار مُسيَّس بشكل مبالغ فيه، ويتضمن فعليًا منح الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ عملية عسكرية في رفح، وأضاف أن الغاية من القرار الأميركي كسب الوقت، وهدفه مسيّس كي تفلت إسرائيل من العقاب، ووصف نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي نص وثيقة مشروع القرار الأمريكي بأنها “خداع أمريكي مألوف”، وقال إن موسكو لن تكون راضية “عن أي شيء لا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار”، موضحا أن مشروع القرار كان يجب أن يتضمن “مطلبًا” أو “دعوة”، ولكن ليس فقط “تعريف الضرورة” لوقف إطلاق النار”.
صعوبة الحل
تكمن صعوبة الحل في غزة بالطريقة التي أشعلت إسرائيل فيها الحرب؛ فالحشد الصهيوني ضد المقاومة الفلسطينية لم يتوقف على الجانب السياسي؛ بل إلى الجانب الديني والقومي؛ فأشعل بنيامين نتنياهو عواطف الإسرائيليين الدينية، وأعادهم إلى جذور الدولة اليهودية الأولى في كتبهم المقدسة، ثم أشعل فيهم روح الانتقام الأعمى وعدم التعامل مع ما حدث في يوم 7 من أكتوبر على أنه عملية عادية للمقاومة الفلسطينيية كالتي سبقتها؛ بل هي حرب وجود إسرائيل والدين اليهودي الذي تمثله، ولا شك أن هذه الطبيعة عقدت مسار الحرب بشكل كبير؛ حيث دفعت الصراع إلى مستويات مخيفة من العنف أدت بإسرائيل لارتكاب مجازر جماعية وإبادة سقط فيها حتى الآن 32 ألف فلسطيني من سكان القطاع، وإصابة أكثر من 100 ألف آخرين، علاوة على تشريد ما يقرب من 2 مليون مواطن وهم أغلبية سكان غزة.
إن الطبيعة الدينية والقومية ومسار الحرب الانتقامي الصهيوني أدى لاستقطاب شديد بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني من جانب، وبين الصهيونية الدولية وخصومها من العرب والمسلمين والدول الشرقية والمعادية للنفوذ الغربي من جانب آخر.
لقد أنتج هذا الانتقام الإسرائيلي صعوبة في الحل من أحد أعمدتها الرئيسية تقوية الجناح المتطرف الصهيوني في إسرائيل، وصعوده شعبيًا لدرجة سيطرته على مفاصل الدولة، وتهديده حتى لحلفائه الغربيين بأنه مستعد للانفصال عنهم إذا مارسوا ضغوطًا فوق المسموح، وتهديدًا في المقابل من الإدارة الأمريكية لإسرائيل بعدم اجتياح رفح، وأنهم سوف يواجهون عزلة أكبر، والمتأمل في تاريخ الدولتين يرى أن ما يحدث حاليًا من تراشق لفظي هو أمر جديد غير مسبوق في تاريخ إسرائيل، يشي بأن موازين القوى حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تذهب لصالح اللوبي اليهودي آيباك.
ومن أمثلة هذا الانقلاب في موازين القوى ضد آيباك، البيان الذي وقعه العديد من مشاهير ونخبة اليهود الأمريكيين ضد المنظمة الصهيونية الداعمة لإسرائيل في أمريكا، وهو بيان يتبرؤون فيه من أفعال إسرائيل ومن سلوك المنظمة، واعتبار ذلك ممثلاً عن يهود الولايات المتحدة، علمًا بأن هذا البيان موقع بالاسم من عشرات الزعماء اليهود الأمريكيين، من بينهم رؤساء أحزاب ومثقفون وأساتذة جامعة وحاخامات وصحفيون وأدباء ومحامون وفنانون وموسيقيون، والتي تقول بعض فقراته التي نشرتها من صحيفة ذا نيشن الأمريكية الأسبوعية:
“نحن أمريكيون يهود، لدينا وجهات نظر مختلفة، لقد اجتمعنا معًا لتسليط الضوء ومعارضة الدور غير المسبوق والمدمر الذي تلعبه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيباك) والجماعات المتحالفة معها في الانتخابات الأمريكية، وخاصة في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.
نحن ندرك أن الغرض من تدخلات آيباك في السياسة الانتخابية هو هزيمة أي منتقد لسياسة الحكومة الإسرائيلية، ودعم المرشحين الذين يتعهدون بالولاء الثابت لإسرائيل، وبالتالي ضمان دعم الولايات المتحدة المستمر لكل ما تفعله إسرائيل، بغض النظر عن العنف الذي تمارسه وعدم الشرعية.
