منذ عقود، والعراقيون يعانون من أزمة حقيقية في الحصول على المياه النظيفة للشرب، تلك المشكلة التي أخرجت آلاف العراقيين إلى ساحات الاحتجاجات عام 2019، إضافة إلى مطالب بتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل. وفي أغسطس العام 2018، عانى المواطنون في مدينة البصرة نتيجة تسممهم بمياه الشرب الملوثة، وخلال أيام قليلة، وصل عدد الذين تسمموا بالمياه إلى أكثر من 110 ألف حسبما أفادت به مفوضية حقوق الإنسان في البصرة.
لم تنجح الحكومات المتعاقبة منذ غزو العراق عام 2003، في تحسين شبكات إمدادات المياه، أو إنشاء محطات تحلية للمياه بتقنيات حديثة؛ بل مازالت تعتمد بشكل كبير على شبكات نقل المياه القديمة المتهالكة بسبب عمرها الطويل، وتأثير الحروب والصراعات على واقع البنى التحتية في عموم البلاد، إضافة إلى التوسع العمراني والنمو السكاني مع البناء العشوائي دون تخطيط أو تأسيس لشبكات الصرف الصحي؛ فزاد الضغط على الشبكات القديمة منتهية الصلاحية.
كل تلك العوامل، أدت إلى قلة جودة المياه الواصلة إلى المنازل؛ ما أجبر المواطنين على شراء مياه الشرب من صهاريج المياه الجوّالة في الشوارع، والتي تأتي بالمياه من محطات تنقية المياه الأهلية، أو يشترون قناني المياه من المحال التجارية القريبة من المنزل من أجل تأمين مياه الشرب، في بلدٍ غني بالموارد الطبيعية ووجود نهري دجلة والفرات، لكنّ على ما يبدو أن نعمة هذين النهرين أصبحت نقمة على أهله، بعدما قامت دول المنبع بتقليل حصة العراق المائية، ما أدى إلى انخفاض مستوى المياه، مسببًا حالة جفاف يعاني سكان العراق تبعاته.
لنتعرف عن أزمة مياه الشرب عن قُرب، التقت “مواطن” بالمواطن “أبو سيف”، 62 عامًا، من سكان محافظة البصرة جنوبي العراق، وهو واقف ينتظر صهريج (سيارة نقل) الماء، وتحدث عن رحلة معاناته اليومية في تأمين مياه الشرب و ملئ خزان المياه الذي يستخدمه في منزله مع عائلته المكونة من 8 أفراد، وقال: “نحن نشتري أسبوعيًا طنين من المياه، وهي لا تكفي للشرب والطبخ والسباحة، لكن لا يمكننا دفع مزيد من الأموال لشراء المياه”.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت كل من تركيا وإيران في إنشاء سدود عملاقة في أراضيها لحجز المياه الواصلة للعراق؛ حيث شيدت تركيا وحدها قرابة 22 سدًا و19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في تسع محافظات تركية
John Doe Tweet
ويشتري أبو سيف أسبوعيًا طنين من المياه بمبلغ 12 دولارًا أميركي، أي ما يعادل 48 دولارًا شهريًا، ويزداد استهلاكه للمياه، بحسب ما قاله، خلال فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة.
وأضاف أبو سيف: “إن معاناتنا في تأمين مياه الشرب هي معاناة مستمرة منذ سنوات عديدة ماضية؛ حيث المياه الواصلة للمنزل عبر شبكات مياه الإسالة لا تصلح للشرب، ولا حتى للطبخ أو السباحة، وللأسف، نحن نعيش في بلد يطلق عليه بلاد ما بين النهرين، والنهران لا نجني منهما أية فائدة.”
وأكمل حديثه: “المياه، شريان الحياة، نحن محرومون منه. تخيل، أنك تحرم من أبسط حقوقك في هذا البلد الغني، وهي الحصول على مياه نظيفة للشرب”.
الأوضاع نفسها في سائر المدن العراقية؛ حيث يعتمد المواطنون على شراء المياه من عدة مصادر متنوعه؛ فمنهم من يشتري المياه من صهاريج بيع الماء، أو من المحال التجارية القريبة من المنازل، لكن ذلك الأمر ليس متاحًا للجميع؛ فكثير من الأهالي، وخصوصًا في المناطق الفقيرة، يعجز سكان تلك المناطق عن دفع تكاليف تأمين مياه الشرب، ما يجبرهم على شرب المياه من الصنبور، وهي لا تصلح للشرب، مما يُعرّضهم لمخاطر صحية جسيمة.
داوود الفرطوسي، الذي يسكن مدينة البصرة، 46 عامًا، تحدث إلينا، قائلًا: “إن المياه التي تصل إلى منزلي عن طريق شبكات إمدادات المياه هي مياه ملوثة تأتي من مياه الشط، دون أن تمر بمرحلة تنقية حقيقية؛ فهي مياه لا تصلح لأي إستخدام كان؛ فمن المعتاد شراء المياه من عدة مصادر حتى نؤمن على صحتنا.”