ونظرًا لأن إسرائيل معزولة دوليًا إلى الحد الذي يجعلها غير قادرة على الاستمرار في معاملتها اللاإنسانية للفلسطينيين من دون الدعم السياسي والعسكري الأميركي؛ فإن آيباك تشكل حلقة أساسية في السلسلة التي تحافظ على مأساة إسرائيل/فلسطين التي لا تطاق. وفي الانتخابات الأمريكية المقبلة نحتاج إلى كسر هذه السلسلة من أجل المساعدة في تحرير شعب إسرائيل/فلسطين لمواصلة التعايش السلمي”.
الجغرافيا ليست في صالح الحرب
أحد أهم مشكلات قطاع غزة هو ضيق مساحته الجغرافية، وهو الذي أدى للكارثة التي نشهدها اليوم؛ فلا تتعدي مساحة القطاع 365 كم مربعًا، ومثل هذه المساحات لا تساعد في المناورات أو حرية الحركة، ولا أن تصبح مهيئة لصراع الجيوش النظامية، واستعمال القدرة النارية فيها محفوف بالمخاطر.
يبدو أن قادة إسرائيل ظنوا أن غزة هي سيناء والجولان، ولم يدركوا أن ضيق هذه المساحة الغزاوية كانت لصالح المقاومة الفلسطينية التي استفادت من عاملين اثنين، المساحة والحاضنة الشعبية، ومن ثم نجحت في صناعة مئات الكيلومترات تحت الأرض من الأنفاق للتخفي؛ فمع الوقت اضطرت إسرائيل للتقليل من استعمال النار بعد أن هدمت معظم منازل القطاع وتسببت في أكبر أزمة إنسانية يشهدها الشرق الأوسط منذ عقود طويلة، مما أدى لانقلاب الرأي العام العالمي، وتململ قادة الغرب مما يحدث، وتحت ضغوط محكمة العدل الدولية وعشرات المقاطعات وطرد السفراء، أجبرت إسرائيل على خفض العامل الناري، وبدأت تكتفي بالتهديد فقط بغزو مدينة رفح لابتزاز الفلسطينيين وحلفائهم وداعميهم في الخلفية.
فمنذ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة سنة 2005، نراها قد اشتبكت مع حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية بالقطاع أكثر من مرة، لكن لم تفكر إسرائيل في المرات السابقة في استخدام النار بهذه الكثافة نظرًا لصعوبة ذلك جيوسياسيًا كما سبق شرحه، وللنتائج الوخيمة على صورة إسرائيل دوليًا، كل هذا كان في الحسبان منذ أول هجوم إسرائيلي كبير على غزة سنة 2008، لكن الذي تغير اليوم بعد 7 من أكتوبر 2023 هو ظروف عاشتها إسرائيل نفسها من فراغ سياسي وانشقاق أدى لأن تكون غزة هي ضحية هذا الصراع في حشد ديني وأيديولوجي كبير من حكومة نتنياهو للحرب.
حيث صورت إسرائيل ما يجري على أنه انتقام مشروع شبيه بما حدث لأمريكا بعد 11 سبتمبر، ووسائل الإعلام الصهيونية في الداخل الإسرائيلي وخارجه، كانت تعمل على ترويج هذه الفكرة؛ وهي الانتقام المشروع أسوة بما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الذي بدا من ذلك الطموح الإسرائيلي أنه لم يُراع الفارق بين بوش الابن وبايدن؛ فكلاهما يملكان مناظير مختلفة؛ فلو كان بوش الابن يرفع السلاح الديني وتذكير العالم بالحروب الصليبية؛ فبايدن لم يفعل ذلك، ورغم الدعم العسكري الهائل من إدارة بايدن لإسرائيل، لكنها كانت في مقابل ذلك تشكل عامل ضغط حقوقي للجم الآلة العسكرية الإسرائيلية، وللتخفيف من حدة الشعار الديني أو توظيف الدين في المعركة.
إن الاندفاع الإسرائيلي بهذه الوحشية لم يُراع ظروف القطاع الإنسانية التي كانت توصف بها غزة (قبل الحرب) أنها سجن إسرائيلي مفتوح لأكثر من 2،3 مليون فلسطيني، وكان على الإسرائيليين تلقي هذه الإشارة النفسية والتحرك وفقًا لمحتواها، بأن استخدام الآلة الحربية بهذه الكثافة في القطاع ليس في صالح إسرائيل على المدى القصير والطويل، وأن القضاء على حماس مثلما يريدون لا يعني القضاء على المقاومة، لأن الثابت في التاريخ والفكر الإنساني أن أي احتلال يخلق مقاومته بنفسه.
هل تفكر إسرائيل في إعادة احتلال غزة؟
في الثمانينات والتسعينات، وعمومًا في الحقبة التي تلت اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، كان الحديث الإسرائيلي عن الدولتين كبيرًا، ورأت النخبة الإسرائيلية أن هذا الحل كان لصالح إسرائيل في المقام الأول لعوامل متعددة، منها أن المجتمع الإسرائيلي عمليًا هو أقوى في الاقتصاد والعلم والسياسة والجيش والفكر من المجتمع الفلسطيني؛ فيكون حل الدولتين مقدمة لسيادة معنوية وحضارية لإسرائيل في المستقبل، ومن تلك الزاوية وافقت إسرائيل على اتفاقية أوسلو عام 1993م.
لكنه ومنذ اغتيال رابين سنة 1995 وبدء صعود اليمين الديني الصهيوني، بدأت إسرائيل في التفكير بطريقة مختلفة؛ فالتفوق الحضاري لإسرائيل سيواجه عقبة كبيرة في حال نمو العرب والفلسطينيين في الداخل عدديًا، ومعدل التكاثر العربي أكبر من اليهودي؛ فما الذي ستفعله الحضارة في وجه هذا الغول السكاني الكاسح والمُحمل بأفكار قديمة ومتخلفة – حسب وجهة نظرهم؟
في تقديري أن الأزمة أكبر وأعقد مما بدا منها في الظاهر؛ فنتنياهو يدخل هذه المعركة بمنطق أكون أو لا أكون، وكذلك المقاومة الفلسطينية، ومثل هذه المعارك يصعب فيها الوصول إلى اتفاق
John Doe Tweet
من تلك الزاوية بدأ الحديث الإسرائيلي عن انسحابهم من المناطق التي لا يشكلون فيها أغلبية أو عددًا مقبولاً، أو من المناطق التي يصعب فيها الدفاع عن المستوطنين، ولذلك كان قرارهم الشهير أولا بالانسحاب من جنوب لبنان سنة 2000، ثم الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، لكنهم لم ينسحبوا من الضفة، لأن أعداد اليهود المستوطنين هناك بلغت مئات الآلاف من جانب، ولأنه يسهل الدفاع عن تلك المستوطنات في الضفة من جانب آخر، وقد سبق القول في مقالات سابقة على مواطن بأن العقيدة الإسرائيلية في بناء الدولة قائمة على الاستيطان والأمن معا؛ فإذا انهار أحدهما انهارت الدولة، ومن هذا المنطق كان يوم 7 من أكتوبر لديهم كارثيًا، لأنه ضرب أحد أهم قوائم دولتهم وهو الاستيطان.
نفهم من ذلك أن العقيدة الإسرائيلية الحاكمة منذ اغتيال رابين، والتي يتصدرها بنيامين نتنياهو واليمين الديني الصهيوني الحاكم حاليًا، تدرك جيدًا عدم جدوى احتلال غزة من جديد، أو بناء مستوطنات فيها، إلا إذا تحقق هدف تهجير سكان القطاع إلى سيناء أو النقب، وبعد رفض مصر المطلب الأول، ربما يعمل الإسرائيليون على الثاني، وهو الذي نادى به كوشنر صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أحد فيديوهاته مؤخرًا.
إنما يبدو أن هذا المطلب هو الآخر يمر بعقبات دولية؛ حيث رفضته الولايات المتحدة الأمريكية أبرز حلفاء إسرائيل والداعم الرئيسي والممول لها بالسلاح والمال، ومن تلك الزاوية تدور الخلافات والعقبات والصراعات فيما يسميه نتنياهو (اليوم التالي)، والذي يقصد به فور القضاء على سلطة حماس بغزة فماذا سيكون مستقبل القطاع؟ فالدول العربية جميعها ترفض التدخل في حكم غزة بأي شكل، والسلطة الفلسطينية ورغم مواقفها الأخيرة ضد حماس ليست مستعدة لقبول هذه المهمة، كونها تصبح كمن جاء ليحكم الفلسطينيين على ظهر دبابة إسرائيلية، مما يعرضها لعمليات انتقامية من الشعب هناك، ولغضب كبير من الرأي العام العربي والإسلامي.
ولذلك لخص الرئيس الفلسطيني أبو مازن أسباب رفض عودة السلطة لحكم غزة بضرورة تحقق ثلاثة شروط، هي وقف الحرب نهائيًا، إدخال المساعدات، منع التهجير، ولأنه يعلم أن التهجير هدف إسرائيلي وراء الهجوم على غزة؛ فكان كمن وضع العقدة في المنشار. ولأن نتنياهو لا يعترف بالسلطة الفلسطينية هو الآخر ويراها أحد أخطاء أوسلو، وهذا الرأي الإسرائيلي لحكومة نتنياهو يفسر رفضهم لحل الدولتين واعتبار أن فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، يجب أن تبقى في يد اليهود، أو لليهود السلطة الأمنية العليا عليها.