ثمة أسباب حول عدم توفر مياه الشرب للمواطنين، منها: قدم البنية التحتية لشبكات المياه، ما يؤدي إلى تسرب المياه وتلوثها، ونقص الصيانة لمحطات تنقية المياه وقِدم تلك المحطات، وتعرض الأنهار إلى التلوث من قبل المصانع والمزارع، وعدم منح العراق استحقاقه من المياه من قبل دول المنبع (تركيا وإيران)، وتهالك شبكات إمدادات المياه الواصلة إلى المنازل، والتي تم إنشاؤها منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ فجميع تلك العوامل تحول دون توفر المياه الصالحة للشرب من الصنبور.
تحاول الحكومة المحلية في مدينة البصرة، استنساخ تجربة دول الخليج في تحلية مياه البحر للحصول على مياه صالحة للشرب في السنوات المقبلة؛ حيث تقع مدينة البصرة على الخليج العربي، الذي تعتمد عليه دول خليجية عدة في تصفية مياهه.
يقول معاون دائرة ماء محافظة البصرة ورئيس المهندسين أقدم ميثم جار الله الفرطوسي: “نعمل في الوقت الحالي على إنشاء محطة تحلية لمياه البحر، من خلال استخدام تقنية التناضح العكسي، كما هو الحال في سائر دول الخليج ودول مجاورة أخرى، ومن خلال هذا المشروع، سوف نحصل على مياه شرب جيدة، وبمعدلات تركيز ملحية لا تتجاوز 500 جزء بالمليون، مياه عذبة ومعقمة وصالحة للاستخدام البشري”.
بين عامي 1984 و 2015، انخفضت مساحة المياه الدائمة في العراق بمقدار الثلث، وكل ذلك بسبب تأثير تلك السدود المقامة عند دول المنبع
John Doe Tweet
يعتمد العراق على المياه القادمة من تركيا وإيران؛ حيث ينبع نهرا دجلة والفرات من الأراضي التركية، يدخل نهر دجلة إلى العراق من منطقة أقليم كردستان العراق، أما نهر الفرات، فيمر من تركيا إلى الحدود السورية، ومن ثم إلى العراق من منطقة القائم، ويلتقيان ليكونا شط العرب في مدينة البصرة، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت كل من تركيا وإيران في إنشاء سدود عملاقة في أراضيها لحجز المياه الواصلة للعراق؛ حيث شيدت تركيا وحدها قرابة 22 سدًا و19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في تسع محافظات تركية، ضمن مشروع أطلق عليه مشروع جنوب الأناضول GAP، الواقع في المنطقة الجنوبية الشرقية لتركيا.
أما إيران؛ فعمدت إلى قطع 40 نهرًا ورافدًا كانا يصبان في العراق، منها نهر ديالى وأرفاند والزاب الكبير والزاب الصغير، وهي مياه دولية عابرة للحدود، لكن لم تراع الأخيرة المواثيق والمعاهدات الدولية في حق مشاركة المياه مع الدول المتشاطئة، إضافة إلى حرفها مسار بعض تلك الأنهر باتجاه أراضيها وحرمان العراق منها، على الرغم من مطالبة الأخير كلتا الدولتين بضرورة المشاركة العادلة للمياه وتقاسم الضرر، إلا أن طلب العراق لم يلق آذانا صاغية.
ومع استمرار كل من تركيا وإيران (دولتي المنبع) بإنشاء السدود وقطع جريان المياه نحو العراق، يزداد الخطر على البلاد، وسط عدم اتخاذ خطوات مؤثرة من قبل الحكومة العراقية في تفاوضها مع دول المنبع؛ ما ينذر بتحول أنهار العراق إلى أراضٍ جرداء يابسة، وموت الزراعة وتوقف عدد من محطات توليد الكهرباء التي تعتمد على المياه في توليد الطاقة.
ويقول مدير معهد الشرق الأوسط في كلية لندن للإقتصاد، الأستاذ مايكل مايسون، لـ”مواطن”: “إن بناء السدود في بلدان المنبع ستؤدي إلى تقليل وفرة المياه في العراق. بين عامي 1984 و 2015، انخفضت مساحة المياه الدائمة في العراق بمقدار الثلث، وكل ذلك بسبب تأثير تلك السدود المقامة عند دول المنبع، ويعني هذا أن تدفقات المياه نحو العراق ستقل بشكل كبير”
وقد أوصى مايسون، بضرورة إعطاء الأولوية في مشاريع الحكومة العراقية لمشاريع البنية التحتية التي تحسن حالة الأمن المائي، وإعادة تأهيل سد الموصل، وبناء محطة تحلية المياه في الفاو (جنوب العراق)، فيما أضاف إلى أنه، -وعلى المدى البعيد- بضرورة إعادة التفاوض مع دول المنبع لرسم معاهدة مياه عادلة ومستدامة على نطاق الحوض مع تركيا وسوريا وإيران.
وأكد مايسون: “يجب أن يتدخل المجتمع الدولي وبشكل عاجل، لوقف الممارسات التركية والإيرانية الحالية، والتي تنتهك القانون الدولي للمياه”.
ويطالب العراقيون، ومنهم سكان محافظة البصرة، الحكومة العراقية والجهات ذات العلاقة بضرورة إيجاد حلول سريعة وجذرية لأزمة المياه، من خلال إصلاح البنية التحتية، وإنشاء عدد من المحطات ذات مواصفات عالمية، وتحسين إدارة ملف الموارد المائية في البلاد، ما يضمن تأمين مياه الشرب إلى جميع الأفراد، لينعموا بخيرات بلدهم التي حرموا منها طوال سنين.