مستقبل المفاوضات
لا يمكن عزل مستقبل التفاوض عن النقاط السابقة؛ فما ناقشناه في هذا المقال يمثل جذرًا ومصدرًا لاحتمالية نجاح أو فشل التفاوض، ويرسم معايير وعقائد كل طرف، ويضع في مقابل ذلك مصالح الطرفين على المائدة؛ خصوصًا إسرائيل بوصفها الطرف الأكثر تضررًا من الأزمة الإنسانية.
ففي الأيام الأخيرة بدت كثير من التفاصيل موضع خلاف نقلتها وسائل الإعلام، ويبدو منها أن الاحتلال ما زال يصر على استخدام ورقة الجوع والتشرد كسلاح في التفاوض للضغط على حماس، وهو ما يمثل مرجعية لحماس بنفس الوقت للضغط على إسرائيل، وهي مفارقة عجيبة، هي التي عطلت الوصول إلى الهدنة في الأسابيع الماضية؛ فكيف يستعين كل طرف بشيء هو عنده ميزة وعيب في ذات الوقت؟ ولمزيد من توضيح هذه النقطة؛ فاستخدام إسرائيل سلاح الجوع والتشرد كأداة ضغط في التفاوض، من وجهة نظرها يسرع ذلك في ابتزاز حماس، لكنه من وجهة نظر حماس والرأي العام الدولي يضعف إسرائيل ويضعها في خانة مجرم الحرب أيضًا، ويساعد أكثر في إدانتها بمحكمة العدل الدولية.
بينما -في المقابل- تظن حماس أن الأزمة الإنسانية والمجاعة تضعف إسرائيل، وتستند على حجية الرأي العام الدولي مؤخرًا، والذي انقلب على إسرائيل عاطفيًا، لكن في ذات الوقت لا تنتبه أن هذه الأزمة والمجاعة قد تضعها في مواجهة مع الشعب الفلسطيني مستقبلاً إذا ما تبين أنانية الحركة وانطلاقها من مرجعية إخوانية ضيقة، لذا فهي مطالبة -لتلافي هذا المصير- أن تقدم مشروعًا فكريًا كبيرًا للمراجعة الذاتية، تتخلى فيه عن عباءة الإخوان والفكر الديني المتشدد، وأن يتضمن المشروع الجديد أفكارًا عصرية ومدنية أكثر رحابة وسعة لكل فئات الشعب الفلسطيني الذي دفع الثمن في غزة.
وفي تقديري أن الأزمة أكبر وأعقد مما بدا منها في الظاهر؛ فنتنياهو يدخل هذه المعركة بمنطق أكون أو لا أكون، وكذلك المقاومة الفلسطينية، ومثل هذه المعارك يصعب فيها الوصول إلى اتفاق؛ خصوصًا في ظل حالة الاستقطاب الدولي التي يعيشها العالم بفعل الصراع في أوكرانيا واحتمالية الصراع في تايوان.
فلن تتخلى حماس عن فكرة استقلال فلسطين وربط الضفة بغزة، وعدم الفصل بينهما مثلما كان يفعل نتنياهو في السنوات السابقة؛ حيث جرى العرف أنه حين تصعد إسرائيل في الضفة الغربية تمتنع فصائل غزة عن الرد، لكن هذا أصبح من الماضي عند المقاومة؛ فأي اعتداء على فلسطيني الضفة هو اعتداء صريح ومباشر على غزة، كذلك فحكومة نتنياهو لن تتخلى عن إضعاف أو نزع سلاح غزة؛ سواء حدث ذلك بالحرب أو اتفاقية سلام، كي لا تصبح غزة منصة انطلاق لتهديد المستوطنات وإسرائيل مرة أخرى، وهذا مقصدهم الأساسي من وراء شن حرب كبيرة بهذا الحجم لدرجة تهورهم في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
ولأن اتفاق السلام الذي ينشده الإسرائيليون لا يتضمن استقلالاً لفلسطين أو اعترافًا بحل الدولتين؛ فهو أشبه باتفاق خضوع وخنوع، تصبح فيه إسرائيل هي الحاكم الأوحد، وبالطبع لن يقبله الفلسطينيون، لذلك نقول إن الأزمة معقدة، وإن الحل الوحيد فيها هي الحرب وإن طالت لسنوات؛ فالمنطقة يبدو أنها تستعد جيدًا لمعركة طويلة عبر ما يعرف “بوحدة الساحات”، التي دعت فيها الكثير من الأحزاب والتيارات العربية – كالحوثيين وحزب الله – إلى شن عمليات ضد إسرائيل بشكل يومي، وربط منجزاتهم في هذه العمليات برغبة المقاومة في الحل، وعدم الفصل بين ما يحدث في شمال إسرائيل وفي البحر الأحمر، وبين ما يحدث في غزة، وأن اتفاق وقف إطلاق النار أو أي هدنة يجب أن يتضمن هذين الملفين تحديدًا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.